ترجمة وتحرير: نون بوست
في صباح أحد الأيام من سنة 2013، كان ريتشارد كلارك في أبو ظبي حين رنّ هاتفه ليسمع صوتًا مألوفًا يقول له: “هل أنت مشغول؟”. في الواقع، لقد كان سؤالًا إنكاريًا. لقد كان المتصل محمد بن زايد آل نهيان، حاكم دولة الإمارات العربية المتحدة وأحد أقوى الرجال على وجه الأرض. فقال: “سأرسل لك سيارة” ومن ثم انقطعت المكالمة.
كان كلارك، قيصر مكافحة الإرهاب في البيت الأبيض سابقا، يعمل مستشارًا لدى بن زايد (الذي يُعرف خارج بلاده بالأحرف الأولى لاسمه فقط) وقد اعتاد الجميع على تسميته بهذه الطريقة. وتجدر الإشارة الى أن بن زايد نادرًا ما كان يكشف عما يدور في خلده. في إحدى المرات، اصطحب بن زايد كلارك في رحلة على متن الهليكوبتر غير متوقعة في عمق الربع الخالي، ثم هبط في بركة اصطناعية، مبعثرًا بذلك قطيعًا من الغزلان البرية. في مكان غير بعيد، كانت هناك مجموعة من المهندسين الألمان واقفين حيث يعملون في محطة لتحلية المياه تعمل بالطاقة الشمسية.
هذه المرة صعد كلارك إلى السيارة دون أي فكرة عن المكان الذي كان يتجه إليه. أثناء مرورهم بمنطقة مستودعاتٍ نائية، جالت في خاطره فكرة أنه تم اختطافه، لتتوقف السيارة فجأة في أحد المباني، أين ترامى إلى مسامعه بعض الأصوات. دخل كلارك إلى المبنى ليجد مجموعة من الشابات اللاتي ترتدين الزي العسكري وهن يتدربن على إطلاق النار من خلال المسدسات.
كان بن زايد يجلس في مكان ليس ببعيد، وهو يرتدي زيه الأبيض والأغطية الواقية للأذنين، وإلى جانبه زوجته وكرسي ثالث فارغ مخصص لكلارك. خلال فترة توقف الشابات عن إطلاق النار، قدم بن زايد لكلارك الفتيات اللاتي كن جميعا بناته وشقيقاته. وفي هذا الشأن، قال بن زايد: “أنا سأبدأ في هذا المشروع، أريد أن يشعر كل شخص في هذا البلد بأنه مسؤول. الكثير منهم سمينون وكسالى”. وسيبدأ في مسودة المشروع من خلال تدريب كل الشباب في عائلته.
كانت مسودة مشروع بن زايد جزءًا من جهد كبير لبناء الأمة في الداخل والخارج، وهو ما يتطلب المزيد من الجنود ومن المتوقع أن تطال انعكاساته الشرق الأوسط بأكمله. منذ تأسيسها سنة 1971، ظلت دولة الإمارات العربية المتحدة – وهي اتحاد للمشايخ الغنية بالنفط على ساحل شمال الجزيرة العربية – خارج معظم الصراعات في العالم العربي. لقد أصبحت الإمارات أعجوبة اقتصادية في المنطقة بتشييد ناطحات السحاب اللامعة والمراكز التجارية التي لا نهاية لها والمطارات ذات الأرضيات الرخامية. ولكن منذ سنة 2013، كان بن زايد يشعر بقلق متزايد من المستقبل. فقد أطاحت ثورات الربيع العربي بالعديد من المستبدين، وكان الإسلاميون السياسيون هم من برزوا لملء الفراغ. فاز الإخوان المسلمون، الحزب الإسلامي الأول في المنطقة، الذي تأسس سنة 1928 وشركاؤه بالانتخابات في كل من مصر وتونس، وكانت الميليشيات الجهادية منتشرة في ليبيا. أما في سوريا، فقد وقع التمرد ضد بشار الأسد في أيدي الميليشيات الإسلامية أيضا. كان تنظيم الدولة في أوجه، وفي أقل من سنة اجتاز الحدود العراقية واستولى على مساحة بحجم بريطانيا.
يرقُب بن زايد بفزع كيفية حشد الجيوش في الجانب الآخر للمنطقة التي تعاني من الانقسام الطائفي الكبير. لقد استغلت الميليشيات الشيعية الموالية للزعيم الإيراني قاسم سليماني – الذي قُتل في وقت سابق من هذا الشهر في غارة أمريكية بطائرة دون طيار – فراغ ما بعد 2011 لنشر نفوذها الديني في سوريا والعراق واليمن. كانت الأوضاع بمثابة مزيج من العنف المروع، أما القوى الإقليمية فلم تفعل سوى القليل لوقفه. كانت تركيا تقف في صف الإسلاميين المفضلين لها وتدعم بعضهم بالسلاح. والأمر سيان بالنسبة لدولة قطر، جار الإمارات الغنية بالنفط في الخليج العربي.
من جانب آخر، كان السعوديون متناقضين، حيث يحكمهم ملك مسن ومريض. وحتى الولايات المتحدة – التي كان بن زايد يعتبرها دائمًا حليفًا رئيسيًا له – فكانت تعتبر جماعة الإخوان المسلمين على أنها نتيجة ثانوية تثير القلق ولكنها حتمية. والجدير بالذكر أن بن زايد حذر باراك أوباما مرارًا وتكرارًا في المحادثات الهاتفية بشأن المخاطر المرتقبة منهم. وقد أخبرني مسؤولون سابقون في البيت الأبيض أن الرئيس الأمريكي كان متعاطفًا، لكن بدا أنه عازم على الخروج من الشرق الأوسط، وليس العودة من جديد للتدخل.
