أهداف الانتفاضة السودانية تصطدم بعودة الاقتتال القبلي

الاقتتال القبلي يهدد الثورة السودانية

ما يكاد الوسطاء يتوصلون إلى اتفاق بين أطراف الصراع في منطقة معينة في السودان، حتى تشتعل منطقة أخرى، فالصراعات والاقتتال القبلي متفجر في أقاصي شرق وغرب البلاد الذي يأمل أبناؤهم في مستقبل ينسيهم قليلًا ماض أليم.

حروب وعنف واقتتال قبلي في وسط وشمال وشرق هذا البلد العربي الواقع في شرق إفريقيا، راح ضحيتها المئات من القتلى والجرحى وتسببت في نزوح الآلاف من العائلات، لتكون بمثابة حجر عثرة أمام أهداف الثورة التي يحتفل السودانيون بذكراها الأولى هذه الأيام.

اقتتال قبلي متواصل

آخر عمليات الاقتتال القبلي عرفتها مدينة بورتسودان شرقي العاصمة السودانية الخرطوم (عاصمة ولاية البحر الأحمر)، التي راح ضحيتها 15 قتيلًا وأكثر من 111 مصابًا، بحسب بيانات لجنة أطباء السودان المركزية (تتبع تجمع المهنيين أحد أبرز مكونات قوى إعلان الحرية والتغيير قائدة الحراك الاحتجاجي بالبلاد).

ودارت هذه الأحداث الدامية بين قبيلتي بني عامر والنوبة، وتخللت أحداث العنف أعمال حرق ونهب واسعة بين الطرفين، ما يؤكد فشل اتفاق الصلح الذي أبرم بين الطرفين في أغسطس/آب الماضي، عقب الاشتباكات بينهما التي أدت بدورها إلى مقتل العشرات وإصابة المئات وحرق المنازل.

يعتبر الاقتتال القبلي أحد سمات السودان، فلا تمر فترة صغيرة إلا ويحدث صراع بين مجموعة من القبائل نتيجة أسباب عدة ومختلفة

بدأت المواجهات الدامية، عقب أداء صلاة الجمعة في عدد من الأحياء الجنوبية للمدينة بين مجموعتين من القبيلتين على خلفية مقتل أحد المواطنين في منطقة السوق الكبير، قبل ليلة من ذلك التاريخ، وفق تقارير إعلامية سودانية.

يعود جذور الخلاف بين قبيلتي بني عامر والنوبة إلى عصر الإنقاذ، حيث نشبت العديد من الخلافات التي تطورت فيما بعد إلى صراعات وتحرشات فيما بينهما، إلا أن احتواءها من الحكومة قبل تفاقم الأوضاع كان السيناريو المعتاد، غير أنه كان احتواءً مؤقتًا لم يرتق إلى درجة حل الأزمة جذريًا.

العنف لم يقتصر على مدينة بورتسودان، فقبل ذلك شهدت مدينة الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور السودانية، نهاية شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعمال عنف واقتتال قبلي، أسفرت عن مقتل 54 شخصًا و60 مصابًا، إضافة لنزوح نحو 40 ألفًا، ما أدى إلى نشر تعزيزات عسكرية في المدينة.

كعادة الحروب القبلية في دارفور، بدأت هذه الأحداث بمشاجرة عادية بين شباب من المساليت والعرب في نادي مشاهدة بالجنينة الواقعة على بعد 12 كيلومترًا من الحدود مع تشاد، وتطور الموقف وأسفر عن مقتل ثلاثة من شباب القبائل العربية قرب معسكر “كريندينق” للنازحين (يأوي آلاف النازحين من قبيلة المساليت).

عقب ذلك تسلح العرب وهاجموا معسكر “كريندنق”، حيث تم إحراقه وتشريد النازحين، وأدى عدم تدخل الشرطة والجيش على مدى ثلاثة أيام من المعارك إلى اتساع دائرة المشاجرة وتحولها إلى صراع قبلي ومعارك دامية بين قبيلتي “المساليت” و”العرب”.

أهداف الثورة على المحك

من ديسمبر 2018 وطيلة الأشهر التي تبعته، تعالت هتافات المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية في مختلف مدن وقرى السودان مطالبة بالحرية والعدالة والسلام، وسط حماس يتصاعد بشكل مثير للدهشة.

