تستغرق الأسر الكثير من الوقت في التفكير بجميع الجوانب التي تخص مولودها المنتظر، بدءًا من التسمية وواجبات الرعاية ونهاية بالمسؤوليات المادية، وبالنسبة لأسر أخرى، فإن الواقع مختلف قليلًا، إذ يضيف البعض إلى تلك القائمة مهمة وتساؤلًا جديد، وهو: أين سيولد الطفل؟ وعند العثور على الوجهة الملائمة، تسافر النساء على بعد آلاف الأميال من بلدانهن الأصلية لإنجاب أطفالهن في دول تمنح الجنسية في اللحظة الأولى التي يخرج فيها الطفل من رحم أمه.
يُسمى ذاك الإجراء بـ”سياحة الولادة/Birth Tourism” أو “سياحة الأمومة/Maternity Tourism” التي تمنح الطفل حق المواطنة، وفي بعض الأحيان والأماكن تُمنح للأم أيضًا أو يُعطى الأبوين حق الإقامة الدائمة في البلاد ثم الجنسية، ويُسمح بذلك النوع من السياحة في 30 دولة حول العالم، وأكثرها شيوعًا أمريكا وكندا والبرازيل والأرجنتين. على إثر هذه الظاهرة، ظهر مفهوم “أطفال جوازات السفر”، أو كما يطلق عليهم بالإنجليزية “Passport babies”.
“سياحة الولادة” من منظور سياسي
ينتقد العديد من السياسيين، أشهرهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، سياحة الولادة التي تحولت – بحسب رأيه – إلى “بيزنس مزدهر ورابح”، بسبب الشبكات والمنظمات التجارية التي استغلت خبراتها في هذا الموضوع من أجل تقديم خدمات مدفوعة للنساء الحوامل مقابل أسعار تصل من 20 ألف إلى 50 ألف دولار، مما أدى إلى استغلال هذه الفرصة بصورة غير ملاءمة.
يظهر نشاط هذه المنظمات بدايةً من تحضير وثائق السفر وحجز الطيران والفندق إلى إجراءات الإقامة ووصولًا لكل ما يتعلق بعملية الولادة مثل التوصية بأطباء ومستشفيات محددين، ومن ثم تسجيل الطفل في الدائرة الحكومية المخصصة لاستخراج جنسية له ولعائلته، وهو الأمر الذي لا يعجب ترامب على الإطلاق، ولم ينل أيضًا إعجاب شقيق الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، جيب بوش، سابقًا، فكلاهما كانا يصران على استخدام مصطلح “anchor baby” على الأطفال المولودين لعائلة أجنبية أو مهاجرة في أمريكا، وهو مصطلح مسيء للمهاجرين، وخاصةً الآسيويين واللاتينيين.
إذ يعني مصطلح “anchor baby” حرفيًا “طفل المرساة”، ويقصد بذلك مرساة السفن التي تُستخدم عادةً في مسك السفينة وتثبيتها في نقطة محددة لمنعها من الحركة، في إشارة ضمنية لاستغلال الأهالي المهاجرين لأطفالهم كأدوات أو مراسٍ تُمكنهم من تثبيت أو تقنين وضعهم في البلاد، علمًا، بأنه يفضل قول الأطفال أو المواطنين الأمريكيين بدلًا من ذلك، تجنبًا للإساءة للأهالي من جهة، وللعنصرية ضد الأطفال من جهة أخرى.
لا مزيد من المهاجرين
يلخص ما سبق جانبًا واحدًا من المواقف السياسية، فمن ناحية أخرى، يرى ترامب على سبيل المثال أن قانون المواطنة “أكبر مغناطيس للهجرة غير الشرعية”، فبحسب تعبيره “تستعد امرأة لإنجاب طفل، وتعبر الحدود الأمريكية ليوم واحد، وفجأة علينا (الحكومة الأمريكية) الاعتناء بالمولود الجديد على مدى 80 عامًا”، وربما يتسع الأمر لتأمين الوضع القانوني لأقاربه الآخرين، مما يزيد الفوضى ويستنزف الخزانة الأمريكية المدعومة من دافعي الضرائب.