بحلول الوقت الذي دعا فيه بن زايد كلارك للانضمام إلى فريق عائلته للرماية، كان قد سبق ووضع خطة طموحة للغاية لإعادة تشكيل مستقبل المنطقة. وسيقوم قريبًا بتجنيد محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي الشاب المعروف باسم “إم بي إس”، كحليف له. وقد ساعد بن سلمان وبن زايد معًا الجيش المصري في خلع الرئيس الإسلامي المنتخب لتلك الدولة سنة 2013. في سنة 2015، شارك بن زايد في الحرب الأهلية الليبية، متحديا الحظر الذي فرضته الأمم المتحدة والدبلوماسيون الأمريكيون. كما حارب ميليشيا الشباب في الصومال، مستفيدًا من الموانئ التجارية لبلده ليصبح وسيطًا للطاقة في القرن الأفريقي. علاوة على ذلك، انضم بن زايد إلى الحرب السعودية في اليمن لمحاربة ميليشيا الحوثيين التي تدعمها إيران. وفي سنة 2017، كسر تقليدًا قديمًا من خلال تنظيم حظر عدواني على جارته الخليجية قطر. في الحقيقة، كان كل هذا بهدف إحباط ما رأى أنه تهديد إسلامي يلوح في الأفق.
لا يميز بن زايد كثيرا بين الجماعات الإسلامية، ويصر على أنهم جميعًا يتشاركون في نفس الهدف: نسخة من الخلافة التي تحتكم إلى القرآن بدلاً من الدستور.
لا يميز بن زايد كثيرا بين الجماعات الإسلامية، ويصر على أنهم جميعًا يتشاركون في نفس الهدف: نسخة من الخلافة التي تحتكم إلى القرآن بدلاً من الدستور. وبناء على ذلك، يبدو أنه يعتقد أن الخيارات الوحيدة في الشرق الأوسط هي إما إرساء نظام أكثر قمعًا أو وقوع كارثة شاملة. في الواقع، إنها توقعات هوبزية، ولا شك أنها خدمة ذاتية.
مع ذلك، دفعت تجربة بن زايد خلال السنوات القليلة الماضية بعض المراقبين المخضرمين إلى احترام حدسه حول مخاطر الإسلام السياسي. وفي هذا الصدد، يقول بريت ماكغورك، المسؤول السابق في الولايات المتحدة والذي قضى سنوات في العمل في الشرق الأوسط في ثلاث إدارات وعلى معرفة ببن زايد: “كنت متشككًا في البداية. حسنا بدا متطرفًا. لكنني توصلت إلى استنتاج مفاده أن شكوكه كانت في كثير من الأحيان صائبة”.
في الواقع، لقد ضخ بن زايد الكثير من موارده فيما يمكن تسميته “السياسة المضادة للجهاد”. وعلى الرغم من صغر حجم بلده (بتعداد يقل عن مليون مواطن إماراتي)، إلا أنه يشرف على أكثر من 1.3 تريليون دولار في صناديق الثروة السيادية، ويدير جيشًا مجهزًا ومدربًا بطريقة أفضل من أي شخص آخر في المنطقة باستثناء إسرائيل. وعلى الجبهة الداخلية، شن بن زايد حملة صارمة ضد جماعة الإخوان المسلمين وبنى دولة مراقبة مفرطة الحداثة، لمراقبة الجميع بحثًا عن أدنى نفحة من الميول الإسلامية.
لقد لعب بن زايد دورًا رئيسيًا في هذه الثورة المضادة المتواصلة – على غرار الأيام الأخيرة لمترنيش- التي غيرت سمعة بلده. علاوة على ذلك، لا يزال البنتاغون يعتبر بن زايد حليفًا مخلصًا وأهلاً بالثقة. وخلال إحدى زياراتي إلى أبو ظبي في شهر أيار/ مايو الماضي، جلست بين الحضور، حيث خاطب جيم ماتيس، وزير الدفاع السابق، مجموعة من الشخصيات الإماراتية والأجنبية وشبّه الإمارات بكل من أثينا وأسبرطة. لكن بعض مسؤولي أوباما كانوا يعتبرونه عنصرًا فاعلا خطيرًا. وبحلول الوقت الذي انتُخب فيه دونالد ترامب – ليقدم له شريكٌ أكثر مرونة – وجهت لبن زايد انتقادات عدة من جماعات حقوق الإنسان والدبلوماسيين لدوره العسكري في اليمن وليبيا. حتى بعض المعجبين ببن زايد في الدوائر الدبلوماسية يقولون إنه يمكن أن يكون مستبدا للغاية وأنه خاض في أعماق النزاعات التي لا يمكن السيطرة على نتائجها.
لا يزال بن زايد شخصية نادرة في الشرق الأوسط، حيث أنه زعيم دنيوي ذو ميل علماني وله مخطط لمستقبل المنطقة والموارد اللازمة لتنفيذها
مع ذلك، لا يزال بن زايد شخصية نادرة في الشرق الأوسط، حيث أنه زعيم دنيوي ذو ميل علماني وله مخطط لمستقبل المنطقة والموارد اللازمة لتنفيذها. ومع كل عيوبه، تبدو البدائل قاتمة بشكل متزايد. دفعت الغارة الأمريكية بطائرة دون طيار والتي قتلت سليماني وحليفه العراقي الأكبر، في أعقاب مواجهة متوترة في سفارة الولايات المتحدة في بغداد، إلى اقتراب المنطقة من الحرب، حيث أصدر الزعيم الإيراني الأعلى تهديدات شديدة بالانتقام. ومن السابق لأوانه معرفة كيف سيكون رد فعل طهران، لكن من المرجح أن يكون بن زايد لاعبا رئيسيًا في كل ما سيتكشف في المستقبل. وعلى الرغم من سمعته باعتباره أحد صقور إيران، إلا أنه اتخذ العديد من الإيماءات الدبلوماسية الهادئة في الأشهر الأخيرة ولديه قناة خلفية للتواصل مع القيادة الإيرانية.
