ضحكنا كثيرًا مع الممثل المصري سعيد صالح وجملته الشهيرة: “ما أنا بكرة هتجوز، وأخّلف ويبقى عندي عيال، وديني لأقطع عنهم المصروف، وديني لهشردهم في الشوارع واحد واحد، بس لما أشوفهم”، قالها بمسرحية “العيال كبرت” في إطار غضبه من والده، حين قطع عنه مبلغ النفقات اليومية “المصروف”.
منذ العام 1979 وتلك الجملة مصدر للضحك رغم معناها المأساوي، فهي تعبر عن دائرة العنف وكيفية توجيهه في بلاد طغى عليها الاستبداد، فجعل الناس – على الرغم من كراهيتهم له – يوجهون غضبهم لناحية أخري، فيعادون الأقرباء وأبناء المجتمع الواحد وحتى الغرباء، متغافلين عن المسبب، حتى أصبحت طريقة تفكيرهم وسلوكهم “مَثَلُهم مثل الكلاب الأهلية، يريدون منها الحراسة والشراسة، فيربطونها نهارًا ويطلقونها ليلًا، فتصير شرسة”.
من أين جاء العنف؟
تعجب صديقي من نفسه عندما استطاع – وهو في عمر الثلاثين – إعادة تركيب إحدى الأدوات المنزلية المعقدة، لأول مرة، والتي اعتبرها طوال حياته لوغاريتمات أو مهارات حياتية غير مهمة طالما هناك من يستطيع أداءها عنه، لكن في اللحظة التي تمكن من إتمام المهمة باحترافية تامة، كما لو كانت عادة، تذكر كل من مروا عليه، صورًا ذهنيةً كثيرةً، فهو منذ سن التاسعة يرى تلك الصيانة على الأقل مرة أسبوعيًا.
تلك لم تكن حدوتة قبل النوم لكنها الرابط بين جملة سعيد صالح ومحاولة وصفها، حيث التعود ومعايشة توجيه العنف والغضب لغير مستحقيه، إذ ترتبط بنا سنوات من صور العنف والقهر الذي زرعته دولة الاستبداد داخل عقولنا، كبدائل ووسائل حياتية يمكنك استخدامها عند الضرورة مع شرط امتلاك القوة، كما أن الديكتاتورية أيضًا جعلت معنى “عند الضرورة” مفتوحًا ومبهمًا، لذا تركتنا نتفق أن في عصر الديكتاتور كل منا له “عند الضرورة” الخاصة به، فهانحن امتلكنا أساليب للتنفيس عن الغضب، موجهًا لهدف خاطئ، فنجد وسائل خاطئة وطريقًا ملتويًا.
مختصر تاريخ العنف المصري – (عصور الزراعة)
كان مبارك رئيسًا لمدة 30 عامًا، خلالها أطاح جهاز مباحث أمن الدولة والشرطة المصرية بآلاف المعارضين والضعفاء قليلي الحظ، ومن ليس له “ضهر”، ومن قبله كان عبد الناصر والسادات، رؤساء ثلاث حكموا بنفس سياسة قهر المعارضين و”اضرب المربوط يخاف السايب والمربوط”، حيث أجمعوا على أن العنف وسيلة ضرورية، قبيحة أحيانًا، لكن الضرورات تبيح المحظورات، علنًا أو سرًا.
لم تزل صور القهر تتردد في عقول الجميع، كل من عانى فعليًا أو شاهد أو حتى سمع، وُرّثت في همسات بين الوالدين يتبعها نظرات الندم، فهذا الموضوع “يودي ورا الشمس”، كما وُرّثت في أفلام عرضت بعضًا من الواقع، رآها الجميع سرًا لأنها محظورة، كثير من الأشياء وُرّثت غضب مكتوم، فالكل جرب أو رأى أو سمع، والكل يدري لكن هذا من لا يجب ذكره.
الثورة “الحصاد”
جاءت 2011 ولم يكن فتيل الثورة وشرارتها فقط ما انطلق، إذ يمتلك الملايين صورًا ذهنية مخزنة، سواء من تجربة شخصية أو من خلال السمع، ابتداءً من التي تحمل الرغبة في مواجهة ضابط مرور فاسد يحتال طمعًا برشوة، إلى معارض سياسي ينتظر لحظة الهتاف وتفريغ الغضب، وهي أسباب شخصية بحتة جمعت الكل على شيء واحد هو الانتقام من الديكتاتور في صوره كافة، لكن هل كان حقًا الانتقام موجهًا نحو الديكتاتور؟
اللجان الشعبية: “وعينك ما تشوف إلا النور”
جاءت بعض المناسبات مناسبة للتفريغ بصورته التي ذكرناها مسبقًا، دائرة توجه ناحية الأضعف، فمثلًا جمعت الفترة الأولى من الثورة المصرية، فترة الذهول الأولى لمجتمع لم يتوقع ونظام لم يتنبأ بأحداث أدت إلى وجود ما يسمى باللجان الشعبية، فليس هناك وجود أمني في الشوارع، وكل واحد “على دراعه”، حيث تجمع الأهالي في ملحمة جميلة من التكاتف لحماية أحيائهم وشوارعهم.
إلى جوانب اللجان الشعبية الإيجابية، إلا أننا نجد في التفاصيل بعضًا من التعطش “للمريسة” والتصرف بطريقة مشابهة لما اعتادها أفراد الشرطة في كمائنهم وحملاتهم، حيث ظهرت على الواقفين إمارات مخيفة لا تخطئها عين، اللهجة الحادة، اللغة الجسدية الهجومية، والخطاب السلطوي المتعالي، وتعمد إجراءات متعسفة تجاه العابرين، بل وصل الأمر في بعض الأحيان إلى استخدام الإهانات اللفظية والاعتداءات الجسدية.
