لا يخلو مجتمع مُسْتَضْعَف اليوم من منظومة تعليم يباهي بها المُستَبِدُ شعبه ويمن عليهم بها، فهو عمل جاهدًا -وبمكرمة مالية وتخطيطية منه شخصيًا – على إنشاء كل البنى المادية اللازمة للتعليم، وإعداد المناهج اللازمة لممارسة هذا النوع من الاستبداد الذي هو أضمن وسيلة لدوامه ودوام ملكه.
يكمن حرص المستبد على الإحاطة والإشراف المباشر على كل ما يخص التعلُّم والتعليم، بأن هذه المهمة هي التي تَكفُلُ له صنع العقول والقلوب المقولبة على هواه وأغراضه وأغراض من ورائه من طغاة الأرض المتحكمين به، لذا وجدناه على جهله وفراغ عقله وجفاف قلبه، يهتم بالعلم والتعلُّم والتعليم وكأنه من ذوي الرجاحة والحكمة في العقل والرأي، وما ذلك إلا ليضمن ألا يسبقه أحد إلى عقول النشء الذين قد يولد فيهم وريث نبوة، يوقظ الأمة ويرحل بها من وديان الضلال والفقر الروحي والمادي إلى الربوع الرحبة لإنسانية بناءة لا مكان للمستبد فيها ولا رزق يكفيه حتى الكفاف.
لقد رأى المستبد رؤيا عجيبة، أن أحد الفتية الناشئة، سيأتي بكلمة تهد عرشه وتزلزل مقامه وتحرمه الألوهية التي ورثها من حيث لا يدري، فقرر أنه يجب عليه – هو بنفسه – خلق تلك الكلمة وتعشيشها في عقول الناشئة، لكي تثمر ما يشتهيه ويستلذ به، والغريب أن المستضعفين يشاركونه ذلك بحكم طبيعة الأشياء غالبًا، إلا إذا جاء موسى آخر بعصا جديدة، تبطل سحر ما يلقيه المعلمون التقليديون، سحرة فرعون وهامان وقارون.
يحرص المستبد على تأسيس منظومة بناء الكلمة والفكرة والسيطرة عليها، لأنها جذر بناء النية التي قد يصعب السيطرة عليها إذا تفلتت الكلمات والفِكَر، ولكون الجذور مخفية تحت التراب، حرص كل مستبد على ضمان بذور تخرج جذورًا وسوقًا وثمارًا تُوظَّفُ كلها للتسبيح بحمده والتقديس له، لقد أهملوا دروس التاريخ وجهلوها، إلا درسًا واحدًا وهو الضربة الاستباقية لعدو داخلي أخطر بكثير من العدو الخارجي، وهو العقل والقلب.
يتصف التعليم الذي خصصه المستبد للمستضعفين بعدة صفات أهمها أنه تعليم وظيفي مهمته العمل ضمن مؤسسات مؤطرة مسبقًا بأطر المستبد، التي رسمها بعناية فائقة كي يحافظ على بقائه، ومن صفاته أنه يصنع عقلًا متَّبِعًا ومطيعًا، مُقَلِّدًا لا مبدعًا إلا ضمن الأُطر سالفة الذكر.
يتصف هذا التعليم بأنه ينمي الذكاء الاستعمالي الملموس النتائج وقريبها، ويغيِّب اكتساب الحكمة التي يميِّزُ بها الإنسان صالحه الحق من الباطل الخادم للعدو الظاهر والباطن. يتصف هذا التعليم ببناء الرغبات والطموحات المادية، والقدرات على تحقيقها، ويُغيِّبُ تمامًا فكرة الحرية التي لولاها ما كان للتعليم نفع ولا حاجة، تلك الحرية الخلاقة لكل نافع، القتالة لكل باطل ضار، ولكن هيهات أن يسمح مستبد بنطفة قد تقتل عشقه وهوسه وتغرقه في بحر يغيبه وجنده في ظلمات لا عودة منها.
يتصف التعليم هذا، بأنه يهتم بالمخرجات/النتائج المباشرة، ويهمل الآثار الارتدادية المباشرة وغير المباشرة، الإيجابية والسلبية قريبة المدى والبعيدة، وحصيلة كل ذلك مستبد غني ومجتمع فقير، ومؤسسات تعليم وجهل سائد، مشاف ومستوصفات وأمراض متزايدة، أعمال ومصانع ونهب ضائع، مؤسسات أمنية وخوف مستشرٍ بين الناس من المعلوم والمجهول، الكلُّ محتار وتائه، وكل ذلك نتاج تعليم مقولب اهتم بالنتائج المرسومة بخبث وغباء معًا، وأهمل آثارًا لا يهملها إلا كل مأفون عُتُلٍ زَنيم.
