دموعٌ منهمرة تنبأك بعظمة المصاب الجلل للمرشد الأعلى، وحشودٌ مليونية تتشح سوادًا على هول الموقف الذي يعتري إيران ومحبي القتيل، وفي الطرف المقابل قُرعت طبول الفرح واستبشرت وجوه العوائل المكلومة بتمزيق جسد الرجل الذي جال في المشرق العربي يبتغي التوسع والنفوذ على مر سنوات شهدت بها المنطقة نارًا أتت على أخضرها ويابسها، تهدّمت بها حواضر الأمة وتشردت بها شعوبٌ وسالت الدماء.
قاسم سليماني “البطل القومي” كما تراه حشود مشيعيه في إيران، و”المجرم القاتل” كما تراه شعوب المنطقة المكتوية بناره، وهو مشى على الجثث وسفك الدماء في العواصم العربية والإسلامية التي صنع فيها النفوذ الفارسي، ولو جاز استخدام التعابير الطائفية لصح القول إنّ الرجل شرب من دماء السنة في المنطقة ليروي عطش نظام الولي الفقيه بمباركةٍ من المرشد الخامنئي.
دمشق وحلب ودير الزور، بغداد والموصل، صنعاء وبيروت، بهم تجوّل “شهيد القدس” (والوصف لقائد حركة حماس إسماعيل هنية) التي لم ترَ وجهه يومًا ولم تكن لتراه طالما أنه كان مشغولًا بفتح الطريق الطويلة إليها بدءًا من اليمن مرورًا بالخليج العربي وليس انتهاءً بسوريا، إلا أنه لم يصل ولم يكن ليصل، وقُتل الرجل لكن ليس على يد أهالي ضحاياه إنما بيد من أطلق له العنان في المنطقة وعمل تحت عيونها منذ زمن بعيد، واشنطن التي اعتمدت عليه في دحر “داعش” والقاعدة في الفترات الأخيرة مقاتلًا بحماية طائراتها، إلا أن واشنطن لا تنسى أن هذه الشخصية كانت حليفةً ذات صولة وجولة بالنسبة للقاعدة في البدايات حتى فترة ليست بالقريبة.
هذه الأدوار المعقدة من التحالفات والعداوات والخيوط المتداخلة في علاقات الرجل التاريخية بالدول والتنظيمات والكنتونات تُوضح قوة قاسم سليماني محور الحديث في هذا التقرير الذي سيتابع رحلة الرجل منذ البدايات حتى مصرعه على يد طائرة أمريكية في مطلع العقد الجديد، ليشعل مقتله المنطقة ويصب الزيت على النار ويضعها على شفا حرب جديدة، خاصةً أن هذه الضربة الأمريكية تُعتبر أكبر ضربة لطهران ومحورها.
البدايات
أبصر سليماني الحياة في 11 من مارس 1957 في قرية قناة ملك بمحافظة كرمان في إيران، وكان من أسرةٍ متواضعة الحال فقيرة المعاش ليعمل في بداية شبابه على مساعدة والده بسد الديون ويشتغل بمجال البناء، انضم بعدها بسنوات إلى شركة المياه في كرمان كفني بسيط، إلا أنه التحق بعد ثورة الخميني التي أطاحت بحكم الشاه بالحرس الثوري أوائل عام 1980، إلا أنه كان عنصرًا عاديًا لفترة غير قليلة وكان يعمل في الحراسة بشمال غرب إيران كما أنه شارك في قمع انتفاضة الأكراد للانفصال في مقاطعة أذربيجان الغربية وهي باكورة أعماله القمعية التي من خلالها بدأ صناعة نفسه.
