في جولة مفاوضات جديدة لاستئناف مباحثات سد النهضة اجتمع وزراء الموارد المائية والوفود الفنية من الدول الثلاثة (مصر، السودان، إثيوبيا)، وبمشاركة البنك الدولي، أمس الأربعاء، في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، لاستكمال مناقشة بعض المسائل الفنية الخاصة بقواعد الملء وعملية التشغيل.
تعد هذه الجولة التي من المقرر لها أن تستمر يومين، 8 و9 من يناير الحاليّ، الرابعة من نوعها منذ اتفاق وزراء خارجية الدول المعنية في واشنطن في 6 من نوفمبر الماضي على خريطة عمل، تنتهي باجتماع من المقرر عقده في العاصمة الأمريكية في 13 من يناير الحاليّ.
هذا الاجتماع وفق الاتفاق لا بد أن ينتهي إلى خيارين لا ثالث لهما: إما وضع اللمسات الأخيرة لاتفاق شامل ودائم بين الدول الثلاثة بشأن ملء بحيرة سد النهضة وقواعد تشغيله، والآلية التي ستتم من خلالها مراقبة تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، أو الاتفاق على تمديد المفاوضات بطلب من الراعي الأمريكي لها، لفترة محددة أخرى، بعد تقييم ما تم إنجازه خلال المفاوضات الفنية.
التصريحات الواردة بشأن اجتماعات اليوم الأول تشير إلى تمسك كل طرف بمواقفه السابقة التي عمّقت الخلاف بين القاهرة وأديس أبابا، هذا في الوقت الذي قدمت فيه الخرطوم مقترحًا لتقريب وجهات النظر في الوقت الذي تتصاعد فيه الخلافات بالشكل الذي ربما يغطي على أجواء التفاؤل الخارجي.
أجواء تفاؤلية
دخل ممثلو الدول الثلاثة جولة المفاوضات الحاليّة وسط حالة من التفاؤل في أعقاب مخرجات اللقاء الذي جمع بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، على هامش قمة سوتشي الروسية التي عقدت في 23/24 من أكتوبر الماضي، لكنه ووفق البعض تفاؤل مشوب بالترقب في ظل تصاعد منسوب فقدان الثقة في مثل تلك الأجواء التي تتناقض بشكل كبير مع ما يمارس على أرض الواقع.
تلك الأجواء سادت الجلسة الافتتاحية أمس بقرب الوصول إلى اتفاق في القضايا العالقة، حيث تضمنت كلمات الوزراء التأكيد أن التعاون وتحقيق التنمية لشعوب المنطقة هو الهدف النهائي من المفاوضات.
وزير الري والمياه الإثيوبي سيلشي بقلي كشف في كلمته الافتتاحية أن بلاده سلمت مصر والسودان أكثر من 150 وثيقة تتضمن تصاميم ودراسات عن السد، تم فحصها بطريقة شفافة وبمشاركة خبراء دوليين من بريطانيا وفرنسا وألمانيا وجنوب إفريقيا.
حرصت القاهرة عبر ممثلها وزير الموارد المائية والري محمد عبد العاطي، على تجاوز النقاط الخلافية في محاولة للدخول مباشرة في المسائل الفنية
وأضاف أن هذه البادرة الإثيوبية ساعدت على إبقاء المفاوضات حية بين الخبراء التقنيين في الدول الثلاثة الذين قدموا توصياتهم إلى وزراء المياه مع اقتراب نهاية المفاوضات الفنية، منوهًا إلى أن القضايا المتبقية من “مسؤوليتنا نحن كوزراء، وتبقى أمامنا كفرصة تاريخية لإظهار أن السلام والرخاء والازدهار يأتي من خلال التعاون”.
وتابع بقلي “الفقر يأتي من خلال انعدام الثقة والإقصاء، وشعوبنا بحاجة ماسة إلى التنمية، وهي أيضًا فرصة ومسؤولية علينا نحن الوزراء لإيجاد حلول فنية للمشاكل الفنية مهما كانت معقدة.. لا أعتقد أن الحل السياسي هو الحل الأمثل لهذه القضايا ما دام بإمكاننا إيجاد حلول فنية”.
من جانبه أكد وزير الري والمياه السوداني ياسر عباس، أن اليوم الأول من الاجتماع ناقش مقترحات الدول الثلاثة الخاصة بعمليتي ملء وتشغيل سد النهضة الإثيوبي، موضحًا في بيان صادر عن وزارته أن المناقشات حظيت بقدر كبير من الحوار، وأن السودان قدم مقترحًا جديدًا بخصوص عمليتي ملء وتشغيل سد النهضة بُني على مقترحها السابق، الذي طرحه في اجتماعي القاهرة والخرطوم إلى جانب بعض التعديلات.
المناقشات الفنية أولًا
حرصت القاهرة عبر ممثلها وزير الموارد المائية والري محمد عبد العاطي، على تجاوز النقاط الخلافية في محاولة للدخول مباشرة في المسائل الفنية التي يجب أن تمضي وفق تعبيره “بروح من حسن النية والتعاون من أجل التوصل إلى اتفاق ملء وتشغيل السد”.
عبد العاطي في كلمته أشار إلى تحديد المكونات الأساسية للاتفاق المبرم، في الاجتماعات الثلاث السابقة التي عقدت في أديس أبابا والقاهرة والخرطوم، لافتًا إلى أن تلك المكونات تتضمن، مرحلة ملء سد النهضة التي تُمكّن إثيوبيا من توليد الطاقة الكهرومائية وتحقيق التنمية وتدابير تخفيف الجفاف لمواجهة حالات الجفاف أو الجفاف الممتد، التي قد تتزامن مع فترة ملء سد النهضة والقواعد التشغيلية العادلة والمتوازنة، وتسمح لإثيوبيا بتوليد الطاقة الكهرومائية بشكل مستدام، مع الحفاظ على تشغيل السد العالي وإنشاء آلية تنسيق فعالة لتسهيل تنفيذ الاتفاقية.
