قبل أيام تفاعل الآلاف مع وسم #الجنينة_تنزف على مواقع التواصل، عشرات من مقاطع الفيديو والصور والتحليلات، التي خلقت في النهاية مساحات مزعجة من التشاؤم تجاه قدرة الثورة وحكومتها على التأثير والتغيير من فلسفة الأمن والقائمين عليه، بعدما خلف صراع قبلي بولاية غرب دارفور نحو 40 قتيلًا وأكثر من 60 جريحًا، في وقت أصبح الصراع القبلي عنوانًا عريضًا للانفلات الأمني وربما التواطؤ أو التحيز للسلبية واللامبالاة في عصر لم يسد فيه الأمن.
دماء في كل مكان.. من المسؤول الحقيقي؟
مع ندرة المعلومات الموثقة، تصعد دائمًا لغة المؤامرة في السماء، كل ما حدث لم يضع أي جهة تنفيذية معنية أمام مسؤولياتها، لتكشف بتجرد وشفافية ماذا حدث ومن المسؤول عنه، حتى تحركت هيئة محامي دارفور واتهمت مليشيا مسلحة ـ لا تعمل بمفردها ـ بالتورط في الهجوم علي معسكر كرنديق، استغلالًا لجريمة جنائية عادية وقعت بين شخصين، وعلى الفور اتخذته ذريعة لارتكاب واحدة من أفظع الجرائم الإنسانية، من قتل وتهجير قسري لقاطني المعسكر.
مع تطور الأحداث، ونشاط ما بات يعرف الآن بالمواطن الصحفي الذي يمطر وسائل التواصل الاجتماعي بعشرات المواد المصورة من مسرح الأحداث في غياب الأجهزة الإعلامية الرسمية، بدأت تظهر معلومات إضافية، تؤكد أن المجرمين المطلوبين للعدالة عناصر ليست قبلية، وإنما أصحاب ممارسات إجرامية، لم تكن تستطيع التعبير عن نفسها والتوغل في القتل وإراقة دماء السودانيين العزل، إلا في وجود والي ومسؤولي أمن في ولادية غرب دارفور، تقاعسوا عن واجباتهم ومسؤولياتهم في حفظ الأمن والسلامة العامة.
كان لافتًا حالة الوعي والخبرة المتراكمة للسودانيين في التعامل مع هذه الأزمات، حيث وجهت القوى السياسية والنشطاء الاتهام بشكل مباشر لقيادات الأجهزة الأمنية بالولاية وطالبوا باسبتعادهم والتحقيق معهم، دون أن يؤثر ذلك على إجراءات الملاحقات القانونية لمن تثبت صلته بالأحداث، فما حدث يخدم مخططات إبادة جماعية جاهزة في الأدارج، لا سيما أن نفس السيناريو جرى تطبيقه من قبل في اعتصام القيادة العامة، وهو نفسه المخطط الذي جرى عام 2003 مع بداية الصراع في إقليم دارفور.
لم تقتصر الأزمة الأمنية على الجنينة وحدها، ولكن الأحداث تتكرر وفق سيناريو رديء، أعيد إنتاجه في أحداث بورتسودان التي اشتعلت قبل أشهر لنفس الأسباب الواهية (احتكاك قبلي) وهي نفسها التي فجرت أحداث كادقلي وأسفرت عن قتلى وجرحى في وقت متزامن مع أحداث الجنينة، وفي كل مرة تكون نهاية المشاهد عشرات بل ومئات القتلى والجرحى، في غياب شبه تام لقوات الشرطة والأجهزة الأمنية المعنية، الذين لا يذهبون غالبًا إلى مسرح الجرائم إلا بعد نهاية “الطحن” وظهور نتائج الكارثة.
بعدها تتجدد البلبلة في البلاد وتتزايد أحاديث النميمة عن ماهية المتهم الحقيقي، وإن كان ينتمي لقوات الدعم السريع أو سلطات الولايات أو مروجي الفتن أو المتواطئين مع الجرائم أو لاعب جديد تمامًا لا أحد يعرف من هو ولا ما مطالبه، وبين هؤلاء جميعًا يتفرق دم السودانيين.
ظاهرة الباعة الجائلين.. العنوان الأبرز للانفلات الأمني
تعد ظاهرة الباعة الجائلين واحدة من أسوأ المشاهد التي أعقبت الانتفاضة السودانية، وتكشف بجلاء عن التدهور أو التقاعس الأمني، وخاصة إذا استمرت في ظروف من المفترض أن لا تسمح للظاهرة بالاستمرار، بعد تشكل الحكومة والتوافق مع المجلس العسكري على وثيقة تحفظ حقوق كل الأطراف ـ ولو بشكل مؤقت ـ واستقرار أجهزة الدولة، وفي الحالة السودانية، يحتل الباعة الجائلون الطرق العامة ويحولون الاتجاه الواحد إلى اتجاهين ويغلقون طرق المرور ويتسببون في فوضى مرورية غير مسبوقة، في غياب تام لشرطة المناطق والمرور، حتى عن المرتكزات الأمنية التي كانوا ينتشرون فيها إلى وقت قريب.
الباعة الجائلون، ظاهرة تكثر في الدول الشمولية المتخلفة، حيث لا تعترف بهم الحكومة، باعتبارهم غير معرفين في النظام الضريبي للدولة، وبدلًا من التعامل معهم في إطار القانون والبحث عن حلول عادلة تحافظ على آدميتهم وتنمي قدراتهم وتطور منها وتحفظ الأمن وسلطة القانون في الوقت نفسه، تُكلف الأجهزة الأمنية بالهجوم عليهم من وقت لآخر وشن حملات مطاردة بدائية تسلبهم متاعهم وأرزاقهم وتمنعهم من العمل لمدة مؤقتة، ويعود الحال كما كان، بعد أيام قليلة، وربما بعد ساعات من انتهاء الحملة.
