“3 ساعات كاملة أتجول فيها بين مستشفيات جامعة المنصورة (شرق) وبنوك الدم للحصول على كيسين دماء لأخي المحتجز في غرفة العمليات بالطوارئ، ورغم ذلك فشلت في إيجاد كيس واحد، وبعد سؤال هنا وهناك دلني أحد المسعفين بالمشفى على مكان لبيع الدماء في شارع الشيخ حسنين بوسط المدينة لأحصل على الكيس الواحد بـ1000 جنيه”، بصوت يخنقه الألم قص أحمد تجربته في الحصول على الدم اللازم لإجراء عملية شقيقه الذي جاء للمستشفى عقب حادث مروري.
أحمد الذي لم يبلغ من العمر 30 عامًا بعد فجر خلال حديثه لـ”نون بوست” براكين الغضب مما واجهه من متاعب من أجل الحصول على كيس الدم، مضيفًا “حياة أخي كانت على المحك.. مستشفى بأكمله لا يوجد به كيس دماء واحد”، وتابع “المستشفى تركنا لتجار الدم في الشوارع ليبيعوا ويشتروا فينا.. نتبرع بالدم ببلاش ثم يبيعوه لنا بمئات الجنيهات”.
التبرع بالدم.. مسألة في ظاهرها معاني الإنسانية الهادفة لإنقاذ حياة البشر، لكن في كثير من بواطنها تحولت إلى تجارة بغيضة وسوق رائج، يسيطر عليه المتاجرون بأوجاع المرضى، أصحاب الضمائر المعدومة، ليبقى المواطن وحده من يدفع الثمن، المتبرع للحصول على الثواب أو المقابل الضئيل، والمريض المشتري المجبر على إما الدفع بأموال باهظة أو تعريض حياته للخطر.
900 – 1300.. سعر كيس الدم
تتباين أسعار أكياس الدم من مستشفى إلى آخر، ومن بنك لآخر، غير أنها وبحسب شهادات حية من مواطنين ومرضى تتراوح بين 900 – 1300 جنيه للكيس الواحد، وفي الغالب تتساوى في ذلك جميع الفصائل دون أفضلية لفصيلة على أخرى، وإن كانت بعض الفصائل النادرة يكون سعرها أغلى بنسبة ليست كبيرة.
تختلف الأسعار من منطقة لأخرى بحسب مستوى المنطقة والمستشفى التابع لها، ففي المنصورة على سبيل المثال وبالقرب من مستشفيات الجامعة يصل سعر الكيس إلى 800 جنيه، فيما يبلغ في المستشفيات الخاصة بها نحو 1000 جنيه، وفي أوقات الطوارئ وفي الساعات المتأخرة من الليل ربما يصل إلى أكثر من ذلك.
سعر بيع كيس الدم للمستشفيات الخاصة وفقًا لقرار وزير الصحة 450 جنيهًا، ويحصل عليه من القطاع الحكومى، ويبيعه بأسعار تتراوح بين 600 إلى 1000 جنيه بحسب كل مستشفى
وفي منطقة الدقي وسط الجيزة يبلغ سعر الكيس 1100 جنيه في أحد المستشفيات الخاصة هناك، فيما يرتفع إلى 1500 في مستشفيات مدينة السادس من أكتوبر والشيخ زايد والقاهرة الجديدة ومدينة نصر، علمًا بأن ما يساعد على ذلك عدم وجود مستشفيات حكومية كبيرة في هذه الأماكن التي باتت أسيرة الخدمات الصحية الخاصة.
يذكر أنه في مايو 2017 رفعت وزارة الصحة المصرية أسعار أكياس الدم بالمستشفيات الحكومية والتأمين الصحي من 90 إلى 140 جنيهًا للقطاع الحكومي و500 جنيه للمستشفيات الخاصة، كما رُفع سعر وحدة كرات الدم الحمراء من 90 إلى 140 جنيهًا للقطاع الحكومي و500 جنيه للقطاع الخاص، وتم رفع سعر وحدة البلازما من 40 إلى 70 جنيهًا للقطاع الحكومي و130 جنيهًا للقطاع الخاص.
شهادات مؤلمة
حكايات مؤثرة وروايات مؤلمة اكتظت بها جنبات المستشفيات وغرف العمليات وعنابر إقامة المرضى، كان بطلها الأول “كيس الدم” لا سيما في الحالات الطارئة، كالحوادث والعمليات المفاجئة، ويتعزز الأمر بصورة أكبر إن كان المريض أو الضحية كما يلقبه البعض من خارج النطاق الجغرافي للمستشفى المعالج فيها.
“أحمد سالم” مواطن ستيني تعرض لحادث على الطريق بمحافظة الشرقية قبل عام تقريبًا، واضطر معه للانتقال إلى أحد المستشفيات الحكومية بمدينة الزقازيق، وفي التشخيص الأولي كان في حاجة لـ3 أكياس دم كحد أدنى، لم يكن بصحبة أحمد أي من أقاربه، إذ كان في طريقه بمفرده للقاهرة حيث مقر إقامته.