يمكن القول إن الحرب الإيرانية العراقية التي استمرت منذ 1980 حتى عام 1988 هي ما أظهرت قاسم سليماني للواجهة، فقد شارك بمجموعة نظمها من شباب كرمان بلد ولادته، وأظهر في هذه الحرب شجاعته، وفي نوفمبر من 1982 أصيب سليماني في عملية “طريق القدس” التي احتلّ فيها الإيرانيون أجزاءً من الأراضي العراقية القريبة من الحقول النفطية، وخلال فترة تداويه حاول طبيبه اغتياله إلا أنه اكتشف قبل أن يقضي عليه، وهي أول محاولة اغتيال له.
الصعود
انتهت الحرب العراقية الإيرانية بخسائر فادحة أنهكت البلدين ويصل قاسم سليماني إلى قيادة الحرس الثوري في مقاطعته كرمان، المنطقة القريبة من الحدود الأفغانية وهي خطٌ أساسي من خطوط تهريب الأفيون من أفغانستان إلى تركيا ومن ثم أوروبا ليكون سليماني قائدًا لمكافحة التهريب في تلك المنطقة.
عام 1998 كانت الانطلاقة الكبرى لسليماني كونه سيصبح الأخطبوط الذي سيضع أيديه خارج إيران ويُعين قائدًا لقوة القدس في الحرس الثوري خلفًا لأحمد وحيدي، وفيلق القدس هو وحدة من القوات الخاصة للحرس الثوري الإيراني، ومسؤولة عن العمليات الخارجية لـ”الثورة الإسلامية”، ليكون هذا الفيلق بقيادته من أقوى التنظيمات التي أثرت بمسار السياسة الإيرانية في الشرق الأوسط خصوصًا والعالم بشكل عام، ومع إنجازات سليماني التي لم يحققها غيره للمرشد الذي يطمح في توسيع نفوذ مملكته، عام 2011 تمت ترقية الجنرال من لواء إلى فريق في الحرس الثوري.
صورة لقاسم سليماني في الحرب العراقية الإيرانية
الأب الروحي لـ”حزب الله”
يروي قاسم سليماني في أحد لقاءاته الصحفية النادرة التي بُثت قبل أشهر سيرة الحرب بين “حزب الله” و”إسرائيل” كما لو أنه قائدها، يذكر التفاصيل والقصص بحديث يُشعرك أنه القائد الميداني للعمليات ضد الاحتلال في حرب الـ33 يومًا عام 2006، هذا الأمر يرجع إلى العلاقة القوية والراسخة بين سليماني والمنظمة التي تعتبر ذراع طهران في لبنان المحاذي للكيان الصهيوني، وكشف سليماني في المقابلة تعرّضه للخطر الشديد خلال تلك الحرب، ومكوثه تقريبًا طيلة فترة الحرب في لبنان، مشيرًا إلى “وجوده في غرفة عمليات حزب الله خلال الحرب إلى جانب أمين عام الحزب حسن نصرالله والقائد العسكري عماد مغنية الذي اغتيل عام 2008″، وكان مغنية قد ذهب بنفسه إلى سوريا ليحضر سليماني إلى بيروت، ليقدّم الأخير تقاريره عبر “الخط الآمن” إلى غرفة المرشد خامنئي فورًا كما يقول.
لم تكن حرب تموز صاحبة الحضور الأول لسليماني في لبنان، إذ إن منطلق العمليات الخارجية للرجل بعد توليه قيادة فيلق القدس كانت من هذا البلد، ويعتبر لبنان جسر سليماني إلى كثير من المناطق، وتعتبر جريمة دخول حزب الله إلى سوريا وسفك دماء السوريين في كثير من المناطق إنما هي إحدى الجرائم في السجل المفتوح لانتهاكات الرجل في المنطقة، كما أن سليماني ساهم بإطلاق التوغل الكبير لحزب الله وانتهاكاته بحق لبنان وشعبه وتوغله في مفاصل الدولة وتسخيرها تحت التصرف الإيراني.