في السودان كان نظام البشير لا يملك قاعدة إنتاجية، وبالتالي تعامل مع الباعة الجائلين بنفس الطريقة المتعارف عليها في بلدان المنطقة بالقمع تارة والمهادنة والتغافل عنها تارة أخرى، ومع سقوط البشير واستمرار دولته العميقة، لم تتغير آلية التعامل مع هذه الظواهر المتمثلة في قوانين وأشخاص وممارسات موروثة، وأصبح القول الفصل في إحلال القانون على جميع المستويات، سواء في الأسعار أو لإجلاء الباعة عن بعض المناطق لفتح الطريق، متروك لسلطة الشارع والناس.
المراقب للأداء الأمني في البلدان العربية، وخاصة التي طالتها رياح التغيير في الثورات العربية، يجد أن هناك أداءً شبه متطابق، يجمع بين التراخي واللامبالاة بعد نجاح الثورات في اقتلاع رؤوس الأنظمة، خاصة إذا عرفنا أن الانعزال والتقوقع وربما التآمر من الأجهزة الأمنية على الثورات، له أسباب نفسية، سواء في الشعور بضياع الهيبة والمكانة والنفوذ والمكاسب القديمة أم بسبب التعرض لجرعات عالية من الإساءة والتجريح باعتبار الأمن بكل فئاته كان دائمًا سلاح البطش في يد كل سلطان جائر.
وبحسب الإرث القديم الذي يدخل الثورات في حسابات صعبة، لا تخضع المنظومة الأمنية المعقدة داخل البيرواقراطية الاستبدادية لأي حكومة مدنية، سواء كانت شكلية في العصور البائدة أم التي تشكلت حديثًا بعد نجاح الثورات، ففي السودان على سبيل المثال تقع مسؤولية حفظ الأمن على عاتق المكون العسكري في المجلس الانتقالي.
تكشف الوثيقة الدستورية التي اتفق عليها بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، أن مجلس السيادة هو رأس الدولة ورمز سيادتها ووحدتها وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة وقوات الدعم السريع و”القوات النظامية الأخرى”، وفي فقرة أخرى تضمن الوثيقة لجهاز المخابرات العامة في أن تختصر مهامه في جمع المعلومات وتحليلها، وتقديمها للمكون العسكري في مجلس السيادة فقط، دون أن يكون للحكومة سلطة عليه أو أن تنتفع بخدماته، ما يجعل قوات الشرطة في النهاية غير تابعة لرئيس الوزراء، وبالتالي لا يمكنه الوقوف على ما يحدث معلوماتيًا وأمنيًا، ومن ثم تحديد المسؤول عن الانفلات والمجازر التي تحدث في البلاد، مع أن الحكومة المدنية هي التي ستتحمل المسؤولية كاملة في النهاية، ومعها يتم تحميل الثورة بكل نقيصة، تمهيدًا للقضاء عليها عند أول فرصة تمكن الدولة العميقة من ذلك.
الإصلاح الأمني.. آمال وطموحات
رغم قتامة الأوضاع الأمنية وصعوبة التعامل معها في البلدان العربية، فإن الابتكار في ضرورة إصلاح مؤسسات الدولة وعلى رأسها المؤسّسات الأمنية، يجب أن يخضع لمناقشات علمية هادئة، فتطور دور الأجهزة الأمنية في العالم العربي، وخاصة البلدان التي ما زالت تنبض بروح الثورات، مرتبط دائمًا باللعب على عنصر الوقت والمقاربات الحديثة لتطوير العمل الشرطي.
أول طريق الإصلاح الأمني، إخضاع المنتسب للأمن للمحاسبة، عبر ترسانة من التشريعات تلزمه بشروط النزاهة ومقتضيات الشفافية، أو المحاسبة القضائية، وهناك عشرات الأبحاث المنشورة في دوريات بحثية عربية وعالمية، تتناول كيفية تطوير الأجهزة الأمنية، وأغلبها يؤكد أهمية الشراكة بين المجتمع المدني والشرطة، بما يضمن التعاون بينهما على مستويات متعددة.
وتحدد التشريعات المطلوبة، نطاق الإشراف الشرطي على الحياة الاجتماعية، عبر نصوص قانونية محددة، تحد في النهاية من السلطة التقديرية للجهاز الأمني، واعتماد مبادئ بدائل استخدام القوة ومشروعيتها ومقدار ضرورتها عند تطويق الحشود ومواجهة المظاهرات وغيرها، بشكل يجعل من حياة الفرد والحفاظ على سلامته مدخلًا للمحاسبة الفعالة على عمل الشرطي.
يمكن القول إن اكتمال إصلاح الجهاز الأمني، مشروط دائمًا بإعادة النظر في السياسات والنظم العقابية وبرامج الإصلاح والتأهيل التي تتلاءم مع القوانين والمواثيق الدولية، على أن يمارس البرلمان دوره في اتخاذ كل التدابير اللازمة لضمان الرقابة الديمقراطية على قطاع الأمن وإلزام السلطات بالتحقيق العادل في أي انتهاكات لحقوق الإنسان ومعاقبة مُرتكبيها، وفي نفس الوقت الاهتمام برجل الأمن ورعايته اجتماعيًا وصحيًا وحفظ هيبته خلال أدائه لمهامه وواجباته، لا سيما أنه حجر الزاوية في العملية الأمنية والاقتصادية، والاهتمام به وإدارته بأسلوب يتلاءم مع التطورات المتلاحقة في المجال الإداري والأمني، سيؤتي ثماره دون شك!