أما عن طبيعة الخلافات بين الدول المشاركة أوضح الوزير المصري أنها تكمن في “نهج التعبير عن هذه العناصر، وفي بعض القيم العددية المرتبطة ببعض التعريفات، مثل حدود الجفاف، وبعض الاختلافات فيما يتعلق بالتصريفات الخارجة من سد النهضة في الظروف الهيدرولوجية المختلفة”.
وزير: مصر لا تمانع فكرة بناء سد في إثيوبيا لكن يجب ألا يكون ذلك على حساب دول المصب
كما أعرب عن أمله في تجاوز تلك الخلافات “نستطيع سدّ الفجوة بيننا في هذه القضايا، وجولة المفاوضات الحاليّة في أديس أبابا تهدف لتبادل بعض الأفكار والمفاهيم، التي نأمل أن تساهم في التوصل إلى اتفاق شامل وتعاوني ذي منفعة متبادلة في ما يخص ملء وتشغيل سد النهضة، وفقًا لاتفاق إعلان المبادئ لعام 2015”.
وزير الري المصري ألمح في كلمته أيضًا إلى أن مصر لا تمانع فكرة بناء سد في إثيوبيا لكن يجب ألا يكون ذلك على حساب دول المصب، مضيفًا “يجب أن يتكامل سد النهضة بوصفه منشأً مائيًا جديدًا في نظام النيل الشرقي في عملية إدارة مشتركة مع السد العالي في أسوان، للحفاظ على مرونة المنظومة المائية لمواجهة الظروف القاسية التي قد تنشأ عن ملء وتشغيل سد النهضة، نحتاج أيضًا إلى الاتفاق على تدابير تخفيف الجفاف بناءً على التنسيق والتعاون بين سد النهضة والسد العالي، وهو ما يعد ضروريًا بالنظر إلى حقيقة أن مصر تعاني بالفعل من نقص كبير في المياه يصل إلى 21 مليار متر مكعب في السنة”.
وكشف عبد العاطي آليات بلاده لسد هذا العجز الذي يقدر بـ40% من حصة مصر المائية من النيل، مشيرًا إلى أن ذلك يتم عن طريق إعادة استخدام مياه الصرف الزراعي والصحي المعالجة على نطاق واسع، قائلاً: “نعيد تدوير المياه بنسبة تصل إلى 10 آلاف جزء في المليون، ما يعني أن كفاءة استخدام المياه في مصر تتجاوز 85%”.
حالة من الترقب
رغم تلك الأجواء، فإن حالة من فقدان الثقة تخيم على الشارع المصري الذي بات يتعامل مع التصريحات الإثيوبية كما الرسمية المصرية أيضًا، بشيء من الريبة، خاصة بعدما ثبت كذبها خلال ما يزيد على 20 جولة مفاوضات قطعها أطراف الأزمة طيلة السنوات الثمانية الماضية.
فريق من الخبراء يرى أن أديس أبابا بتصريحاتها الأخيرة تهدف إلى كسب المزيد من الوقت لإكمال بناء السد وإدخاله حيز التنفيذ الفعلي هذا العام كما كان مخطط من البداية، وأن ما يثار بشأن تراجعها عن موقفها الرافض للمقترحات المصرية دغدغة لمشاعر الشارع المصري ومغازلة للرأي العام العالمي.
هذا الفريق يعتبر أن تراجع تصعيد الخطاب الإعلامي والسياسي الإثيوبي يأتي في أعقاب الضجة التي أحدثتها التصريحات المنسوبة لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد التي أشار فيها إلى أن بلاده “ستحشد الملايين” إذا اضطرت لخوض حرب بسبب النزاع مع مصر على مشروع سد النهضة، وهو ما أثار حفيظة المصريين ودفع الخارجية المصرية لإصدار بيان إدانة وتنديد بما جاء فيها.
حالة التوتر التي تخيم على البيت الأبيض بسبب سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ربما تلقي بظلالها على الوساطة الأمريكية في هذا الملف
وبحسب مصدر في وزارة الري المصرية فإن “الاجتماع يشهد صعوبة في فتح مجال المفاوضات لتشمل عملية تشغيل السد على المدى الأطول”، لافتًا في تصريحات صحفية له إلى أن إثيوبيا ما زالت تتمسك بأن تقتصر المفاوضات في الوقت الراهن على عملية ملء خزان السد.
المصدر ذاته أكد أنه ما زالت هناك خلافات واضحة في مسار المفاوضات على صعيد عملية ملء خزان السد، مشدّدًا على أن مصر ما زالت تتمسك باستمرار الصرف من النيل الأزرق، أفي ثناء فترة الملء والجفاف الممتد، بما لا يقل عن 40 مليار متر مكعب وتابع: “نحن نتمسك أيضًا بالتوصل لحل متكامل لعمليات الملء والتشغيل وإعادة الملء والتعامل مع فترات الجفاف والجفاف الممتد، مع إنشاء آلية ثابتة للتعاون بين الدول الثلاثة، وهو ما تتهرب منه أديس أبابا حتى الآن”.
البعض يعول على العلاقات القوية التي تجمع بين أمريكا والدولتين التي قد تسمح لها بلعب دور بنّاء يقلل من حجم الخلافات بين الطرفين، إلا أن حالة التوتر التي تخيم على البيت الأبيض بسبب سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ربما تلقي بظلالها على الوساطة الأمريكية في هذا الملف، ليبقى متأرجحًا بين العواصم الثلاثة (القاهرة – أديس أبابا – الخرطوم) حتى إشعار آخر.