ترجمة وتحرير: نون بوست
منذ تدخلها المركزي في الحرب السورية سنة 2015، سعت روسيا إلى تصوير نفسها كلاعب رئيسي في الشرق الأوسط، وذلك لتُثبت وجودها كوسيط نادر يتمتع بعلاقة جيدة مع جميع القوى المتصارعة في المنطقة. وفي الوقت الراهن، لدى موسكو فرصة جديدة لترسيخ تلك السمعة. وفي الواقع، يسعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تعزيز مكانة بلاده في الشرق الأوسط في أعقاب قرار إدارة ترامب باغتيال القائد العسكري الإيراني قاسم سليماني الأسبوع الماضي، والهجوم الصاروخي الإيراني على القواعد الجوية الأمريكية في العراق يوم الثلاثاء، الذي هز الشرق الأوسط ودفع بإيران والولايات المتحدة إلى شفا الحرب.
يزيد هذا الوضع التنامي من المخاطر التي من شأنها أن تهدد حسابات موسكو في المنطقة بشكل كبير. في المقابل، يوفر لبوتين فرصًا جديدة لتحقيق هدفين من أهدافه الطويلة الأمد، ألا وهما تقويض مصداقية الولايات المتحدة وتوسيع تدخل روسيا في الشرق الأوسط. ومن جهتها، قالت آندريا كيندال تايلور، الزميلة البارزة في مركز الأمن الأمريكي الجديد التي شغلت سابقا منصب نائب ضابط المخابرات الوطنية لروسيا وأوراسيا في مجلس الاستخبارات الوطني: “يعتبر بوتين التصدي للأحادية الأمريكية مهمة شخصية، كما أنه شخص انتهازي للغاية. لذلك، سيسعى إلى الاستفادة من كل فرصة ممكنة لاستخدام اغتيال سليماني وأي عدم استقرار يتلوه لتشويه سمعة واشنطن في المنطقة”.
علاوة على ذلك، أشعل الاغتيال موجة من النشاط الدبلوماسي من موسكو. وفي مكالمات هاتفية مع نظرائه الأمريكيين والإيرانيين والصينيين والأتراك، أدان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، عملية القتل ووصفها بأنها انتهاك صارخ للقانون الدولي. وفي يوم الثلاثاء، أدى بوتين زيارة غير متوقعة إلى دمشق للقاء الرئيس السوري بشار الأسد، حيث أكد على مناصرة موسكو له.
من جهتها، أوردت آنا بورشيفسكايا، وهي زميلة بارزة في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، وهو مؤسسة فكرية اتخذت من واشنطن مقرا له: “يعدّ دعم الشرق الأوسط، آخر ما يريده بوتين. ويتمثل أفضل دور يمكن أن يلعبه في الوساطة، وأظن أنه في الوقت الراهن في وضع الانتظار والترقب. وفي حال قامت روسيا بشيء مهم، فسيكون ذلك على أساس دبلوماسي”.
على الأرجح، سيؤدي مقتل قائد فيلق القدس إلى اختبار قدرة موسكو على أن تكون حليفة لجميع اللاعبين الرئيسيين في المنطقة
يوم الأربعاء، سافر بوتين إلى إسطنبول للقاء الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لمناقشة التوترات المتنامية في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من عدم اتفاقهما حول مستقبل المنطقة، إلا أن أردوغان وبوتين نجحا في إبرام صفقات في الماضي، على غرار اتفاق الزعيمان على إنشاء منطقة شماليَ شرقيَ سوريا بفعالية في السنة الماضية بعد الانسحاب غير المتوقع لإدارة ترامب. ويوم السبت، سيستقبل بوتين المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في موسكو لإجراء محادثات حول الأزمة. وعموما، تعد كل من روسيا وألمانيا من بين الدول التي سعت إلى دعم الاتفاق النووي الإيراني بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاقية سنة 2018.
على الأرجح، سيؤدي مقتل قائد فيلق القدس، سليماني، في غارة أمريكية باستخدام طائرة دون طيار في مطار بغداد في الثالث من كانون الثاني / يناير إلى اختبار قدرة موسكو على أن تكون حليفة لجميع اللاعبين الرئيسيين في المنطقة. وفي الواقع، طورت روسيا وإيران علاقاتهما خلال السنوات الأخيرة، حيث عمِلتا سوية في سوريا لإمالة ميزان القوى لصالح نظام الأسد. وعلى الرغم من اهتماماتهم المشتركة، إلا أن موسكو حافظت في الوقت نفسه على علاقات أعمق مع إسرائيل والسعودية، أي خصوم طهران، فضلا عن لاعبين آخرين في المنطقة.
في هذا السياق، قالت، الخبيرة ومستشارة في الشرق الأوسط لدى المركز الروسي للبحوث السياسية، جوليا سفيشنيكوفا: “تحاول موسكو أن تلعب هذا الدور كشريك موثوق به وثابت في الشرق الأوسط، الأمر الذي سيساعدها بالتأكيد على تحقيق هدفها. في المقابل، تعد موسكو قلقة للغاية بشأن هذا الموقف، وستتطلع إلى البقاء خارج المعركة قدر الإمكان”.