تلك الصورة الوردية لـ”المقاوم البطل الذي قاتل إسرائيل”، كانت لترسيخ الهيمنة الإيرانية في إحدى العواصم المستهدفة، ففي عام 2018 وبعد إعلان نتائج الانتخابات التي حصد فيها حزب الله وحلفاؤه فوزًا مريحًا لهم سارع سليماني ليقول إن “حزب الله اللبناني ولأول مرة فاز بـ74 مقعدًا من مجموع 128 مقعدًا في البرلمان اللبناني رغم إنفاق السعودية 200 مليون دولار على أعوانها في هذه الانتخابات”، موضحًا “حزب الله تحول من حزب مقاومة إلى حكومة مقاومة في لبنان”، ليتبين بعد هذه التصريحات حجم التدخل للرجل بأمور البلد الذي بيحث عن استقلاله. وهو الأمر الذي أغضب حلف رئيس الحكومة السابق سعد الحريري الذي يفضل أن ينأى بنفسه وببلده عن كل التجاذبات السياسية الإقليمية خاصةً أن تصريح سليماني يضر بلبنان كون الأخير مدرج على قائمة الإرهابيين في الكثير من الدول.
مقتل سليماني أثر على قائد مليشيا “حزب الله” حسن نصر الله الذي شدّد خلال خطاب التأبين على أهمية دور سليماني في دعم “حركات المقاومة في المنطقة”، واصفًا إياه بـ”القائد الجهادي الإسلامي العظيم”، وذكر نصر الله أنه حذر سليماني خلال زيارة سبقت الأخيرة بأسابيع من التركيز الإعلامي الأمريكي على شخصيته.
واعتبر نصرالله في كلمته أن “قاسم سليماني ليس شأنًا إيرانيًا بحتًا، قاسم سليماني يعني كل محور المقاومة، قاسم سليماني يعني كل قوى المقاومة، قاسم سليماني يعني فلسطين، لبنان، سورية، والعراق، واليمن، وأفغانستان”، وهذه الدول التي ذكرها نصر الله إنما هي المناطق التي أشعل سليماني فيها حروبًا وأوغل في إجرامه فيها.
قاسم سليماني مع الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله
الحاكم الفعلي للعراق
غزت أمريكا العراق عام 2003، ليستغل فيلق بدر وهو المنظمة المدعومة إيرانيًا ويحتل المناطق الحدودية في العراق بغطاء جوي للقوات التي غزت البلاد، ويذكر أن العناصر والخلايا النائمة من فتحت الباب لدخول قوات بدر وعلى رأسهم محمد باقر الحكيم القائد الشيعي المدعوم من فيلق القدس الذي بدوره اعترف صراحة بدور قواته أنه “لن يقاوم الاحتلال إلا سياسيًا”، وفي فترة إنشاء جيش عراقي جديد على يد الولايات المتحدة كان الدور الأكبر في التأسيس للميليشيات العراقية المدعومة من إيران، وكانت حينها المحافظات العراقية في حالة حرب مع واشنطن في الوقت الذي كانت فيه المحافظات الجنوبية هادئة لتعمل واشنطن على هذا الوتر وتحرض الطوائف ضد بعضها، ليبرز دور المليشيات التي يشرف عليها قاسم سليماني في السيطرة على المحافظات السنية.
حاول سليماني بكل ما أوتي من قوة إشعال الفتنة المذهبية في العراق، فهو المتهم بتفجير مراقد شيعية في شباط من عام 2006، الأمر الذي جعل جيش المهدي مقاتلًا في وجه السنة، مما جعل الطريق مفتوحًا أما سليماني ليوحد الميلشيات الشيعية وجعل مرجعيتها إيرانية، في ذلك الوقت صمتت واشنطن عن الإجرام الطائفي للميلشيات الشيعية المدعومة من سليماني وذلك بسبب توقف عمليات جيش المهدي ضد الجيش الأمريكي، ومن هنا يتضح أن الولايات المتحدة هي من فرشت السجادة الحمراء لدخول الجنرال الإيراني وتغلغله في أرض الرافدين، وزاد من ذلك التغلغل الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2011 وبقاء 5000 من القوات بموجب اتفاقية مع حكومة نوري المالكي.