إن تخليه عن سياسة ترامب القائمة على “أقصى قدر من الضغط” أظهر مدى استعداده للتوجه في مسار مستقل. يبدو أن نفس الرجل الذي انتقد أوباما سرًا بسبب استرضائه لإيران يشعر بالقلق من أن ترامب سوف يتعثر في الحرب. قد يكون بن زايد في وضع فريد لتجنب أي صراع يمكن فيه لبلاده – التي تعد قريبة من إيران – أن تكون واحدة من الأهداف الأولى.
كان محمد بن زايد، البالغ من العمر 58 سنة، قياديا بارزا في دولة الإمارات العربية المتحدة لأكثر من عقد من الزمن (لا يزال شقيقه الأكبر خليفة، الذي أصيب بجلطة دماغية في سنة 2014، الرئيس الفخري)، حيث يضطلع منذ فترة طويلة بمهمة سياسات البلاد في التعليم والتمويل والثقافة فضلا عن السياسة الخارجية.
لم يزر بن زايد سوى دولا قليلة، ولم يحضر مطلقًا اجتماعا تابعا للأمم المتحدة، كما أنه لا يحضر المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس.
مع ذلك، لم يزر بن زايد سوى دولا قليلة، ولم يحضر مطلقًا اجتماعا تابعا للأمم المتحدة، كما أنه لا يحضر المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس. ونادرا ما كان يلقي الخطب، ولا يتحدث إلى الصحفيين. وكان بن زايد بعيدا عن الأضواء مقارنة بحاكم دبي، محمد بن راشد آل مكتوم. وفي هذا السياق، قال لي أحد أقدم أصدقائه: “إنه لا يريد أن يكون في الصورة”.
استغرق مني الأمر حوالي سنة كاملة لترتيب لقاء معه. وخلال ذلك الوقت، مررت بسلسلة من الاجتماعات مع بدائله في نيويورك وواشنطن ولندن وأبوظبي، وهو نوع من عملية التدقيق، الذي يبدو أنني نجحت فيها لأنني أمضيت سنوات في الكتابة عن منطقة الخليج. وفي الواقع، لم يسبق له إجراء مقابلة مسجلة مع صحفي غربي. في المقابل، كان التوقيت مثاليا، إذ تزامنت جهودي مع سعي محيطه الداخلي لجعله أكثر انفتاحًا وشفافية. ومع ذلك، حتى بعد حديثنا، كان مستشاروه قلقون للغاية بشأن ما يمكن نقله، خوفًا من أن يقوم أعداؤه بتحريف وإساءة توظيف كلامه.
كانت المرة الأولى التي رأيت فيها محمد بن زايد في أيار/ مايو الماضي، في مجلسه المسائي، وهو أحد الطقوس المركزية للحياة الاجتماعية والسياسية الإماراتية. وفي الواقع، كان متواجدا داخل قاعة استقبال شاسعة في أبوظبي، وكنت محاطًا بمئات المسلمين الصائمين. في الخارج، كانت الحرارة تصل إلى أكثر من 100 درجة. في المقابل، كانت هذه الغرفة الفخمة، التي تتميز بسقوفها العالية البالغة 50 قدمًا وبصفوف المصابيح الهائلة، مجهزة بمكيفات الهواء، على غرار كل المباني الأخرى تقريبًا في الإمارات العربية المتحدة.
كان من الغريب أن أكون محاطا بالعديد من الإماراتيين الذين يشكلون أقلية صغيرة من سكان البلاد. لقد زرت الإمارات العربية المتحدة لسنوات عديدة، وتوصلت لفكرة أن عدم الانتماء أصبح واحدا من السمات المميزة للبلد. وحتى عندما تكون الشوارع مزدحمة، يعدّ كل شخص تراه تقريبًا سواء في دبي أو أبوظبي قادما من مكان آخر، حيث يمثلون حشدا متنوعا من جميع بقاع الأرض. وعندما تسألهم عن حياتهم، سيعبَرون دائما عن مدى امتنانهم لكونهم في الإمارات العربية المتحدة، وذلك لأنهم يرسلون مبالغ نقدية إلى أسرهم في كيرالا أو نيروبي أو كوالا لامبور.
محمد بن زايد آل نهيان، حاكم دولة الإمارات العربية المتحدة، مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
كان المجلس الذي حضرتُه مقدَمة لمأدبة الإفطار، وهو أحد الطقوس المسائية للإفطار بعد الصيام خلال شهر رمضان المبارك. وكان محمد بن زايد منغمسا في حديثه مع شخص أفريقي زائر كان يجلس إلى يساره، في حين كان محمد بن راشد يجلس على يمينه. وفي وقت لاحق، شاهدت محمد بن زايد يقف ويجول الغرفة، وهو يعرّف الأشخاص ببعضهم البعض ويضحك، تارة، ويعانق الأصدقاء القدامى طورا.
في الواقع، يستضيف محمد بن زايد مجلسًا أسبوعيًا منفصلاً يمكن لأي مواطن إماراتي أن يتقدم بطلب لحضوره. ويكون ذلك غالبًا للتعبير عن المظالم التي يعاني منها أو لطلب المساعدة. وتخدم هذه التجمعات المنتظمة غرضًا مهمًا، حيث تتيح لمحمد بن زايد وأقرانه الحصول على ملاحظات رجال الأعمال وقادة القبائل والدوائر الانتخابية الأخرى. وعموما، كثيرا ما يخبرك الإماراتيون، بإخلاص تام، أن ذلك ردهم الأصلي على الديمقراطية. وعندما تجمعنا في قاعة ضخمة عالية السقف وممتلئة بالطعام والشراب، اتخذت لنفسي مكانا بالقرب من الزاوية، ثم شعرت بنقر على كتفي وسمعت صوت ورائي يقول: “هيا يا شباب، دعونا نأكل”.
