شكلت الضربة الصاروخية الإيرانية أحد مستكملات الصراع الذي بدأ منذ القصف الذي طال قاعدة كي 1 في كركوك في 27 من ديسمبر الماضي، وجاءت بصيغة الضربات الصاروخية التي تعتمدها الفصائل الفلسطينية بالرد على الهجمات الإسرائيلية، التي غابت عنها الدقة والتوجيه والأثر التدميري، وهو ما يعني أن هناك توجهًا لتحقيق آثار سياسية – إعلامية – رمزية من هذه الضربة، بعيدًا عن الآثار التدميرية أو العسكرية التي روجت لها الدعايا العسكرية الإيرانية قبل وقوع الضربة.
كانت هناك رغبة واضحة من القائمين على القرار الأمني في إيران، بعدم الذهاب نحو خيارات عسكرية قد تجبر واشنطن على الرد أو حتى التفكير به، ويبدو أن صانع القرار أخذ بعين الاعتبار أن البيئة الوحيدة المهيأة للصراع هي العراق، وبالتالي فإن الرد الإيراني إذا كان قويًا سيقابله رد أمريكي مؤكد، ومن ثم فليس واردًا الرد في العراق مرة أخرى، وهو ما جعل هناك حرصًا بعدم استفزاز أمريكا أو جرح هيبتها أمام العالم.
نجحت القيادة الإيرانية في إدارة الأزمة، من خلال تهيئة البيئة الداخلية والخارجية لإمكانات الرد الإيراني، وعلى الرغم من الصورة الهزيلة التي ظهرت عليها الصواريخ الإيرانية، فإن الغاية بالنهاية هي الرد بغرض الرد لا أكثر، وهو ما كان يطمح إليه القادة في إيران، فليس من المؤكد إذا كانت القيادة الإيرانية تدرك تمامًا أن الضربة الأمريكية الثانية قد تكون ضمن قدرة إيران على استيعابها، وهو ما أوضحته التصريحات الإيرانية التي اتسمت بالتطرف والتهديد والوعيد، بل والأكثر من ذلك ذهبت باتجاه ضم دول أخرى كالإمارات العربية المتحدة و”إسرائيل” ضمن بنك الأهداف الإيرانية المستقبلية، وهو ما يعني تخوفًا إيرانيًا من أن الولايات المتحدة قد تذهب بعيدًا عن قناعات وتصورات قادة الحرس الثوري.
بدأت الدبلوماسية الإيرانية جهودًا في تخفيف التوتر، تمثلت بإسقاط تهمة التجسس عن أكاديمية اجتماعية فرنسية “فابيريكا عدلخاه” اعتُقلت العام الماضي في طهران بتهمة التجسس
فالصواريخ الإيرانية المستخدمة في عمليات الهجوم الأخير ليست صناعة إيرانية، إذ استخدمت صواريخ “قيام” مداه 800 كيلومتر، و”فاتح 313″ مداه 500 كيلومتر، وهي صواريخ أرض أرض كورية شمالية الصنع، تم استيرادها منذ ثمانينيات القرن الماضي، وأدخلت مؤسسة الصناعات الدفاعية الإيرانية تحديثات عليها بصورة مستمرة، وهي كما أشار حسين دهقاني تمثل فخر الصناعات العسكرية الإيرانية التي تم كشفها في الذكرى الـ40 لانتصار الثورة الإيرانية عام 2019، إلا أنها لم تحقق الغاية النهائية منها، كون أنه من مجموع 30 صاروخًا أُطلقوا، 8 صواريخ سقطت داخل الأراضي الإيرانية، و2 في مدينة أربيل، وما يقرب من 20 صاروخًا ضل طريقه في مناطق محيط وما بعد قاعدة عين الأسد، دون رؤوس تفجيرية أو حتى رؤوس استشعارية للإصابة الدقيقة.
وبالتوافق مع بدء الضربة الصاروخية، بدأت الدبلوماسية الإيرانية جهودًا في تخفيف التوتر، تمثلت بإسقاط تهمة التجسس عن أكاديمية اجتماعية فرنسية “فابيريكا عدلخاه” اعتُقلت العام الماضي في طهران بتهمة التجسس، وتصريح نائب وزير الخارجية الإيراني عباس عرقجي بأن إيران متمسكة بالاتفاق النووي، وحتى تصريح وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بأن الرد الإيراني جاء متوازنًا وحقق الأهداف الإيرانية بالنهاية، محذرًا الإدارة الأمريكية من الرد.
وفيما يخص حادثة سقوط الطائرة الأوكرانية التي جاءت مترافقة مع إطلاق الصواريخ الإيرانية على قاعدة عين الأسد، التي راح ضحيتها 82 إيرانيًا و63 كنديا و11 أوكرانيا و10 سويديين و4 أفغان و3 ألمان و3 بريطانيين، لتضيف بدورها أزمة أخرى قد تشهدها إيران مع بيئتها الخارجية في الأيام القادمة، خصوصًا بعد رفض السلطات في إيران تسليم الصندوق الأسود للطائرة المحطمة إلى الولايات المتحدة، وعلى الرغم من إعلان السفارة الأوكرانية في طهران، أن الطائرة سقطت نتيجة عطل فني في المحرك، فإن الشكوك تحوم حول إمكانية قيام منظومة الدفاع الجوي الإيرانية بإسقاطها عن طريق الخطأ، حسب ما أشارت صحيفة الديلي ميل البريطانية، خصوصًا أن الضربة الصاروخية أحاطتها حالة من عدم التنسيق بين الجيش الإيراني والحرس الثوري، وقد تكون منظومات الدفاع الجوي التابعة للجيش الإيراني قد اشتبهت بجسم غريب دخل الأجواء الإيرانية وهاجمتها، فضلًا عن إمكانية إصابة أحد الصواريخ المطلقة بها، وما قد يزيد من صحة فرضية هذه الآراء، رفض إيران تسليم الصندوق الأسود للطائرة.
في مقابل ذلك لاقت الضربة الإيرانية ردود فعل دولية، ففي الوقت الذي أدانتها بريطانيا ووصفتها بالهجمات “المتهورة والخطيرة”، أدانتها فرنسا أيضًا داعية إلى “خفض التصعيد”، كما تحدث وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل في كلمة له من بروكسل أن “الهجمات الصاروخية الأخيرة على قاعدتين في العراق تستخدمهما القوات الأمريكية والتحالف، بينها قوات أوروبية، مثال جديد على التصعيد والمواجهة المتزايدة”، وحذر من أنه “ليس من مصلحة أحد مفاقمة دوامة العنف أكثر”، وبالإضافة إلى ما تقدم أدان الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ من جهته الضربات الصاروخية الإيرانية، وقال في تغريدة له عبر تويتر: “أدين الهجوم الإيراني بالصواريخ على القوات الأمريكية والتحالف في العراق”، مشيرًا إلى أن حلف الأطلسي يدعو إيران إلى الامتناع عن التصعيد.
ويبقى القول إن خيار الحرب سيبقى قائمًا حتى يجلس الطرفان على طاولة المفاوضات، فالتحضيرات العسكرية الأمريكية في العراق والكويت وقاعدة دييغو غارسيا على المحيط الهندي من جهة، وتأمين إيران قواتها البحرية على مضيق هرمز، واستخدام الرمزيات الدينية والعسكرية في أثناء جنازة سليماني من جهة أخرى، توحي بأن هناك تطورًا عسكريًا كبيرًا من الممكن أن يحصل في أي وقت، وقد لا تستطيع دول المنطقة تحمل أكلافه العسكرية والأمنية وحتى البشرية.