براءة الثورة
جرت أحداث مشابهة في كثير من التظاهرات والمسيرات، حيث درج منظموها على التوقف عند ارتيابهم في سلوك أحد السائرين، كان هناك دائمًا من يتطوعون لتوقيف الشخص المشكوك فيه واستجوابه بغلظة وتسلط وتفتيش أغراضه وملابسه، وأحيانًا احتجازه والاعتداء عليه.
ما بعد
عقب الثورة بسنوات، تأكد أن الجميع تقريبًا كان قابلًا لاستخدام العنف أو كان قد استخدمه بالفعل أو أيده في مرحلة من المراحل، سواء كان من اليسار المصري أو الإسلاميين أو حتى غير المنتمين، إذ انفجر مخزون عنف السنوات في اتجاهات مختلفة، وتم استخدامه إفرازاته في الغالب ضد المخالفين للمعتدي في المبدأ أو التأييد، تعصبًا لأفكار وحتى قرارات أثبتت السنوات القليلة التالية أن معظمها خاطئ.
لم يتوقف العنف باندلاع الثورة، فقد علوت درجاته وازداد قبحًا يومًا بعد يوم، وأصبحت المساءلة الجنائية أو إيقاف الاستبداد مجرد أحلام، ففي الواقع المصري الآن لا يأمن – حتى المؤيد – التعذيب والاعتقال بغير وجه حق.
تحول الضحية إلى جلاد
وضحنا كيف تحولت الصورة الذهنية وتجربة الواقع الموروث المليء بالعنف إلى أفعال مرئية وملموسة، وكيف يتجه العنف والغضب إلى غير مستحقيه عندما تجد الفرصة لتفريغه، في هذا الخصوص، يقول العلماء بأن اللحظات الأولى من التعذيب النفسي والجسدي الذي يمارسه الجلاد، تعجز الضحية عن التصرف وسط الخوف والقهر وقلة الحيلة وعدم القدرة على الدفاع عن النفس، ولا يبقى أمامهما سوى خيارين لا ثالث لهما:
-
المقاومة والانتقام:
في هذه الحالة تستطيع الضحية مواجهة الموقف مع الاحتفاظ بكامل وعيها، وبالتالي خوض معاناة شديدة إلى أن تأتيها فرصة التمرد على الجلاد والتخلص من قهره، عن طريق الثأر والانتقام واسترداد الكرامة المهدرة، حيث لا تستريح الضحية أبدًا إلا بالقصاص والاطمئنان إلى تحقيق العدالة غير المنقوصة، وتسويم الجلاد بعضًا مما اقترف.
-
التوحد مع الجلاد والتحول/ متلازمة ستوكهولم:
في هذه الحالة، يتم طمس وعيها وتشويهها بحيث تتمكن من استقبال الواقع بشكل جديد، أقل إيلامًا، فُتعجب بالجلاد وتنظر إلى صلابته وسطوته بكثير من التقدير، ثم تتوحد معه تدريجيًا، مقتنعةً أنه يمارس عمله وواجبه حتى إن كان يأذيها.
تسمى حالة التعاطف مع الجلاد والإعجاب به بـ “متلازمة ستوكهولم”، أطلق عليها الاسم بسبب واقعة شهيرة جرت في بنك “كريديت ستوكهولم”، إذ سطا بعض اللصوص على البنك واحتجزوا الموجودين فيه، وبمرور الوقت نشأت علاقة غريبة بين الطرفين، فقد راح المحتجزون يتقربون من اللصوص ويبدون الإعجاب بهم، حتى وصل إلى حد معاداة الشرطة من أجل توفير الحماية لهم.
في كلتا الحالتين، غالبًا ما تختزن الضحية تجربتها إلى أن تصبح في موقف يسمح لها بقمع الآخرين، لتستخدم ما في وعيها من مكونات سلوكية ونفسية متعلقة بالجلاد – خاصةً في حالة التوحد -، فيمارسون أساليبه بسلاسة متناهية، كما لو تدربوا عليها لسنوات، دون أن يبصروا التغيرات التي تحدث لهم والمشهد الذي يتحول للنقيض.
شهدت مصر حالات مشابهة، صار فيها ضحايا نظام ما قبل الثورة جلادين جددًا، حيث تروي لنا بعض شهادات واحدة من أحداث العنف الشهيرة، أن الضحايا القدامى أقاموا غرفًا لتعذيب مخالفيهم، كما تولوا تأمينها وغربلة الداخلين فيها، مستعينين بأفراد من الشرطة – الجلاد القديم – لإتمام تلك المهام.
ختامًا، قال لي حكيم ذات مرة “لا تصبح عبدًا لماضيك”، لكنه ليس بالهين! فما نحن عليه الآن ما هو إلا تراكم للماضي، للخبرات الحياتية التي مررنا بها، وهناك من التراكمات ما لا نستطيع التخلص من تأثيرها علينا وعلى من حولنا دون التماس المساعدة، لكن المساعدة لا تأتي إلا بعد إدراك لما نحن عليه والاعتراف به، وأحيانًا بعد طلبها.
في النهاية، حاولنا في هذه السطور إدراك الحالة التي وصل إليها المجتمع المصري، كأولى خطوات البحث عن العلاج من العنف وانعكاساته.