مع تأسيس تنظيم “داعش” وبدء سقوط المدن العراقية بيده واحدةً تلو أخرى، وكان أبرزها الموصل التي أصبحت بيد التنظيم عام 2014، ومع المخاوف من وصول عناصر تنظيم الدولة إلى العاصمة بغداد، بدأ نجم قاسم سليماني يظهر أكثر فأكثر وتحالف مع واشنطن لقتال داعش، وكأن سليماني ينتظر هكذا معركة لإحكام قبضته الكاملة على أرض الرافدين الجارة لطهران التي ستسهل ربط طهران بدمشق عبر الأراضي العراقية.
كان لسليماني الأثر البارز في تشكيل ميلشيات الحشد الشعبي الشيعي الذي أعلن تأسيسه رئيس الوزراء نوري المالكي السابق، وضم الحشد كتائب حزب الله العراقي وعصائب أهل الحق ومنظمة بدر وقوات الصدر، وهي قوات أشرف سليماني على تأسيسها في يوم من الأيام، كما أن بغداد لطالما اعترفت بالدعم الإيراني للحشد وتزويده بالأسلحة، وبهذا الصدد صرّح إن “الحشد الشعبي أوقف تقدم داعش، ومنع انهيار الجيش وسقوط بغداد، ولولا الدعم الإيراني لَكان الوضع في العراق صعبًا جدًا، وهذا الدعم الإيراني جدي وسريع، بسحب السلاح من بعض القطعات العسكرية الإيرانية ومن مخازنها”.
ظهر سليماني في المشهد العراقي في كثير من الأحيان أكثر من القادة العراقيين ليقود الحشد الشيعي وخاصة خلال المعارك الطاحنة التي تمكنت القوات الموالية له من هزيمة تنظيم الدولة في الموصل، إلا أن القضاء على “داعش” كان الذريعة التي أتاحت لقوات الحشد لارتكاب الجرائم والفظائع بتهجير وقتل السنة في المدينة بحجة تطهيرها من التنظيم الإرهابي، وحسب هادي العامري وزير المواصلات العراقي السابق ومسؤول قوات بدر، فإنه لولا سليماني “لكانت الحكومة العراقية في المنفى ولما كان هناك وجود للعراق”.
هذا الدور الذي اضطلع به سليماني في العراق لم يلقَ إعجابًا من استخبارات بلاده التي تخوفت من إجرام الرجل ووحشيته، وتذكر وثائق مسرية عن الاستخبارات الإيرانية عن دور قاسم في ارتكاب جرائم إبادة أثناء الحرب على داعش، فيما حذرت الوثيقة من اندلاع حرب طائفية فى العراق، بسبب سياسة سليماني التي وصفتها بالشريرة، وتوثق الأوراق المسربة أن رجال سليماني وأتباعه كان لهم دور في مجزرة جرف الصخر ضد السكان السنة. ويقول أحد الضباط الإيرانيين، إن “الجماعة العراقية نجحت فى هزيمة داعش، لكن انتصارها سرعان ما أفسح المجال أمام مذبحة عامة للسكان المحليين، ما حول حلاوة انتصار إيران إلى مرارة”.
مع نهاية الوجود الداعشي في العراق وتغلغل إيران وتراجع الدور الأمريكي برزت في أكتوبر من عام 2019 الانتفاضة العراقية التي تميزت أنها في المناطق الجنوبية التي هي معقل عناصر الحشد الشيعي الذي قاتل “داعش”، إلا أن الحالة الاقتصادية جعلت الشعب العراقي يثور ضد السياسيين والأحزاب منفذين الاعتصامات والمظاهرات، إلا أن هذه المظاهرات قُوبلت بعنف شديد أدى إلى مئات القتلى وآلاف الجرحى في صفوف المواطنين، وأكدت وكالة “أسوشيتد برس” أن قاسم سليماني، وصل إلى بغداد في أعقاب انتفاضة أكتوبر العراقية ووصل سليماني بمروحية إلى المنطقة الخضراء وترأس اجتماعًا سريًا بدلًا عن رئيس الوزراء عادل عبد المهدي بشكل مفاجئ، وخاطب سليماني المسؤولين العراقيين بالقول: “نعرف في إيران كيفية التعامل مع الاحتجاجات، وقد حصل ذلك في إيران وسيطرنا على الأمور”.