لقد أخبرني مستشارو محمد بن زايد منذ أشهر عن حبه للتمرّد على القوانين، فهو يقود سيارته نيسان باترول البيضاء بنفسه في أنحاء أبوظبي، ويظهر في المطاعم المحلية دون سابق إنذار. كما أنه يعد من عشاق اللياقة البدنية، وغالبًا ما يعقد اجتماعات أثناء المشي لمسافات طويلة، حتى أنه يُدوّن الملاحظات على يده في بعض الأحيان. وتجدر الإشارة إلى أنه شخص دقيق في المواعيد المحددة ويقع اطلاعه عن المستجدات بشكل دقيق، لكنه يحب أن يفاجئ الدبلوماسيين الغربيين بالاستهزاء بالرفاهية.
في الحقيقة، أخبرني دبلوماسي سابق أنه كان ينتظر سيارته في أبوظبي في أمسية ضبابية عندما برزت طائرة هليكوبتر من الضباب وهبطت في مكان قريب. وعندها، نزل محمد بن زايد من مقعد الطيار، الذي تدرب كطيار في السبعينات. من جهته، اشتكى المسؤول من الطقس الضبابي للغاية للتمتع برحلة آمنة. في المقابل، قال محمد بن زايد، وهو يبتسم: “اخرس واصعد”، ثم طارا إلى دبي، على مقربة من خطوط الكهرباء.
مرة أخرى، كان محمد بن زايد يقود سيارة عبر البلدة رفقة سفير الولايات المتحدة سابقًا عندما لاحظ السفير عدم وجود أي حراس أمن. وفي هذا السياق، قال محمد بن زايد: “لا تقلق، انظر أسفل مقعدك”. لقد دُهش السفير حين رأى سلاحا أوتوماتيكيا مطويا أسفل السجادة.
قادني محمد بن زايد إلى طاولته وجعلني أجلس مباشرة إلى يساره، على الجانب الآخر من العديد من إخوته ورئيس الدولة الآسيوية الزائر. وبناءً على إصرار محمد بن زايد، أكلت من الحمص والضأن، وسرعان ما بدأ يسألني حول حياتي القديمة حينما عملت صحفيا في لبنان. كان محمد بن زايد يتحدث بتأن وهدوء، ويرسم على وجهه ابتسامة خفيفة بين الحين والآخر تكشف خجله المثير للدهشة. كما لديه أنف بارز وعينان مقنّعتان قليلاً، أخفاهما جزئيا بالنظارات السوداء البلاستيكية القاتمة عندما قابلته. فضلا عن ذلك، كان يتكلم الإنجليزية بطلاقة مع لهجة بريطانية غير بارزة ومفردات أمريكية.
علاوة على ذلك، لا تستهويه المحادثات القصيرة. فعندما التقيته في حزيران/ يونيو لإجراء مقابلة رسمية، بدأ يخبرني عن آخر خطوات حكومته في اليمن، وبالكاد رحب بي. كنا نجلس في ردهة فندق قصر الإمارات، وهو نصب تذكاري من الرخام، حيث بقي محافظا على عاداته، إذ أنه حضر مع اثنين من رجال الأمن ومستشار.
في المقابل، أخذ يتحدث عن آرائه حول الإسلاموية وتربيته وأولوياته السياسية وإرث والده لمدة ساعة. وبدا أنه يستمتع برواية القصص، ولكنه وظف جميعها لتوضيح نقطة ما. وفي الواقع، لا يعد من قبيل الصدفة أن يقول الناس في الكثير من الأحيان الأشياء نفسها عن والده، زايد بن سلطان آل نهيان، الذي أسس جامعة الإمارات العربية المتحدة منذ 49 سنة.
أخبرني محمد بن زايد قصة، قائلا إنه في الثمانينات، عندما كان ضابطًا عسكريًا شابًا، ذهب في إجازة إلى الأراضي العشبية في تنزانيا، وعند عودته إلى أبوظبي، ذهب لرؤية والده. وجلس الرجلان على الأرض على الطريقة التقليدية، حيث كان محمد بن زايد يصب القهوة لوالده. وفي هذا الإطار، سأل زايد ابنه على تفاصيل كل ما رآه، على غرار الحياة البرية، وشعب الماساي وعاداتهم، ونسبة الفقر في البلاد.
بعد سماعه كل شيء، سأل محمد بن زايد ابنه حول ما فعله لمساعدة الأشخاص الذين التقى بهم. وردا على ذلك، هز محمد بن زايد كتفيه، واعتبر أن الأشخاص الذين التقى بهم ليسوا من المسلمين. وكان رد فعل والده مفاجئًا ولا يُنسى، إذ قال لي محمد بن زايد: “لقد أمسك ذراعي، ونظر إلى عيني بشدة، وقال ‘نحن جميعًا أبناء الله’ “.
قال محمد بن زايد إن مواقف أبيه التي تشيد بالتعددية تعد أصل حملته المناهضة للإسلاميين. وفي الواقع، جمع زايد، الذي توفي سنة 2004 عن عمر يناهز 86 سنة، بين المواقف البدوية التقليدية بعقلية ليبرالية نادرة. وعلى الرغم من أن الإماراتيين متدينون للغاية، إلا أن موقف البلاد من الأساليب القديمة سمح بنشر إسلام عالميّ نسبيًا ومتسامح. في الواقع، يعد انفتاح زايد الكبير ما رفعه إلى السلطة وساعد على وضع الإمارات العربية المتحدة في مسار مختلف عن جيرانها. في سنة 1966، عّينه البريطانيون حاكما بناءً على طلب من العائلات الرائدة في أبوظبي، لأنهم سئموا من شقيقه شخبوط، الذي كان يكره الأجانب ويكره التنمية.