لم يكن المواطن في حالة تستدعي التأخير، ومع ذلك لم يكن هناك أكياس دم في بنك الدم التابع للمستشفى، حيث كان فارغًا في هذا التوقيت المتأخر من الليل، وبعد انتظار طويل، كادت روحه تفارق الحياة، وفي اللحظات الأخيرة حضر أحد أقاربه، وبعد مناوشات مع طاقم العمل في المستشفى بسبب تأخير العملية لعدم وجود أكياس دم، اضطر الرجل للتبرع ومعه اثنان من المواطنين العاديين في الشارع بعدما استجابا لتوسلاته إنقاذًا لحياة قريبه.
ووفق الرواية التي قصها قريب المريض (نجل عمه) فإن الموت كان أقرب من الحياة في ظل عدم وجود أكياس دم، وبعد سؤال طويل عرف أن هناك أماكن لشراء تلك الأكياس، ويتجاوز سعر الكيس 950 جنيهًا، وتابع: “اضطررت لشراء 4 أكياس وإيداعهم في بنك الدم الخاص بالمستشفى لعلهم يكونون سببًا في إنقاذ مريض آخر وحتى لا يتعرض لما تعرض له ابن عمي”.
وأضاف أنه بعد يومين كاملين قضاهما في المستشفى اكتشف من خلال نقاشات جانبية مع بعض المرضى من أهالي المحافظة، أن هناك تنسيقًا بين بعض العاملين بتلك المستشفيات وبنوك الدم الخاصة، بحيث يكونون حلقة الوصل بين أهالي المريض وتلك البنوك لشراء الدم منها بأسعار باهظة ويكون للعامل عمولة على كل كيس دم يخرج من البنك، مضيفًا “فوجئت أنه في بعض الأوقات يدعي الموظف عدم وجود أكياس دم في بنك دم المستشفى لإجبار ذوي المريض على الشراء من البنك الخارجي”.
استغلال وابتزاز
تتنوع مصادر الحصول على الدم من البنوك والمستشفيات، فبعضها يأتي عن طريق التبرع المجاني من المواطنين، سواء كان هذا التبرع ممنهجًا عبر حملات وزارة الصحة ومستشفيات بعينها، أم عن طريق أقارب المرضى حيث تشترط بعض المستشفيات عددًا معينًا من أكياس الدم يتبرع بها الأهالي قبيل إجراء أي عملية للمريض.
هذا النوع رغم ما يحمله من شرعية قانونية وأخلاقية، إلا أنه يحمل بين ثناياه بعض الثغرات التي ربما تحوله إلى كارثة وتجارة بغيضة، فوفق بعض الشهادات تلجأ عدد من المستشفيات سيئة السمعة لبيع هذا الدم المحصل عليه – مجانًا – عبر التبرعات، للمرضى بأسعار باهظة الثمن وفق الأسعار سالفة الذكر.
مصدر آخر ليس بالقليل يزود تجار الدم ببضاعتهم غالية الثمن رخيصة الأخلاق، وهو استغلال حاجة بعض الفقراء ومعدومي الدخل من أبناء الشوارع والمتسولين وغيرهم من الذين يعانون من العوز، حيث يتم منحهم بضعة جنيهات مقابل التبرع بكيس الدم الواحد، ثم يتم بيعه بعد ذلك بمئات الجنيهات.
عضو مجلس النواب تادرس قلدس، تقدم بطلب عاجل للبرلمان في 2017 لمناقشة تلك الظاهرة وضرورة تحجيمها قدر الإمكان، وقد أشار في طلبه إلى أن بعض التجار والسماسرة يستقطبون أطفال الشوارع والعاطلين عن العمل، لبيع دمائهم مقابل ثمن رخيص لكيس الدم، ثم إعادة بيعها للمستشفيات الخاصة بأضعاف ثمن الشراء، ثم يبيعه المستشفى للمريض بمبلغ أكبر لتحقيق الربح.
ولفت البرلماني إلى أن هناك “تجار دم” يحصلون على أكياس الدم المدعمة بكل سهولة، التي لا يستطيع المواطن الحصول عليها من المستشفيات، ويبيعونها لمرضى المستشفيات الخاصة، مطالبًا بفرض عقوبات مشددة على هؤلاء التجار، بجانب الرقابة الدورية على بنوك الدم بالمستشفيات الخاصة والحكومية والمراكز الإقليمية لمواجهة من سماهم “مافيا تجارة السائل الأحمر”.
استغلال أطفال الشوارع للتبرع بالدم مقابل بعض الجنيهات
غياب تشريعي
“من حق تجار الدم أن يفعلوا ما يفعلوه.. فالمكاسب الطائلة التي يحصلون عليها من هذه التجارة لا يمكن لهم أن يوقفوها في ظل غياب القانون، القانون في صفهم ياسادة”، هكذا علق المحامي عامر سعد على ظاهرة انتشار تجارة الدم في مصر خلال العقود الماضية.