ردة فعل ترامب تجاه الموضوع ليست مستغربةً تمامًا، خاصةً إذا علمنا أن السياسة التي وصفها بـ“المجنونة” سمحت للشعب الصيني، عدوه ومنافسه اللدود، بالاستفادة من قانون التجنيس في أمريكا، لا سيما أن إحصاءات شبكة سي إن إن الأمريكية، تقول إن أعداد النساء الصينيات اللواتي يأتين إلى الولايات المتحدة للولادة في ارتفاع مستمر، فقد تضاعفت من 4200 في عام 2008 إلى 10 آلاف في 2012، علمًا بأن العائلات الصينية الثرية هي الأكثر استغلالًا لهذه الفرصة.
أجرت قناة “تشاينا سنترال” استطلاعًا للرأي من خلال مقابلة أشخاص عشوائيين في الشارع، ووجدت أن ثلثهم درسوا أو سيفكرون في الولادة ببلد آخر، حسبما ذكرت مجلة “فورين بوليسي”، وبعيدًا عن الشعب الصيني، يقدر عدد المواليد من سياحة الولادة ما يتراوح بين 35 ألف إلى مئات الآلاف (نحو 372 ألف حالة ولادة للمهاجرين تقريبًا بحسب إحصاءات مركز الهجرة الأمريكية لعام 2019) كل عام في الولايات المتحدة، ما يكلف البلاد عدة مليارات من الدولارات سنويًا، وفقًا لتصريحات ترامب.
شهدت بعض المستشفيات في كندا ارتفاعًا بمقدار أربعة أضعاف في عدد الأمهات الأجنبيات اللاتي يلدن في السنوات الخمسة الأخيرة
صرح مدير إدارة الجمارك والهجرة الأمريكية توم هومان، بخصوص هذا الشأن قبل أيام معدودة قائلًا: “سياحة المواليد من المحركات الضخمة للهجرة غير الشرعية”، فوفقًا لمركز دراسات الهجرة، تبلغ التكلفة السنوية لسياحة الولادة التي يدفعها دافعو الضرائب الأمريكيون 2.4 مليار دولار.
أمريكا ليست استثناءً، حيث تتعرض المواطنة المكتسبة بالولادة لانتقادات شديدة أيضًا في كندا، إذ يسعى البعض للقضاء على السياسات والقوانين التي تسمح بها، إلا إذا كان أحد الوالدين مواطنًا كنديًا أو مقيمًا دائمًا في البلاد، فقد شهدت بعض المستشفيات في كندا ارتفاعًا بمقدار أربعة أضعاف في عدد الأمهات الأجنبيات اللاتي يلدن في السنوات الخمسة الأخيرة، ومؤخرًا ذكرت إحصاءات حديثة بأن نحو 5 آلاف طفل ولدوا لأبوين غير مقيمين في البلاد بين عامي 2018 و2019.
من أجل مستقبل أفضل
تُفزع المواقف المعادية لسياسة التجنيس بالولادة بعض الأسر التي تخطط لتأمين مستقبل أطفالهم، لا سيما أن الدول الأوروبية اعتادت منح حق المواطنة للمواليد الأجانب، لكن هذه المرونة لم تعد سارية إلى يومنا الحاضر، فقد قيدت تلك البلدان شروط التجنيس بهدف الحد من سياحة المواليد، الإجراء الذي يخشى البعض تطبيقه في الدول المانحة حاليًّا.
ولذلك، تُنصح المرأة الحامل بإخفاء بطنها في السفارة عند تقديم طلبها للحصول على تأشيرة دخول إلى البلد المقصود، لأنه يعتقد البعض أن ولادة المرأة في البلد الأجنبي أمرًا ليس قانونيًا، إلا أنها عملية مشروعة تمامًا، ولكن الشبكات التجارية ألحقت هذه الممارسة بتهم قضائية مثل “الاحتيال على النظام أو التأشيرة الممنوحة”، ما يفسر قمع المسؤولين السياسيين لهذه الشركات وملاحقتها بدعاوٍ قانونية مثل الاحتيال الضريبي، لكن رغم سوء استغلال قانون التجنيس من بعض مكاتب سياحة الأمومة، فإن الأمور تتخذ بعدًا آخر بالنسبة إلى الأشخاص الذين يلجأون لهذا النظام هربًا من العقوبات السياسية أو الدينية في البلد الأم، أو خوفًا من اضطراب وتوتر الأوضاع السياسية والاقتصادية في بلادهم.