كانت الإمارات فقيرة للغاية في ذلك الوقت، وكانت حتى أغنى العائلات تعيش في أكواخ من الطين. ولم يكن هناك أي دواء غربي متاح في الستينات، حيث كان معظم السكان أميين. فضلا عن ذلك، مات حوالي نصف الأطفال وثلث الأمهات أثناء الولادة. حتى اليوم، يروي الأشخاص في منتصف العمر قصصًا عن كيفية قيام والديهم بجرح رقبة الإبل وإجبارهم على شرب الدم لتجنب الموت من العطش.
أصر زايد على تعميم التعليم بين النساء في وقت كانت فيه نسبة الأمية بين الإناث تبلغ 100 بالمئة تقريبًا. كما سمح للمسيحيين ببناء كنائس في أبوظبي، مستهينا بالإيمان الإسلامي المشترك بأنه لا ينبغي لأي دين آخر تأسيس وجود في شبه الجزيرة العربية. وفي أواخر الخمسينات من القرن الماضي، قامت أسرة من المبشرين الأمريكيين ببناء مستشفى في مدينة العين، وهناك ساهمت طبيبة أمريكية في عملية ولادة نجل زايد الثالث، محمد.
تزامنا مع نشأة محمد بن زايد، قفز بلده من الفقر إلى ثروة لا يمكن تصورها من خلال اكتشاف النفط. ومن ناحية أخرى، أصبح الإسلام السياسي بمثابة راية عظيمة تحشد جيله. عندما بلغ محمد بن زايد سنّ الرابعة عشر، أرسله والده للدراسة في المغرب. ويبدو أن زايد كان ينوي أن تكون هذه التجربة قاسية لنجله، خاصة أنه أعطاه جواز سفر يحمل اسمًا مختلفًا حتى لا يتلقى معاملة الملوك. عاش محمد بن زايد حياة بسيطة في المغرب، وأمضى عدة أشهر في العمل كنادل في مطعم محلي. كان يطبخ بنفسه وجبات الطعام الخاصة به ويُنظّف ملابسه الخاصة، وكان غالبًا منعزلا. أخبرني بن زايد أنه “كان يضع وعاء من التبولة في الثلاجة، ويستمر في تناول الطعام منه يومًا بعد يوم حتى يفسُد”. أمضى بن زايد فيما بعد صيفًا في مدرسة غوردونستون الداخلية الأسكتلندية، التي درست فيها أجيال من أفراد الأسرة المالكة البريطانية وغيرهم من أهل النخبة السامية أطفالهم لتحمل الحمامات الباردة والشعائر المرهِقة. كان الأمير تشارلز يكره المكان، لكن محمد بن زايد أخبرني أنه استمتع بوقته هناك. فضلا عن ذلك، توجّه لقضاء سنة في أكاديمية ساندهيرست العسكرية البريطانية.
كان محمد بن زايد طوال هذه السنوات تحت تأثير الفكر الإسلامي دون علم والده، الذي يبدو أنه قد سهّل عن غير قصد التلقين العقائدي لنجله من خلال تحميل إسلامي مصري يدعى عز الدين إبراهيم مسؤولية تعليمه.
كان محمد بن زايد طوال هذه السنوات تحت تأثير الفكر الإسلامي دون علم والده، الذي يبدو أنه قد سهّل عن غير قصد التلقين العقائدي لنجله من خلال تحميل إسلامي مصري يدعى عز الدين إبراهيم مسؤولية تعليمه. وكان زايد يعرف بشأن انتماء إبراهيم إلى جماعة الإخوان المسلمين، ولكنه لم يكن يرى حتى ذلك الوقت أن المنظمة تشكّل تهديدًا.
بلغ محمد بن زايد سن الثامنة عشر في سنة 1979، وهي السنة التي غزا فيها الاتحاد السوفيتي أفغانستان. عندما بدأ المجاهدون الأفغان مقاومتهم البطولية، تدفق الشبان المسلمون من جميع أنحاء العالم إلى بيشاور للانضمام إليهم. في الوقت نفسه، أطاحت المظاهرات الشعبية بشاه إيران تزامنًا مع عودة آية الله الخميني إلى وطنه لقيادة الثورة. ويرى العديد من الناس أن هناك فكرة مثيرة تربط بين جميع هذه الأحداث، والتي تتمثّل في فشل الأنظمة المدعومة من الغرب في المنطقة، وهو ما فسح المجال للإسلام حتى يُقدّم الدليل الإرشادي لمجتمع أفضل وأكثر واقعية.
لكن محمد بن زايد ولد مع إرث آخر معارض والذي يتمثّل في ولائه العشائري. في الواقع، كان والده الشهير تجسيدًا للأسر الحاكمة “الإقطاعية” التقليدية التي اعتاد مفكّرو الإخوان المسلمين على معارضتها. وكانت والدته فاطمة ثالث زوجة مفضلة لدى زايد، وقد ساعدت جرأتها وعزمها في رفع مكانة أبنائها الستة إلى مستوى أعلى من أبناء زايد الآخرين من الذكور. وفي الحقيقة، كانوا مخلصين بشدّة لبعضهم البعض ولها.
في أواخر الستينات، عندما كانوا أطفالاً، أخبرت فاطمة أولادها عن تاريخ أسرة آل نهيان الطويل من العنف المدمّر، والذي شهد ذروته في عشرينات القرن العشرين بسلسلة من جرائم القتل التي ارتكبها أخ شقيق والتي شهدت تغيير السلطة ثلاث مرات في غضون سبع سنوات. كما أخبرني ضابط مخابرات بريطاني سابق أنها جعلتهم جميعًا يقسمون ويتعهدون بعدم الإطاحة أو خيانة بعضهم البعض. وما زال محمد بن زايد يتواصل مع والدته كل يوم تقريبا.