وبعد هذا الاجتماع ارتفعت وتيرة العنف ضد المتظاهرين مما يبين أن لسليماني الأثر الأبرز في محاولات إخماد مظاهرات الشعب العراقي وقتل متظاهريه، وذلك لشعور طهران “بقلق بالغ إزاء الاضطرابات في العراق ولبنان، معتبرة إياها تهديدًا لنفوذها الإقليمي، في الوقت الذي يعاني فيه اقتصادها من العقوبات الأمريكية الصارمة”، وأكد النائب في البرلمان العراقي، أحمد الجبوري “أن هناك غرفة عمليات يقودها مساعد قاسم سليماني، ويدعى حاج حامد ويتبعه القناصون الذين يستهدفون المتظاهرين، ويأتمرون بأمره بهدف قتل المحتجين السلميين”.
وثائق سربها موقع “الإنترسبت”، بمشاركة صحيفة “نيويورك تايمز الأمريكية”، وضحت الصورة المفصلة عن مدى عمل طهران بقوة على ترسيخ نفسها في الشؤون العراقية، وتتحدث عن الدور الفريد من نوعه الذي اضطلع به قاسم سليماني سليماني، وكشفت التسريبات التأثير الإيراني الكبير في العراق، كما أن هذه التسريبات عرضت تفاصيل عن كيفية قيام الجواسيس الإيرانيين لاختيار قادة البلاد، “من الضروري والضروري وضع بعض الحدود والحدود على العنف الذي يتعرض له السنة في العراق الأبرياء والأشياء التي يقوم بها السيد سليماني وإلا سيستمر العنف بين الشيعة والسنة “، “في الوقت الحالي، كل ما يحدث للسنة، بشكل مباشر أو غير مباشر، يُنظر إليه على أنه قد تم من قبل إيران حتى عندما لا يكون لإيران أي علاقة معها”، وفق “أنترسبت“.
ولعل أبرز استخدامات العراق بالنسبة لسليماني كان جعله ممرًا للسلاح الإيراني إلى سوريا ودعم نظام بشار الأسد، حيث زار قاسم وزير النقل العراقي الذي قال لقد جاء سليماني ليطالب بالتأييد: “إيران بحاجة إلى الوصول إلى المجال الجوي العراقي لنقل طائرات محملة بالأسلحة وغيرها من الإمدادات لدعم نظام بشار الأسد السوري في معركته ضد المتمردين الذين تدعمهم الولايات المتحدة”.
يُذكر أن قاسم سليماني أرسل مطلع عام 2008 رسالة إلى الجنرال ديفيد بترايوس قائد القوات الأمريكية في العراق حينها يقول فيها: “أنا قاسم سليماني أتحكم في السياسة الإيرانية المتعلقة بالعراق ولبنان وغزة وأفغانستان، والسفير الإيراني لدى بغداد عنصر من عناصر فيلق القدس، والسفير الذي سيحل محله عنصر أيضًا”.
العلاقة مع القاعدة
على الرغم من أن سليماني دمر المدن وطحنها طحنًا وأباد شعوبها بحجة وجود داعش الفرع الذي نشأ من رحم تنظيم القاعدة، فإن هذا الجنرال الإيراني كان من أبرز الأشخاص الذين بنوا علاقات مع التنظيم الإرهابي حتى إنه يوصف بـ”مهندس العلاقة بين القاعدة وإيران”، وذكر مقال بجريدة “صندي تايمز“، أن قاسم سليماني، هو الذي منح ملجأ لعائلة زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في إيران، بعد فرارها من أفغانستان عام 2001، كما “بنى سليماني لاحقًا مجمعًا سكنيًا في قلب مركز تدريبي في طهران، حيث قام التنظيم من خلاله بتجميع نفسه من جديد، واستطاع بناء شبكة تمويل بمساعدة من إيران، ونسق عددًا من الجرائم الإرهابية، ودعم سفك دم الشيعة في العراق على يد التنظيم السني الذي ولد لاحقًا، وهو تنظيم الدولة”.