في الواقع، أثار القرار الذي اتخذته إدارة ترامب باغتيال مسؤول رفيع المستوى العديد من البلدان في مختلف أنحاء العالم، وقوّض مصداقية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وهو ما تتطلع موسكو إلى الاستفادة منه. منذ فترة طويلة، أثبت الكرملين أنه يستطيع استغلال الأزمات في مختلف أنحاء العالم لتعزيز أهدافه الاستراتيجية، بداية من أوكرانيا وصولا إلى شمال أفريقيا وسوريا.
فرضت واشنطن عقوبات على روسيا بسبب تدخلها في شرقيَ أوكرانيا لضم شبه جزيرة القرم. ومن جانبه، أشار الكرملين منذ فترة طويلة إلى الحرب في العراق وأفغانستان باعتبارها دليلا يبيّن حجم نفاق الولايات المتحدة. ومن المرجح أن يُستخدم قتل سليمان ودعوة ترامب لاستهداف المواقع الثقافية الإيرانية كدليل إضافي على التجاوزات الأمريكية مع تعزيز مكانتها كوسيط قوة إقليمي.
في حين أنه من المرجح أن يرحّب العديد من الحلفاء الإقليميين للولايات المتحدة سرا بمقتل سليمان، إلا أن العديد منهم يخشون أن يتحملوا وطأة الانتقام الإيراني. وربما تكون هذه المخاوف قد هدأت قليلاً حين ردت إيران على قتل جنرالها بإطلاق أكثر من اثني عشر صاروخا استهدف كلا من القوات الأمريكية وقوات التحالف في العراق. وأشارت تقارير مبكّرة إلى عدم وقوع إصابات في الولايات المتحدة، حيث أظهر كلا الجانبان رغبتهما في الحد من التصعيد. وفي الواقع، في حال أدرك حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة أن واشنطن تركتهم معرضين للانتقام الإيراني، فمن الممكن أن يشجع ذلك على لعب موسكو دور الوساطة في المستقبل.
تميزت الأشهر الأخيرة من سنة 2019 بموجة من الاحتجاجات المناهضة لإيران في العراق ولبنان، وبدا للحظة أن النفوذ القوي لطهران في المنطقة، بدأ يتلاشى. في المقابل، أثار الهجوم الجويّ في الثالث من كانون الثاني/يناير المشاعر المعادية للولايات المتحدة في المنطقة مرة أخرى، وهو تحول سيكون موضع ترحيب من موسكو. من جهته، قال، مارك كاتز، أستاذ السياسة والحكومة في جامعة جورج ماسون أنه “بقدر ما أراد بوتين انتشار المشاعر المناهضة للولايات المتحدة، لم يكن بإمكان روسيا تحقيق ذلك بمفردها، حيث ساعده ترامب على ذلك”.
على الرغم من أنه من المستبعد أن يكون هناك تواجد عسكري روسي تقليدي في العراق، إلا أن بعض المحللين الروس الذين التقتهم مجلة “فورين بوليسي”، تكهنوا بأن المرتزقة من مجموعة فاغنر الروسية، التي تشن حربا بالوكالة من أجل تحقيق النصر في سوريا وأوكرانيا وأجزاء من أفريقيا، يمكن أن تظهر في العراق في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة.
في الوقت الراهن، يظل الدور المستقبلي للقوات الأمريكية في العراق مجهولا، حيث سارعت وزارة الدفاع الأمريكية، البنتاغون، إلى نفي التقارير التي أُصدرت يوم الاثنين التي تشير إلى سحب قواتها من البلاد بعد خطاب غير متوقّع من العميد الجنرال وليام سيلي، قائد فرقة العمل الأمريكية في العراق، الذي صرّح أن البنتاغون سيحترم قرار البرلمان العراقي الذي يدعو القوات الأمريكية إلى المغادرة.
تتمثل المخاوف الرئيسية للكرملين في منع التصعيد في المنطقة الذي من الممكن أن يؤدي إلى قلب الوضع الجغرافي السياسي الراهن في الشرق الأوسط
مع ذلك، سارع المحللون الروس إلى ملاحظة أن موسكو تتوخى الحذر إثر مقتل سليماني وردود الفعل الأمريكية والإيرانية التي تلت ذلك. وعلى الرغم من الإدانة الروسية لمقتل سليماني، إلا أن موسكو لم تتعهد بأية إجراءات ملموسة لدعم طهران. وفي هذا الصدد، قال المحللون إنه من المستبعد أن يدعم بوتين أية محاولات إيرانية للانتقام، كما أنه من الممكن أن يكون دعمه لطهران محدودا.
وفقًا لما ذكره، أدلان مارجويف، المحلل في العلاقات الروسية الإيرانية في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، وهي جامعة تديرها وزارة الخارجية الروسية، تتمثل المخاوف الرئيسية للكرملين في منع التصعيد في المنطقة الذي من الممكن أن يؤدي إلى قلب الوضع الجغرافي السياسي الراهن في الشرق الأوسط والذي ساعد تدخله السوري على تكريس ومواصلة رسم المسار الذي اتبعه بوتين من أجل المصالح الروسية في جميع أنحاء المنطقة.
وفي هذا السياق، أضاف مارجويف أنه “لم يطرأ أي تغيير جذري على أية استراتيجية بالنسبة لموسكو حتى الآن. إنه موقف صعب بالنسبة لموسكو لاجتياز هذا الوضع، لكنه أمر طبيعي على نحو ما. ويقتصر كل ما تفعله روسيا في التعامل مع المواقف الصعبة في الشرق الأوسط”.
المصدر: فورين بوليسي