ومن صفات هذا التعليم، تغييب الأسئلة العظمى التي تبحث عن أصل الأشياء وفيها. فترى المُستَضعَفَ بعد تعلمه يحل المشاكل على مستوى الأعراض السطحية، وأحيانًا (عند من يسمونهم المبدعين من المستضعَفين) على مستوى إزالة أسباب المشكلات، وأبدًا لا يورث هذا التعليم قدرة على تغيير البيئات التي خلقت تلك الأسباب، حيث إن تغيير البيئة محظور على المستضعف، فقصارى تعليمه يمكِّنه من فهم ما تراه عيناه وتسمعه أذناه ويشمه أنفه، لا ما يجب أن تدركه روحه اللامتناهية.
تستمر المأساة عندما يسعى المستضعَفون لتعليم أبنائهم، فهم يرضعونهم منذ الصغر نفس العقل الذي تعلموه، ونفس الخلق الذي ورثوه، ونفس المنظومة القيمية التي خدموها طيلة أعمارهم
على ذكر الروح اللامتناهية، يتصف تعليم المستضعَف بالتركيز على الملموس المباشر، فهو يدرك الترابط بين السَّبَب والمسَبِّبِ والنتيجة، إذا كانا ملتصقين ببعض زمانيًا ومكانيًا فقط، أما إذا تفرقا – لسبب طبيعي أو مقصود غير بريء – فشبه محال على المستضعف أن يدرك هذا الترابط، وبالتالي تجد نتائج تعلُّمه غير مؤثرة في أرض الواقع، بل تكرس القائم المخطط المرسوم من المستبد الأبله هو الآخر.
الغريب أنَّ المستضعَفَ بعد أن يتعلم – هذا إذا تعلم – يبدأ بجني ثمار مادية يخزنها على شكل أوراق نقدية أو ممتلكات عقارية أو أشياء استعمالية ضرورية وكمالية وحتى افتخارية، وكل هذه يشرف على تخزينها ويحيط بها ويستثمرها المستبد الذي ظن المُسْتَضعَف أنه ربما يتحرر منه بهذه الثمار، وعندما تحين ساعة الحقيقة، يكتشف المسكين أن ليس له من الأمر شيء، فهو عمل وكدح وأنتج وساهم في تقويه صرح الاستبداد لا غير، ولكن هيهات أن يفهم، فتعليمه لم يُعدُّه لذلك.
تستمر المأساة عندما يسعى المستضعَفون لتعليم أبنائهم، فهم يرضعونهم منذ الصغر نفس العقل الذي تعلموه، ونفس الخلق الذي ورثوه، ونفس المنظومة القيمية التي خدموها طيلة أعمارهم، يبرمجون أبناءهم على تقديس تعليم يخلق فائض القيم المادية، وما شعروا أنهم يخلقون جيلًا جديدًا من العبيد المستذَلِّين، كيف يحدث هذا؟ إنها مخرجات التعليم أيها البائس.
يقودون أبناءهم إلى التهلكة، كما فعل بهم آباؤهم الذين قادوهم إلى المدرسة والجامعة التي ما كبَّلت أيديهم ولا كممت أفواههم، ولكن صبغت عقولهم بصبغة الذل ونزعت من أدمغتهم مفاعل الكرامة وأطفأت في أرواحهم شعلة الارتقاء والمعالي.
رغم كل ذلك، دائمًا يتربى في بيت فرعون موسى جديد، يرفع عصاه ويهوي بها فيشق بحر الظلام فيبزغ النور الذي يشعُّ فيبهر أنظار المُستضعَفين بعد أن يوقظهم من سباتهم الطويل، ولكن للأسف – غالبًا – يكون عدد القائمين من المستيقظين قليلًا، فالتعليم خدرهم وشلَّ أطرافهم وشرَّبهم حب السلامة والخمول والذل.
هل من مخرج من هذا التيه؟ نعم بشرط أن يتحرر بعضنا من براثن منظومة التعليم ومخرجاتها الخُلقية والقيمية، ويقبلوا أن يغامروا بالمردود المادي الاستعبادي الذي فرضه عليهم لا لهم المستبد المتحكم أولًا بالتعليم، والباقي تحصيل حاصل.