لم يدرك محمد بن زايد أن الأفكار التي روج لها الإخوان تتعارض مع دوره الناشئ كوريث للسلطة إلا عندما عاد إلى أبو ظبي في أوائل الثمانينات من القرن الماضي. لم يُفصح بن زايد عما إذا كان يفكر في النتيجة الطبيعية التي اختارها، والتي تتلخص في أن جاذبية جماعة الإخوان المسلمين بالنسبة للمواطنين العاديين لابد أن تكون أقوى.
في سنة 1991، عندما شكّل جورج بوش الأب ائتلافا لطرد صدام حسين من الكويت، أُعجب البنتاغون برغبة زايد في المشاركة. بعد ذلك، بدأ القادة العسكريون الأمريكيون في غرس مبادئهم في محمد بن زايد، الذي أصبح ضابطًا عسكريًا وبدأ في الظهور كأكثر أولاد زايد طموحًا وكفاءة. وقد أخبرني بروس ريدل، وهو ضابط سابق في وكالة المخابرات المركزية ومحلل في الوقت الحاضر في مؤسسة بروكينغز، أن بن زايد “كان تلقائيا، وصاعدًا. كان سيحكم البلاد. وقد كانت الولايات المتحدة تتودد إليه وتحاول استمالته”.
في سنة 1995، أخبرني ريدل أن وزير الدفاع ويليام بيري استدعى محمد بن زايد إلى البنتاغون. ومن أجل جعل تجربته راسخة أكثر، نقله أيضًا إلى معسكر ليجون ورتب لحضور مناورة عسكرية هبطت فيها قوات المارينز على شاطئ نورث كارولينا – في محاكاة لهجوم برمائي في إيران أو العراق. وأضاف ريدل: “كنا نقول في البنتاغون، إن الهدف كان يتمثّل في جعل محمد بن زايد مهووسا بالمجلات الفضائية الجوية وهو ما سيجعله يشتري أي شيء ننتجه”.
يبدو أن هذا الإغواء التعريفي والتوجيهي قد نجح. لقد أنفقت الإمارات مليارات الدولارات على الطائرات الأميركية وأنظمة الأسلحة، وقال زوار مكتب محمد بن زايد إنهم ما زالوا يرون أكواما من المجلات العسكرية هناك. في أوائل التسعينات، أخبر بن زايد ريتشارد كلارك، الذي كان مساعد وزير الخارجية آنذاك، أنه يريد شراء طائرة مقاتلة من طراز إف-16. وقد ردّ عليه كلارك بأنه ربما كان يعني طراز إف-16أي، النموذج الذي باعه البنتاغون للحلفاء الأمريكيين. لكن بن زايد نفى ذلك، وأشار إلى أنه يريد نموذجًا جديدًا شاهده في مجلة “أفييشن ويك”، مع نظام رادار وأسلحة متطور. أخبره كلارك بأن هذا النموذج لم يكن موجودا بعد، حيث لم تقم المؤسسة العسكرية بإجراء البحث والتطوير الضروريين، بيد أن بن زايد أخبره بأنه سيتكفّل شخصيا بمصاريف البحث والتطوير.
في سياق متّصل، أفاد كلارك بأن “المفاوضات اللاحقة استمرت لسنوات، وعلى الرغم من أن تكتيكات “محمد بن زايد” الشرسة أغضبت بعض كبار ضباط وزارة الدفاع، إلا أنه انتهى به الأمر إلى امتلاك طائرات من طراز إف-16 أفضل من التي كانت تمتلكها القوات الجوية الأميركية”. في العقود القادمة، من المتوقّع أن يُثبت محمد بن زايد أنه في حال رفض الجيش الأمريكي استيعابه، فسوف يكون سعيدًا تمامًا بالتسوق من أي مكان آخر – حتى في الصين، التي باعت طائرات دون طيار بسعر زهيد للجيش الإماراتي في السنوات الأخيرة. ومع ذلك، ظلت علاقته مع الولايات المتحدة هي الأهم حتى الوقت الراهن.
في 11 أيلول/ سبتمبر 2001، كان محمد بن زايد متواجدا في شمال أسكتلندا، يستمتع بآخر صباح من رحلة صيد دامت أسبوعا مع صديقه ملك الأردن، عبد الله الثاني. ودّعه واستقل طائرة خاصة إلى لندن، حيث وصل بعد الغداء مباشرة. وفقًا لمسؤول كان حاضرًا، لم يغادر بن زايد الطائرة حتى عندما جاء عضو مصري من حاشيته من المحطة وصعد على متن الطائرة صارخا “نيويورك تحترق!”.
لم يكن محمد بن زايد على علم بما حدث ذلك اليوم، ولكن عندما عرف كان غاضبًا. ثم سأل الرجل: “ماذا تقول؟ نيويورك تعتبر مركز العالم – انظر إلى أي مدى نحن معرضون للخطر”. حاول بن زايد الوصول إلى والده، ولكنه عجز عن تحقيق ذلك. وقد تمكن من التواصل مع كلارك الذي كان يعمل بعد ذلك على مكافحة الإرهاب في البيت الأبيض. وقد كانت هذه المكالمة هي الوحيدة التي أجراها كلارك ذلك الصباح من خارج الحكومة. اتصل كلارك مجددا بمحمد بن زايد قائلا: “صك على بياض- أخبرني ماذا أفعل؟ وعندما عاد بن زايد إلى أبو ظبي، في وقت لاحق من ذلك اليوم، عرف أن اثنين من الإماراتيين كانا من بين الخاطفين الـ 19.
