خلال العام الماضي شهد كوكب الأرض عددًا كبيرًا من الحرائق امتدت من إندونيسا وسيبيريا وأوروبا والقارة الأمريكية وصولًا إلى أستراليا، وقد ارتفع عدد الحرائق بين يناير وسبتمبر 2019 بنسبة تصل إلى 41% مقارنة بعام 2018، إذ التهمت الحرائق أجزاءً هائلةً من الغطاء الغابي بمنطقة الأمازون التي يُطلق عليها “رئة الأرض”، هذا بالإضافة إلى حوض الكونغو بإفريقيا الذي يعد ثاني أكبر رئة خضراء بالعالم.
وللمرة الأولى اندلعت الحرائق في مناطق غير معروفة بذلك النوع من الحوادث مثل القطب الشمالي وسيبيريا، هذا بالإضافة إلى المناطق المعروفة باندلاع الحرائق مثل كاليفورنيا، إذ التهمت النيران خلال الصيف الماضي أكثر من 750 ألف هكتار من الغابات.
كانت حرائق أستراليا آخر ما شهده عام 2019 وظلت ممتدة إلى مطلع العام الحاليّ، وتشير الإحصاءات إلى نفوق نحو 500 مليون حيوان منها حيوانات مهددة بالانقراض مثل حيوان الكوالا النادر بسبب الحرائق، هذا بالإضافة إلى تدمير أكثر من 5 ملايين هكتار من الغطاء الغابي، فضلًا عن مقتل 18 شخصًا حتى الآن وتدمير أكثر من 1400 منزل في ولايتي فيكتوريا ونيوساوث ويلز التي تعد الولاية الأكثر اكتظاظًا بالسكان في البلاد.
لماذا تحترق الغابات؟
لكي تحدث الحرائق في الغابات فهي تحتاج إلى أربعة مكونات طبيعية وهي الوقود والحرارة والأكسجين والشرارة، ومع وجود المكونات الثلاث الأولى بوفرة في الغابات فكل ما يلزم لحدوث الحرائق هو الشرارة التي غالبًا ما يكون مصدرها الصواعق والانفجارات البركانية أو الشرار الناتج عن احتكاك الصخور ببعضها البعض مما يتسبب في اندلاع الحرائق.
لكن ما الذي جعل حرائق 2019 أكثر انتشارًا وشدة؟ يقول الخبراء إن تغير المناخ جعل حرائق الغابات أكثر شدة وتكرارًا، حيث ارتفعت درجة حرارة الأرض بأكثر من درجة مئوية خلال القرن المنصرم في معظم مناطق العالم، وتسبب هذا التغيير في زيادة وتيرة موجات الحرارة بشكل كبير، وقد تسبب هذا الارتفاع بدرجات الحرارة في زيادة معدل التبخر وجفاف التربة وكذلك المواد العضوية النباتية التي تتحول إلى وقود قابل للاشتعال.
جدير بالذكر أن هذا التغير المناخي سببه الأساسي ظاهرة الاحتباس الحراري التي تنتج ما يُعرف باسم “الغازات الدفيئة” وهي عبارات عن غازات لديها القدرة على امتصاص الأشعة فوق البنفسجية القادمة إلينا من الشمس ومنعها وحبسها من الانطلاق للفضاء الخارجي، وعليه فتركيز هذه الأشعة الزائد في غلافنا الجوي يؤدي بالضرورة إلى زيادة درجات الحرارة على كوكب الأرض.
وقد توصل تقرير تغير المناخ والأرض الصادر عن الفريق الحكومي الدولي المسؤول عن تغير المناخ الذي صدر في شهر أغسطس 2019 أن التغير المناخي البشري المنشأ سوف يزيد في المستقبل من تواتر وشدة الحرائق في القارة الأمريكية وإفريقيا وأستراليا.
انبعاثات الكربون البشرية غيرت شكل كوكب الأرض بطريقة سلبية وذلك على صعيد البيئة والبشر والحيوانات
ومع ذلك يمكن القول إن مصدر القلق الرئيسي ليس فقط ارتفاع درجة حرارة الكوكب ولكن الإشكالية الرئيسية في الطريقة التي يغير بها النشاط البشري التوازنات الرئيسية في الكربون الذي يُخزن في المحيط الحيوي ككل من الغلاف الجوي والمحيطات والتربة، إذ بدأ الإنسان الحديث في تغيير النظم الطبيعية الخاصة بكوكب الأرض وهي النظم التي تطورت على مدار آلاف السنوات.
أما ما فعله البشر تحديدًا فهو تغير التوازن الطبيعي للنسبة المستقرة من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، وعلى الرغم من أن الكربون موجود بالفعل في غلافنا الجوي منذ مئات السنين، فإننا وضعنا المزيد من الكربون مما أخل بالميزان الطبيعي لدورته، إذ إن انبعاثات الكربون البشرية غيرت شكل كوكب الأرض بطريقة سلبية وذلك على صعيد البيئة والبشر والحيوانات.