وبالتالي، نلاحظ أن الكثير من الناس، وتحديدًا الذين يأتون من بلاد الحروب والأزمات السياسية، مثل فلسطين والعراق ولبنان وسوريا واليمن، ينظرون إلى سياحة الولادة كطوق نجاة من الانهيار الاقتصادي والبطالة، ومحاولة لتأمين فرصة عمل أو مستقبل كامل لهم أو لأطفالهم، فيصبح قانون التجنيس الفوري أو المباشر الحل الأمثل لتجنب جميع العراقيل والصعوبات التي تعقد حياتهم بسبب مكان ولادتهم، إلى جانب ذلك، لا شك أنه في الوقت الذي يبحث فيه البعض عن فرصة لتأمين أساسيات الحياة مثل العمل والتعليم والضمان الاجتماعي، يبحث سواهم عن رفاهية السفر بحرية إلى عشرات الدول دون تعقيد ومماطلة في المطارات.
حاور “نون بوست”، إيمان أبو سيدو، مترجمة فلسطينية وإحدى الأمهات المقيمات في البرازيل، بشأن تجربتها في الإنجاب بدولة البرازيل وتحديدًا مدينة فلوريانوبوليس، وبكثير من الإيجابية تحدثت أبو سيدو عن إجراءات سياحة الولادة التي خاضتها قبل 3 أعوام تقريبًا لإنجاب طفلتها، وقالت: “اخترنا البرازيل لما تتميز به عن غيرها من الدول، إذ تمنح غالبية الدول الجنسية للمولود فقط، أما البرازيل تمنح الجنسية للطفل وأشقائه غير المولودين في البرازيل، كما تُعطي للوالدين الإقامة الدائمة ومن ثم الجنسية”، مع العلم، أن الطفل يحصل على الجنسية بمجرد ولادته، واستخراج جواز السفر يصدر خلال أسبوع واحد أو أقل.
القضاء على قانون التجنيس الفوري، بغض النظر عن الجدل الذي يحوم حوله، سيزيد مأساة بعض الحالات الإنسانية الهاربة من الأوضاع المتردية في دول العالم الثالث
تذكر الأم الفلسطينية أبو سيدو أيضًا أن الجواز البرازيلي يمنح الحق في دخول أكثر من 160 دولة دون الحاجة إلى تأشيرة سفر، وهو بطبيعة الحال، ما لا يوفره الجواز الفلسطيني، ولكن رغم أهمية هذا الشق لا سيما بالنسبة لمن “ذاق مرارة التنقل في المطارات بجواز سفر فلسطيني” بحسب وصفها، فإن السبب الأساسي يكمن في رغبتها بتسهيل أمور حياة أطفالها اليومية وضمان مستقبل أفضل لهم خارج وطنها الأم، لا سيما أن شعب البرازيل، بحسب كلامها، شعب محب لغيره من الشعوب العربية والإسلامية، وليس عنصريًا على الإطلاق، مما سهل عملية الاندماج والتكيف في المجتمع، وزاد ثقتها في خطوتها نحو الإنجاب بالخارج.
ختامًا، تثير سياحة الولادة أسئلة ملحة عن الانتماء والهوية والجنسية والمواطنة، وهي أسئلة أكثر تعقيدًا بكثير مما تدور حوله المناقشات العامة، لكنها في الوقت نفسه، تبقى عائقًا أمام الأسر التي تبحث عن ملاذ آمن خارج حدود بلدها الأصلي، وبعبارة أخرى، إن القضاء على قانون التجنيس الفوري، بغض النظر عن الجدل الذي يحوم حوله، سيزيد مأساة بعض الحالات الإنسانية الهاربة من الأوضاع المتردية في الدول المأزومة اقتصاديًا وسياسيًا.