مع حلول الذكرى الـ9 لثورة 25 يناير 2011 تتواصل التغييرات العمرانية بميدان التحرير (أيقونة الثورة) وذلك ضمن مساع حثيثة من أجل طمس هويته ورمزيته الثورية، تلك الرمزية التي اكتسبها بصفته الفضاء العمراني الذي احتضن الثورة المصرية، ففي باحة ذلك الميدان وعلى مدار 18 يومًا أسقط المصريون نظام الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك.
ورغم شبح الموت الذي أطل على الثوار متجسدًا في معركة الجمل، فإنهم سجلوا يوميات الثورة في التحرير على جدران الجامعة الأمريكية ولكن بدأ العد التنازلي لحلم الثوار سريعًا للغاية حين تدخل الجيش في الثورة المصرية وأحدث انقسامات سياسية بين رفقاء الميدان، حينها خفتت رمزية الميدان قليلًا لتعود بقوة بعد ذلك في منتصف عام 2012، وذلك حين أدى الرئيس السابق محمد مرسي القسم أمام رفاق الميدان وثواره في استعادة لروح الثورة ومسارها، ولكن مرت سنة حكم الرئيس محمد مرسي، ومنذ الانقلاب العسكري في 3 من يوليو 2013 وميدان التحرير يشهد سيطرة أمنية مكثفة على جميع مداخله ومخارجه.
الرمزية التاريخية لميدان التحرير في المخيلة الشعبية المصرية
لماذا ينساق المصريون بشكل عفوي لميدان التحرير تحديدًا من أجل التعبير عن أنفسهم؟ فثورة 25 يناير لم تكن الحدث السياسي الأول الذي انهمر فيه ملايين المصريين تعبيرًا عن احتجاجهم على سياسات الحكومة، والحقيقة أن الإجابة عن هذا التساؤل تحتاج العودة للتاريخ قليلًا، فبعد الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882 اتخذ الجيش البريطاني ميدان التحرير مقرًا لثكناته العسكرية، وكان موقع هذه الثكنات يشكل عقبة كبيرة أمام إمكانية امتداد النسيج العمراني من وسط البلد في اتجاه الغرب.
رأت سلطات الاحتلال البريطاني في موقع تلك الثكنات بقلب ميدان التحرير – الذي كان يسمى حينها ميدان الإسماعيلية – رمزًا للقوة العسكرية التي كان الاحتلال يفرضها على القصر والبرلمان المنتخب، وحين فشلت الحكومات المتعاقبة في إجبار الإنجليز على الانسحاب من مصر اندلعت المظاهرات الشعبية العارمة في 21 من فبراير 1946 التي عُرفت بـ”يوم الجلاء” وذلك لإجبار البريطانيين على الجلاء التام من وادي النيل، وانطلقت تلك المظاهرات من شبرا الخيمة مرورًا بالجيزة ولكنها انهزمت أمام الثكنات العسكرية بالميدان، إذ قابلتها قوات الإنجليز بوحشية غاشمة فانطلقت عربات الجيش من داخل الثكنات ودهست المتظاهرين وسقط حينها 24 قتيلًا وأكثر من 121 جريحًا.
وبعد إخلاء جيش الإنجليز للثكنات عام 1947 رفع الملك فاروق علم مصر على الميدان المحرر، وفي 4 من أبريل عام 1947 نشرت جريدة “المصور” تخيلًا للميدان وضعه مهندس التصميمات بوزارة الأشغال محمود ذو الفقار بك، وقالت الجريدة إن الملك قرر أن الثكنات سيحل محلها مبنى جديد للبرلمان كما ستُنقل رئاسة مجلس الوزراء وبلدية القاهرة للميدان، وأضافت الجريدة أيضًا أن الملك وضع في مخططه أنه بجانب المتحف المصري ستُقام المتاحف الآتية: متحف الفن الحديث ومتحف الفن الغربي ومتحف مختار ومتحف المدينة المصرية وصالة فاروق الأول الكبرى للمعروضات وهكذا ستكون الحياة السياسية والفنية والاجتماعية المكونة للنسيج المصري مجتمعة كلها في مكان واحد وبذلك ستجتمع للسياح فكرة واضحة عن مصر بمجرد زيارة الميدان.
ميدان التحرير هو مكان يتجلى فيه بشدة صراع المصريين مع السلطات السياسية، بداية من الاحتلال البريطاني ومرورًا بنظام يوليو
لكن هذه الرؤية للميدان تبخرت بعد سيطرة العسكر على الحكم إثر انقلاب 1952، إذ تخلى العسكر عن المخطط السابق برمته وقرروا عوضًا عن ذلك بناء فندق عالمي من أجل جذب السياح وهو فندق النيل هيلتون وبعد ذلك بسنوات قليلة قرروا بناء مقر جديد لجامعة الدول العربية جنوب الفندق، وإضافة إلى تلك المباني الجديدة قرروا إقامة عروضهم العسكرية في الميدان الذي سمي بميدان التحرير عقب توقيع اتفاقية الجلاء خلال عام 1954.
وفي يناير 1953 أقام العسكر مهرجان الثورة احتفالًا بمرور ستة أشهر على ثورتهم المباركة ومن قلب الميدان ألقى محمد نجيب بيان إلغاء الأحزاب السياسية، ولكن الجموع رفضت هذا البيان واضطرت قوات الشرطة للتدخل لحماية محمد نجيب حتى يخرج سالمًا من الميدان ومن يومها قرر العسكر نقل احتفالاتهم لميدان الجمهورية، فمن هناك خاطب عبد الناصر الشعب في مناسبات عديدة.