يشير مقال “صندي تايمز”، إلى أن إيران “تدعم نظام بشار الأسد بنحو 4.5 مليار دولار سنويًا، فيما ساعد سليماني تنظيم القاعدة في التحرك لمساعدته ليناور بين الفصائل، ومن أجل تأليبها على بعضها، لتخرج إيران منتصرة من هذه اللعبة، حيث وجد تنظيم القاعدة في التدخل في سوريا وتخفيف خطابها والحد من وحشيتها نموذجه في قوات القدس وحزب الله اللبناني”. ويشير المقال إلى أن “سليماني كان الشخص الذي رتب العلاقة مع التنظيم وهندسها، حيث نقل سليماني خمسة من قيادات القاعدة البارزين، كانوا في طهران، إلى سوريا، بمهمة الاتصال مع قادة تنظيم الدولة، ومحاولة إحداث شق في داخله”.
مهندس التغيير الديمغرافي في سوريا
اتضح الوجود الإيراني في سوريا ممثلًا بقاسم سليماني منذ بدأت الثورة في مارس 2011، ولكن كان الحضور الفعلي لسليماني بمعركة القصير التي أدارها بنفسه، كما أن القوات الإيرانية وحليفتها من حزب الله وبإشراف مباشر من سليماني اتبعت سياسة عمليات الحصار والتجويع ضد المناطق التي استعصت عسكريًا على النظام، وبالفعل استطاعت المليشيات السيطرة على الكثير من المدن والقرى عبر تجويعها وقصفها بالبراميل حتى شهدت سوريا مأساةً إنسانية في شتاء 2013-2014 إذ تواردت صور الوفيات نتيجة لسوء التغذية من مضايا ومخيم اليرموك والغوطة.
نشرت مجلة نيويوركر تقريرًا يقول إن قاسم سليماني “يدير معركة السيطرة على مدينة القصير في ريف حمص من مبنى محصن بشدة، مكونًا غرفة عمليات تضم قادةً من جيش الأسد وقوات “حزب الله” ومليشيات متعددة الجنسيات من العراق وأفغانستان، يُذكر أن معركة السيطرة على مدينة القصير تمت بعد أن قتلت المليشيات مئات المدنيين ونكلت بالمدينة كما أنها دمرت جزءًا واسعًا منها بعد حصار خانق للمدينة، وبدأ الناس نتيجة لاشتداد الحصار بمغادرة القصير ليلًا والتسلل عبر البساتين للهروب من جحيم القصف على المدينة وقراها.
تذكر الـتقارير أن المليشيات الإيرانية واللبنانية إضافةً إلى جنود النظام قتلوا وقتها نحو ثلاثة آلاف إنسان من أهل القصير. وهو رقم يُعدّ الأعلى في سورية كلها قياسًا إلى نسبة عدد السكان، إذ إن الصواريخ كانت تسقط بكثافة، ونتيجة للقصف الهائل والمستمر تم تدمير أكثر من 90% من المدينة، وتهجير أهل القصير يعدّ من أكبر انتهاكات قاسم سليماني ومليشياته في سوريا، إذ إن مدنيي المدينة لم يعودوا إلى بيوتهم وبقي في المدينة بضع مئات من مواليي النظام و”حزب الله”.