شكلت أحداث 11 من أيلول/ سبتمبر لحظة تغيير في حياة بن زايد، حيث كشفت عن عمق التهديد الإسلامي وحالة إنكار العالم العربي لها. في شهر تشرين الأول/ أكتوبر، أخبرني بن زايد أنه استمع في دهشة لرئيس دولة عربية، في لقاء له رفقة والده في زيارة إلى أبو ظبي، وعبر عن رفضه للهجمات باعتبارها شأنا داخليا يشمل وكالة المخابرات المركزية أو الموساد.
بعد أن غادر رئيس تلك الدولة، التفت زايد إلى بن زايد، الذي كان هناك لحضور الاجتماع وسأله عن رأيه. في الواقع، يذكر أنه أخبر والده، “لدينا أدلة”. في ذلك الخريف، اعتقلت الأجهزة الأمنية الإماراتية حوالي 200 إماراتي وحوالي 1600 أجنبي كانوا يخططون للذهاب إلى أفغانستان والانضمام إلى تنظيم القاعدة، بما في ذلك ثلاثة أو أربعة من الملتزمين بأن يصبحوا انتحاريين.
في نفس ذلك الخريف، أجرى بن زايد محادثة أخرى مع والده من شأنها أن تؤثر على طريقة تفكيره في الإسلام السياسي. أخبرني بن زايد أن اللقاء بدأ عندما دخل إلى مكتب والده بخبر مهم؛ الأمريكيون بدأوا في إرسال قواتهم إلى أفغانستان. وفي هذا الشأن، قال زايد إنه يريد انضمام القوات الإماراتية إليهم. أما محمد بن زايد، الذي كان يقود القوات المسلحة بحلول هذا الوقت، لم يكن مستعدًا لذلك. في الواقع، إن القيام بدور نشط في الحملة الأمريكية من شأنه أن يثير قضايا حساسة، بالنظر إلى أن البعض يصفونها بأنها حرب ضد الإسلام. ونظرا لإحساسه بعدم ارتياح ابنه من احتمال إرسال القوات، قال زايد: “أخبرني، هل تعتقد أنني أفعل ذلك من أجل بوش؟” فأجابه بن زايد: “نعم” ليخبره والده: “خمسة بالمئة فقط من أجله. وهل تعتقد أنني أفعل هذا لإبعاد بن لادن؟” فهز بن زايد رأسه ليجيبه والده: “هذه هي الخمس بالمئة الأخرى”.
انتاب بن زايد حالة من الحيرة ليطلب من والده شرح ذلك له. فقال له والده: “لقد قرأت القرآن والحديث، أقوال النبي وأنت تحبهم؟” فأجابه ابنه “بالطبع”. ثم قال زايد: “محمد، هل تعتقد أن هذا الرجل أي بن لادن الذي يحوم حول أفغانستان يفعل ما أراد النبي أن نفعله؟” فأجابه ابنه “لا على الإطلاق”. ليخبره والده بشكل قاطع: أنت على حق. لقد تم السطو على ديننا”. لم يكن على بن زايد أن يضيف أنه كان هناك سبب آخر لمحاربة القاعدة – لقد كان هناك تهديد لسلطة أسرهم.
بعد فترة وجيزة من هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، أجرى محمد بن زايد آل نيهان تقييما تصاعديا لجميع نقاط الضعف التي تعيب بلده في وجه الهجمات الإرهابية. ومن جهتها، تقول مارسيل وَهبة، التي قدِمت بصفتها سفيرة جديدة للولايات المتحدة في تشرين الأول/ أكتوبر من تلك السنة: “أعتقد أن أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر دفعت محمد بن زايد آل نيهان إلى النظر في إعادة تقييم القطاعات الرئيسية من التعليم إلى التمويل”. وأضافت: “لقد مروا بكل ذلك بشكل منهجي للغاية”.
وفقًا لوهبة، شكل بن زايد فريقا مكونا من إخوته وكبار المستشارين، وعمل هذا الفريق بلا كلل لإصلاح الثغرات، كما شرع في تسجيل جميع معاملات محلات الحوالة، وهي نظام تحويل أموال غير رسمي استخدمه الإرهابيون في كثير من الأحيان. علاوة على ذلك، ثبّت هذا الفريق أجهزة استقبال على المراكب الشراعية التي تجولت في الخليج، وبدأ في البحث عن طرق لتحسين مراقبة شبكات التجارة والتمويل المتشعبة التابعة للإمارات. وتهدف الكثير من هذه الإجراءات إلى ردع الإرهابيين الذين يعبرون الإمارات، لكن كان خطر الهجمات داخل البلاد حقيقيًا أيضًا.
في السنوات التالية، أحبطت السلطات التابعة للإمارات المتحدة سلسلة من المؤامرات الإرهابية التي نظمتها الجماعات الجهادية، بما في ذلك خطة لسنة 2005 تشمل هجوما ثلاثيا بسيارات مفخخة ضد فندق خمس نجوم. في الوقت نفسه، شن بن زايد هجومًا أوسع على الأيديولوجية الإسلامية. ينتمي العديد من الإسلاميين الإماراتيين إلى جمعية الإصلاح والتوجيه الاجتماعي، وهي حركة تأسست في سبعينات القرن الماضي وقد مثلت النظير المحلي لجماعة الإخوان المسلمين. وكان بينهم الآلاف من الأجانب، الذين ينتمي معظمهم إلى مصر، والذين رُحب بهم قبل عقود لسد حاجة الإمارات للمهنيين المتعلمين والبيروقراطيين.
في البداية، رحبت الأسر الحاكمة في البلاد بجمعية الإصلاح والتوجيه الاجتماعي، إذ رأوا أنها جماعة متدينة ذات دوافع حميدة. وبحلول التسعينات، جعل الإسلاميون وزارتي التعليم والقضاء “دولة داخل الدولة”، وذلك وفقًا للصحفي الإماراتي سلطان سعود القاسمي، حيث حددوا كيفية توزيع المنح الدراسية ودفعوا المحاكم نحو اتجاه أكثر تدين.