وأضاف في حديثه لـ”نون بوست” أن كل التشريعات القانونية خلت من الإشارة بشكل واضح إلى هذه التجارة الحرام في ظل مساعي التقليل من شأنها، ومحاولة دفن الرأس في الرمال حتى لا نظهر بصورة سيئة أمام المجتمع الداخلي والخارجي، مختتمًا حديثه بـ”من أمن العقوبة أساء الأدب.. ونحن نقول إذ غاب القانون كثرت الجريمة”.
الموقف ذاته أيدته رئيس الشركة المصرية لخدمات الدم بفاكسيرا سابقًا، الدكتورة هالة عدلي حسي التي أشارت إلى أن مصر ليس بها أي تشريعات أو قوانين تنظم عملية التبرع بالدم وبيعه خاصة في القطاع الخاص، وكل الموجود حاليًّا مجموعة من القرارات الوزارية التي تنظم المسألة وتابعت: “ليس هناك أي عقوبات مطلقة على التجارة في الدم وجمعه بترخيص أو دون ترخيص”.
احتجزت الإدارة العامة للحجر الصحي بمطار القاهرة شحنة من الدماء المستوردة قادمة من الصين، استوردها مجموعة من رجال الأعمال والمستثمرين لسد العجز في المستشفيات الخاصة
وكشفت حسين في تصريحات صحفية عما وصفته “ضعف وغياب الرقابة على بنوك الدم الخاصة أو حتى الموجودة في المستشفيات العامة أو المستشفيات الجامعية”، مشيرة إلى أن سعر بيع كيس الدم للمستشفيات الخاصة وفقًا لقرار وزير الصحة 450 جنيهًا، وتحصل عليه من القطاع الحكومي، وتبيعه بأسعار تتراوح بين 600 إلى 1000 جنيه بحسب كل مستشفى.
كما أوضحت أن سعر بيع كيس الدم بجميع مشتقاته في القطاع الخاص من المفترض ألا يتجاوز 20% من السعر الذي تحصل عليه المستشفيات الخاصة من وزارة الصحة، لافتة إلى أن بيع الدم بالأسعار المبالغ فيها جريمة من المفترض أن يعاقب عليها فاعلها لكن لا يمكن توقيع عقوبة على من يمارس ذلك لسببين، لأنه لا يوجد قانون يحدد تسعيرة كيس الدم ولا يوجد نص عقابي للمخالفين.
مافيا الدم
تحولت تجارة الدم في مصر إلى مافيا مكتملة الأركان، فبعد أن كان الأمر مقتصرًا على حفنة من المنتفعين بهذه التجارة بات اليوم منظومة كاملة، تحكمها شبكات مافيا عالمية، يتحكم فيها رجال أعمال كبار ومشاهير ومسؤولين متخصصين في هذا النوع من البيزنس القذر كما يطلقون عليه إعلاميًا.
في مايو 2012 كشفت الهيئة المسؤولة عن المؤسسات الطبية غير الحكومية والتراخيص التابعة لوزارة الصحة وجود شبكة سرية لتجارة الدم تعمل لصالح المستشفيات الخاصة، حيث يستقطبون العاطلين لبيع دمائهم مقابل 20 جنيهًا للكيس، ثم إعادة بيعه للمستشفيات الخاصة مقابل 270 جنيهًا، ثم يبيعه المستشفى بدوره للمريض بمبلغ لا يقل عن 400 جنيه وقد يصل سعر الكيس الواحد إلى 750 جنيهًا.
الهيئة في تحقيقاتها بأحد المستشفيات الخاصة كشفت وجود ما يقرب من 50 كيس دم وبلازما منتهية الصلاحية وغير معلومة المصدر ولا تحمل أي بيانات مثل اسم المتبرع أو مصدر الكيس ذاته أو حتى فاتورة الشراء، كما كشفت وجود أكياس أصابها العفن، نظرًا لسوء تخزينها، حيث توضع في الثلاجات العادية، فضلًا عن عدم قيام بنوك الدم بعمل اختبار توافق الفصائل للمرضى، مما يهدد حياتهم ويضعها على المحك.
المتاجرة بالدماء لم يقتصر على الداخل وفقط، فمؤخرًا احتجزت الإدارة العامة للحجر الصحي بمطار القاهرة شحنة من الدماء المستوردة قادمة من الصين، استوردها مجموعة من رجال الأعمال والمستثمرين لسد العجز في المستشفيات الخاصة، هذا في الوقت الذي تؤكد فيه منظمة الصحة العالمية أن مصر ضمن 120 دولة في العالم ليس لديها أنظمة أمان في حفظ الدم، فالاختبارات التي تجرى على أكياس الدم غير كافية وخاصة اختبارات الأجسام المضادة للفيروسات.
وبينما يكافح المصريون من أجل البقاء في ظل تلك الأوضاع المعيشية الصعبة، باتت دماؤهم هي الأخرى سوقًا تجاريةً لأصحاب الضمائر الميتة، وفي الوقت الذي ربما يضحي فيه الشخص ببعض قطرات دمائه لأجل توفير قوت يوم واحد فقط، يدفع آخر حياته ثمنًا لعدم قدرته على الحصول على تلك القطرات التي تحولت من هبة ربانية إلى سلعة تباع وتشترى.