ساهم سليماني بتشكيل ميليشيات “الدفاع الوطني” السورية الرديفة لقوات الأسد سيئة الصيت، وميليشيات مثل كتائب أبي الفضل العباس المؤلفة من سوريين وعراقيين، كما استقدم ميليشيات عراقية وبنى ميليشيات أفغانية ونجح الإيرانيون بقيادة سليماني في إنقاذ بشار الأسد من السقوط، وعلى الرغم من كل هذه القوات التي استخدمها سليماني ضد الشعب السوري، فإن المعارضة السورية قاومت وصمدت بوجههم حتى ذهب سليماني إلى روسيا والتقى بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأقنعه بالتدخل العسكري في سوريا بحسب ما قال تقرير لرويترز.
خرج قاسم سليماني مزهوًا بالسيطرة على مدينة حلب أواخر عام 2016، متجولًا على ركامها وفرحًا بانتصار بلاده وحليفها الأسد بدعم جوي روسي وميلشيات أفغانية عراقية لبنانية بالسيطرة على المدينة المهمة بكال الأصعدة للأطراف كافة، وتناقلت وسائل إعلام إيرانية صورًا مسربة لسليماني يتجول بين أحياء حلب المهدمة بفعل قصف قواته لها، قتل سليماني وحلفاؤه من أهالي حلب عشرات الآلاف كما نتج عن حربهم على المدينة أكبر عملية تهجير تحصل في سوريا.
لم يكن ظهور سليماني في حلب هو الأول من نوعه، حيث ظهر أكثر من مرةٍ في ميادين القتال على عدة جبهات، فقد أظهرت الصور وجوده في ريف حلب الجنوبي حيث تقاتل الميلشيات الشيعية، وزار جبهات ريف اللاذقية وريف حماة الشمالي، كما أظهرت المقاطع المصورة ظهوره على رأس مقاتليه لريف دير الزور وكان آخرها زيارته لمدينة البوكمال التي احتلتها إيران بالكامل، وساهم سليماني في تهجير الكثير من السوريين كما أنه غيّر الديمغرافية السورية بشكل عام مستوليًا على دوائر صنع القرار في دمشق.
في اليمن
كانت صنعاء محطة من محطات الأخطبوط الإيراني، فلم يفلت اليمن من الإجرام السليماني، إذ إنه ساهم وبشكل كبير في الحرب المشتعلة هناك، داعمًا الحوثيين ومقويًا لهم، وعلى الرغم من عدم وجود تأكيدات على زيارة سليماني لصنعاء، فإن اسم الجنرال الإيراني حضر منذ الأيام الأولى للحرب في البلاد، إلا أن وزير الخارجية الأسبق رياض ياسين، أكد أن سليماني ظهر في اليمن، فيما قالت “بي بي سي” إن سليماني وصل إلى صنعاء بعد مرور 48 ساعة فقط على انطلاق عاصفة الحزم التي أطلقتها السعودية والإمارات في اليمن دعمًا للحكومة الشرعية ضد الحوثيين.
بعد مقتل سليماني توعدت جماعة الحوثي أمريكا و”إسرائيل”، انتقامًا لقتلى الغارة الأمريكية وشهدت العاصمة اليمنية صنعاء، مسيرة حاشدة، تلبية لدعوة وجهتها الجماعة المدعومة من إيران، للتنديد بمقتل سليماني والمهندس، من جهته قال حزب الله اللبناني، إن الجنرال الإيراني قاسم سليماني أشرف على هندسة العلاقة بين إيران ومليشيا الحوثي الانقلابية، وقالت صحيفة الأخبار إن سليماني لعب دورًا بارزًا في تنمية الأواصر بين الطرفين وإيصالها إلى قمة التعاون، وأضافت أن قيادة الحوثيين الموجودة في الخارج كانت تجري مشاورات دائمة مع الرجل، ورغم أن زعيم الحركة السيد عبد الملك الحوثي والحاج قاسم لم يلتقيا أبدًا، فإنهما تبادلا الرسائل في العديد من المناسبات.