المخاطر البيئية المرتبطة بظاهرة تغير المناخ
الحقيقة أن ظاهرة التغير المناخي لم تلحق الضرر بالغابات فحسب، بل امتد تأثيرها إلى التسبب في العديد من الكوارث الطبيعية الراهنة، ففي نوفمبر 2019 غرقت أجزاء كبيرة من مدينة البندقية الإيطالية وذلك بمياه مد هي الأعلى منذ أكثر من خمسين عامًا، فقد سجلت المياه ارتفاعًا وصل إلى 1.87 متر، طبقًا لمركز رصد مياه المدّ وهو الأمر الذي لم يحدث في المدينة منذ عام 1966.
غمرت السيول الجارفة جميع شوارع المدينة كما حطمت الكتل الحجرية الجنادل وأطاحت بالقوارب في مراسيها، ووصف عمدة البندقية لويجي بروجنارو الفيضانات الأخيرة بالنتيجة المباشرة لظاهرة التغير المناخي، كما كتب عضو الحزب الجمهوري أندريا زانوني نائب رئيس لجنة البيئة عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي فيبسوك أن موجة المد التي اجتاحت البندقية سببها التغير المناخي الذي تسبب في ارتفاع مستويات مياه البحار جراء ذوبان الجبال الجليدية الناجم عن ارتفاع درجات الحرارة العالمية.
وفي الصين تحقق السلطات حاليًّا في تقارير عن انتشار نوع غامض من الالتهاب الرئوي بمدينة ووهان، وقال مسؤولون صينيون إن أكثر من 44 شخصًا أصيبوا بالعدوى مع تصنيف 11 حالة منهم على أنها في مرحلة الخطر، وقد دفع انتشار هذا النوع الغريب من المرض هونج كونج وسنغافورة لإخضاع القادمين من ووهان إلى فصح طبي متشدد، وذكرت وسائل الإعلام الرسمية الصينية أن حالات العدوى وجدت بنفس المكان الذي تنتشر فيه القوارض بشكل كبير وذلك بعد موجات جفاف متواصلة تفاقمت بفعل ظاهرة التغير المناخي، حيث كثرت الفئران بشكل وبائي الصيف الماضي في منطقة تعادل مساحتها تقريبا مساحة هولندا.
الصورة شديدة القتامة مع استمرار انبعاثات غاز الكربون
الأمم المتحدة قالت إن دول العالم عليها بذل المزيد من الجهد من أجل خفض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون بخمسة أضعاف وذلك إذا أرادت تجنب ارتفاع درجة حرارة الأرض بأكثر من درجة ونصف مئوية، وأفاد التقرير السنوى عن الانبعاثات الحرارية أنه وحتى في حال التزمت كل دول العالم بوعودها في خفض انبعاثات الكربون سترتفع درجة حرارة الأرض إلى أكثر من ضعف المقدار الحاليّ بحلول عام 2100.
وذكر الباحثون الذين أعدوا التقرير أن الدول الغنية فشلت بشكل كبير في تقليل الانبعاثات، كما أن 15 دولة من ضمن الدول الأغنى لا تملك جدولًا زمنيًا للوصول إلى نقطة الصفر في انبعاثات الكربون، وترتكز منهجية تقرير فجوة الانبعاثات بالأساس على دراسة الفرق بين كمية الكربون التي يجب الحد منها لتجنب ارتفاع درجة الحرارة والمجهود الذي تفي به الدول فعليًا وذلك بوعودها التي قطعتها على نفسها في اتفاقية باريس للمناخ، وقد أظهرت نتائج التقرير أن دول العالم فشلت بشكل جماعي في وقف انبعاثات الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري.
الانبعاثات الحرارية الصادرة عن الولايات المتحدة والصين تساوي عشرات أضعاف الانبعاثات في الدول النامية
وقالت إنغر أندرسون المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة: “فشلنا الجماعي في العمل بشكل صارم وواضح للحد من ظاهرة التغير المناخي يعني أننا يجب أن نعمل في الوقت الحاليّ على تقليل كميات أكبر من انبعاثات الكربون تزيد على نسبة الـ7% سنويًا وذلك على مدار السنوات العشرة القادمة”.
وعلى الرغم من أن انبعاثات الكربون تتسبب بها عادة الدول الأغنى والحكومات الرأسمالية الكبيرة، فالانبعاثات الحرارية الصادرة عن الولايات المتحدة والصين تساوي عشرات أضعاف الانبعاثات في الدول النامية، فإن معهد ماكس بلانك للكيمياء ذكر في دراسات أعدها أن منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا ستكون من بين أكثر المناطق على الأرض عرضة للضرر وذلك جراء ارتفاع منسوب البحر خاصة بالمناطق الساحلية المنخفضة مثل مصر وتونس والكويت وقطر والإمارات، أما العراق فقد حذرت الأمم المتحدة في تقريرها السادس لتوقعات أحوال البيئة في منطقة غرب آسيا من أنه خامس أكثر دولة في العالم هشاشة من حيث شح المياه والغذاء، وذلك بسبب تأثر مياهه بعوامل خارجية كانخفاض هطول الأمطار من خارج الحدود وهو الأمر الذي يخضع لتغير المناخ ومشاريع تخزين المياه بالبلدان المجاورة.