فهؤلاء كانوا يطالبون بسقوط نظام عمر البشير الذي ساهم في تأزيم وضع البلاد طيلة العقود التي حكم فيها السودان، حتى يتسنى لهم العيش بحرية في بلد عادل لا تفرقة ولا تمييز فيه، وفي سلام لا تنغصه أحداث العنف والصراعات وعمليات التمرد والاقتتال القبلي.

ويرى العديد من السودانيين أن وقف الحرب وتحقيق السلام في مختلف مناطق البلاد، أحد أبرز أبواب بناء الدولة الديمقراطية، والتحول إلى الدولة المدنية الديمقراطية التي تتحقق فيها سيادة حكم القانون والمواطنة المتساوية والحكم الراشد لتحقيق الأمن والتنمية الاقتصادية.

رغم توقيع الإعلان الدستوري والاتفاق على الحكم بين المدنيين والعسكر، يخشى السودانيون من انقلاب المجلس العسكري على تعهداته

يذكر أن الاقتتال القبلي يعتبر أحد سمات السودان، فلا تمر فترة صغيرة إلا ويحدث صراع بين مجموعة من القبائل نتيجة أسباب عدة ومختلفة، كما يوجد في هذا البلد العربي إقليمان تحت سيطرة جزئية من الحركات المسلحة، وسبق أن قتل مئات الآلاف في هذه النزاعات ونزح ملايين من دارفور والنيل الأزرق وكردفان، ولا يزال مئات الآلاف يعيشون في مخيمات إيواء بائسة.

هذه الأحداث، وفق كثير من السودانيين، عبارة عن حجر عثرة أمام تحقيق أهداف ثورة بلادهم، فلا حرية ولا عدالة في ظل انعدام الأمن والاستقرار وتواصل الاقتتال القبلي بين مختلف المجموعات المكونة للمجتمع السوداني، ما يستوجب ضرورة حلها جذريًا.

دور العسكر في تأجيج الوضع

هذه الأحداث الدامية المتكررة في مناطق مختلفة من السودان لها أسباب عدة من بينها رغبة الأطراف الحاكمة في زرع المشاكل والصراعات القبلية وافتعال الحروب الأهلية، وفق الناشط السياسي السوداني عمار النوراني، عملًا بمنطق فرق تسد.

وتسعى بعض الأطراف، إلى إفشال الثورة بخلق الحروب القبلية والفتن والانفلاتات الأمنية، ليظهر العسكر في ثوب الراعي والمنقذ للوطن وإحكام قبضته على مفاصل الدولة من جديد، وفق قول عمار النوراني في تصريح لنون بوست، ويتبين ذلك من خلال تغليب القوى الأمنية في العديد من الوقائع، وفق محدثنا، لأحد أطراف الصراع على حساب الطرف الآخر، ومن ثم تغليب الطرف الخاسر حتى يتواصل الاقتتال بينهما ويحصل الشقاق وتشتد التفرقة بينهم.

يقول النوراني إن المؤسسة العسكرية تسعى لخلق حالة من الفوضى لتشويه الحكومة المدنية لجعل المواطن يتمنى الأمن والاستقرار بأي شكل من الأشكال، لتقوم المؤسسة العسكرية ممثلة في قوات الدعم السريع خاصة بحسم الفوضى والانقلاب علي الحكومة المدنية أو تعجيل الانتخابات.

رغم توقيع الإعلان الدستوري والاتفاق على الحكم بين المدنيين والعسكر، يخشى السودانيون من انقلاب المجلس العسكري على تعهداته ولا يسلم الحكم لسلطة مدنية وأن ينتهج سياسة المماطلة لكسب المزيد من الوقت حتى يستعيد السيطرة على الأوضاع.

وكان المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير قد أعلنا في 5 من يوليو من السنة الماضية التوصل – عبر وساطة إثيوبية – إلى اتفاق لتقاسم السلطة خلال فترة انتقالية حُددت بثلاث سنوات وثلاثة أشهر، حيث تم تحديد نسبة كل طرف في المجلس السيادي، بجانب المجلس التشريعي تمهيدًا لإجراء انتخابات بعد انتهاء تلك الفترة، إلا أن العديد من السودانيين يشككون في تعهدات العسكر نظرًا لتاريخهم معهم.

ويتذكر السودانيون مجزرة القيادة العامة، ففي الوقت الذي كان فيه عبد الفتاح البرهان ورفاقه يؤكدون دعمهم الكامل للثوار كان نائبه حميدتي وقواته يخططون لفض الاعتصام بالقوة، وهو الأمر الذي لم ولن ينساه السودانيون.