وهكذا يتجلى لنا أن ميدان التحرير مكان يتجلى فيه بشدة صراع المصريين مع السلطات السياسية، بداية من الاحتلال البريطاني ومرورًا بنظام يوليو الذي أجبروه على عدم استخدام الميدان ولكنه سيطر على إرادة المدنيين، حيث أقام الجزر العازلة التي تحد من تجمع البشر وحوله إلى تقاطع طرق السيارات ولكن جاءت ثورة 25 يناير لتزعزع كل الجهود العسكرية للتحكم في الناس ولتؤكد أحقيتهم في الميدان، ولكن النظام العسكري المصري عاد بشكل أكثر وحشية وهو ما تجلى في نظام 3 من يوليو 2013.
مراحل تغير ميدان التحرير بعد الانقلاب العسكري 2013
خلال تسع سنوات هي عمر الثورة المصرية، شهد ميدان التحرير العديد من التغييرات التي هدفت إلى طمس معالمه، البداية كانت من مسح رسوم جرافيتي مبنى الجامعة الأمريكية بشارع محمد محمود، فتزامنًا مع ذكرى أحداث محمد محمود في كل عام التي توافق يوم 19 من نوفمبر طمس أشخاص مجهولو الهوية رسومات وجداريات المبنى، ورغم أن محاولات مسح جداريات الثورة قد تنجح ظاهريًا، فإنها لن تنجح في طمس هوية جيل بأكلمه قرر أن يرسم أحلامه ورؤيته للواقع المصري على جدران ذلك الشارع المتفرع من ميدان التحرير، وما تلك الرسومات والجدرايات إلا قشور سطحية لما وقر في قلوب الثوار.
وخلافًا للمتاريس الأسمنتية التي أقامها المجلس العسكري عدة مرات أواخر عام 2011 وذلك بهدف منع المتظاهرين من الدخول للميدان، فبداية من عام 2014 أقامت حكومة الانقلاب العسكري بوابات حديدية بشارع القصر العيني المؤدي إلى الميدان وبوابات أخرى قرب وزارة الداخلية.
كما هدمت السلطات في يوليو 2015 مقر الحزب الوطني الرئيسي الذي أحرقه الثوار، ومنذ صيف 2013 والسلطات السياسية تغلق مداخل الميدان كافة مع كل دعوى احتجاجية أو إحياء ذكرى مناسبات ثورية، والحقيقة أن تلك التغييرات لم تشمل معالم ميدان التحرير فقط إذ طالت المارة أيضًا والزائرين، فقد عمدت السلطات السياسية أكثر من مرة إلى تفتيش المارة والمواطنين وكذلك مداهمة كل المقاهي الشعبية القريبة للميدان هذا بالإضافة إلى إغلاق محطة مترو أنور السادات المعروفة بمترو التحرير أكثر من مرة ضمن إجراءات منع التجمعات الاحتجاجية.
الذكرى التاسعة للثورة ونقل تماثيل كباش الأقصر لقلب ميدان التحرير
وفقًا للمتحدث باسم الرئاسة المصرية طلب الرئيس عبد الفتاح السيسي تطوير ميدان التحرير وإضافة لمسة حضارية في تصميمه وذلك من خلال نقل 4 تماثيل كباش من معبد الكرنك بمحافظة الأقصر لتزيين ميدان التحرير بجانب إحدى مسلات الفرعون رمسيس الثاني، وردًا على هذا التطوير توجه النائب المصري أحمد إدريس عضو لجنة السياحة والآثار بمجلس النواب ووزير السياحة والآثار خالد العناني ببيان عاجل إلى رئيس الوزراء مصطفى مدبولي يعترضون فيه على نقل التماثيل الأربع من معبد الكرنك إلى ميدان التحرير.
والحقيقة أن الاعتراض لم يقتصر على النائب والوزير، فهناك حالة شعبية من الغضب العارم انتابت أهالي الأقصر فور علمهم بخبر نقل التماثيل، ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد إذ اعترضت أيضًا منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “اليونسكو”، فطريق الكباش الذي تستقر فيه التماثيل المذكورة أحد أهم المواقع الأثرية في طيبة القديمة ويعود تاريخ إنشائه إلى أكثر من 3500 سنة.
وقد بعثت رئيسة المركز العربي للتراث العالمي التابع لمنظمة اليونسكو الشيخة مي بنت محمد آل خليفة رسالة رسمية إلى وزارة الآثار المصرية ذكرت فيها “لا يخفى على معاليكم أن أي تعديل على موقع بهذه الأهمية يجب أن يسبقه التشاور مع مركز التراث العالمي لليونسكو، وتقديم تقارير تقيم الأثر على الموقع ذاته، وغيرها من الأمور التي تنص عليها المبادئ التوجيهية التشغيلية لاتفاقية التراث العالمي”.
لم تبدأ دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي لتطوير ميدان التحرير إلا في أكتوبر الماضي، أي بعد شهر تقريبًا من اندلاع الاحتجاجات الشعبية الأكبر في عهد السيسي وذلك استجابة لدعوة المقاول المصري محمد علي، حيث استطاع المتظاهرون دخول ميدان التحرير للمرة الأولى منذ سنوات وهو الأمر الذي لم يستطع المتظاهرون تحقيقه حتى خلال الاحتجاجات المعارضة للتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية خلال عام 2016.