وعقد سليماني لقاءات مع قيادات في جماعة الحوثيين بالعاصمة اللبنانية بيروت، سبقت مقتله بغارة جوية وكانت تلك اللقاءات تهدف لتنفيذ عمليات في المياه الإقليمية اليمنية ضد سفن عسكرية أمريكية ودولية مختلفة، لتخفيف الضغط الدولي على إيران، وأوضحت وسائل إعلام محلية يمنية أن سليماني “كان يشعر أنه وبلاده في خطر، وأن الطريقة الوحيدة للضغط على الأمريكيين وإجبارهم على التفاوض هو تحريك الوكلاء والمليشيا لإفشال الانتفاضات المناهضة لإيران وأتباعها في البلدان العربية”.
يقول موقع “عدن نيوز”: “إجمالًا فإن سليماني كان مسؤولًا عن تصدير الموت والخراب إلى اليمن، منذ 15 عامًا، من الحرب الأولى للحوثيين بصعدة في 2004″، كما أشار إلى أن سليماني مسؤول “عن الحرب الدائرة اليوم في اليمن، من خلال تقديم الدعم والتدريب وتوريد الذخائر والقدرات لتطوير وتصنيع أنظمة الأسلحة الخاصة بها والتمويل”.
طريق القدس
لطالما تغنى سليماني بالقدس التي ضل طريقها، فشرّق حولها وغرّب إلا أنه لم يصلها، يقول الكاتب محمد عويس في مقال سابق على “نون بوست“، “يمثل الدعم الإيراني لفصائل غزة غطاءً على جرائم إيران في المنطقة تحت ذريعة دعمها للمقاومة في فلسطين، وحرصها على محاربة العدو الصهيوني، لا لشيء إلا لتغطية جرائمها في سوريا والعراق ولبنان واليمن، إلخ، كما قد يساهم التقارب في إبعادها عن تهمة الطائفية كون حماس حركة مقاومة سنية وهذا ما تأمله”.
السودان ممر التهريب لسليماني
ذكر بحث لـ مركز الروابط للبحوث والدراسات أن السودان أرض خصبة لحراك عناصر سليماني بتهريب الأسلحة مما يبين الدور الإيراني ووجوده في إفريقيا وأهميتها بالنسبة لمشروعهم، ويذكر البحث أنه “يُمكن اعتبار السودان إحدى الدول المهمة والمراكز اللوجستية في نقل الأسلحة الإيرانية، كانت إيران موردًا رئيسيًّا للأسلحة لنظام البشير ودعمته ضد الجماعات المتمردة في جنوب السودان ودارفور التي ارتكبت فيها مجازر عديدة ليكون لإيران عبر أذرعها دورٌ وإوغال في الدماء هناك.
عام 2007، وقّعت الدولتان (إيران-السودان) اتفاقية للدفاع المشترك، التي شملت توريد الأسلحة مثل القذائف الصاروخية والطائرات بدون طيار”. تشير بعض الأبحاث إلى أن السودان أصبح مركزًا لصناعة الأسلحة الصغيرة والقذائف الصاروخية وقذائف المورتر والصواريخ قصيرة المدى، عبر موارد الدعم الإيراني، وهو ما مكّن السودان من أن يكون موردًا مباشرًا للأسلحة لعملاء إيران، وليس مجرد محطة عبور للأسلحة.
أخيرًا: فأنّ ما أشرنا له من الإرث الدامي للجنرال الإيراني إنما هو ما تبين في وسائل الإعلام وتكشّف للمتابعين، وربما تفصح الأيام المقبلة عن المزيد من وقائع وحشيته الفظيعة، من أجل ذلك كان الفرح بموته حاضرًا والبهجة غامرة في نفوس كل من تأذى أو تهجر أو أصيب، فكل ذلك مرجوعٌ إلى الأفعال التي ارتكبتها المليشيات التي أسسها وأطلق لها العنان. والآن طُويت صفحة سليماني بطائرة أمريكية من دون طيّار سحقته على عجلٍ، على أمل من الشعوب المقهورة أن تُطوى صفحات سوداء وقاتمة أخرى في طريق تحرر الشعوب من جميع الطغاة.