على خلفية ذلك، أذن بن زايد بإقالة المعلمين الإسلاميين وإعادة صياغة الكتب المدرسية في البلاد. يمكن لمعظم الإماراتيين الذين أعرفهم أن يروُوا قصصًا مروعة عن معلمي المدارس الابتدائية الذين أخبروهم لمرات قليلة عن أمجاد الجهاد العنيف وفساد الكفار أو الملحدين، كما كانت الكتب المدرسية التي أعدها أعضاء جماعة الإخوان تدعو للتطرف حتى في مواد مثل التاريخ والرياضيات، مثلا: “إذا قتلت ثلاثة مستوطنين يهود واحتفظت باثنين، فما هو المجموع؟”.
أما في الوقت الراهن، تقدم المدارس الثانوية الإماراتية دورات أخلاقية مستقلة عن الدراسة الدينية – وهو أمر ما كان لأحد أن يتصوره قبل وقت ليس بالبعيد. بالإضافة إلى ذلك، بذل بن زايد جهودًا هادئة أخرى لدفع الدين إلى عالم خاص، حيث أنه وفر برنامج عمل للعلماء الدينيين المحترمين الذين اتبعوا نهجًا أقل صرامة، بما في ذلك عدد من الصوفيين البارزين مثل علي الجفري وعارف علي النايض وحمزة يوسف، والعالم الموريتاني الصوفي الشهير الذي يرأس الآن مجلسًا إماراتيًا يشرف على الأحكام الدينية، عبد الله بن بيه. كما شرعت الإمارات في تصدير علامتها التجارية الخاصة بالإسلام عبر برامج تدريبية للأئمة في الخارج، بمن فيهم الآلاف من الأفغان.
تركّز معظم أعضاء جمعية الإصلاح والتوجيه الاجتماعي شمال البلاد، وخاصة في رأس الخيمة، التي تبعد عن شمال دبي ما يزيد قليلاً عن ساعة بالسيارة. تُعد هذه الإمارة أقل كثافة وتحتوي على عدد أقل من ناطحات السحاب ومراكز التسوق، كما أنها أقل فخامة مقارنة بمدن الجنوب الثرية.
عبرت جمعية الإصلاح والتوجيه الاجتماعي إلى حد ما عن استنكارها لثقافة فرط الرأسمالية المنتشرة في أكبر مدن الإمارات. وكانت العديد من تصريحاتها العامة بمثابة احتجاجات ضد الحانات والدعارة التي تخدم العدد المتزايد من السكان الأجانب في الإمارات. وفي النهاية، بدأ الناطقون باسم الجمعية في تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، على الرغم من أن القيام بذلك مثل على الأقل وسيلة مريحة لكسب التعاطف الغربي مع قضيتهم.
تبنى العرب والدبلوماسيون في الغرب الرأي القائل إنه يجب التسامح مع الإسلاميين من هذا النوع، وأنه من المرجح أن تضعف وجهات نظرهم بمرور الوقت من خلال اندماجهم في السياسة الانتخابية. وغالبًا ما تُتخذ حركة النهضة التونسية كمثال على ما قد يحدث عندما تتاح فرصة للإسلاميين للتطور في اتجاه أكثر تقدمية. وفي الواقع، يتقاسم حزب النهضة، الذي انبثق من جماعة الإخوان المسلمين، السلطة مع حزب علماني، كما أشار زعيمه إلى أن الحزب يعد بديلا عربيا عن الأحزاب الأوروبية مثل الديمقراطيين المسيحيين أكثر من كونه حزبًا إسلاميًا.
شارك بن زايد في نوع من الحوار مع الإسلاميين التابعين للإمارات، وادعى أن هذه التجربة أثبتت أنه لا يمكن الوثوق بهم. بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، بدأ بن زايد في الاجتماع مع أعضاء جمعية الإصلاح والتوجيه الاجتماعي وحثهم على العودة إلى المجموعة. في البداية، عرض عليهم صفقة تتمثل في الابتعاد عن السياسة ومواصلة عملهم الخيري. في المقابل، استجابوا للصفقة بجملة من المطالب. وانتهت محاولات التوعية بعد اجتماع اتسم بالتوتر سنة 2003. علاوة على ذلك، يبدو أن موقف بن زايد ازداد صرامة، حيث أنه أخبر وفدا زائرا من الولايات المتحدة في 2004 قائلا: “نحن نخوض حربا ثقافية مع جماعة الإخوان المسلمين في هذا البلد”، وذلك وفقا لبرقية نشرتها منظمة “ويكيليكس”. كما أخبر مجموعة من الدبلوماسيين الزائرين للإمارات في سنة 2009 بأن أحد أبناء بن زايد بدأ في تبني الفكر الإسلامي، وتعامل مع ذلك باستخدام تكتيك استخدمه والده، والمتمثل في إرسال ابنه إلى إثيوبيا مع حركة الصليب الأحمر حتى يقدر الاستحقاق الأخلاقي لغير المسلمين.
حتى عندما اتخذ إجراءات صارمة ضد جماعة الإخوان المسلمين، كان بن زايد يعمل على مشروع أكثر طموحًا، ألا وهو بناء دولة تظهر الحركة الإسلامية برمتها من خلال تحقيق ما فشلت هي في تحقيقه. فبدلاً من الديمقراطية غير الليبرالية – مثل الديمقراطية التركية – كان سيبني نقيضها، أي أوتوقراطية ليبرالية من الناحية الاجتماعية مثلما فعل لي كوان يو في سنغافورة في الستينات والسبعينات.
ركز بن زايد أولا على الخدمة المدنية في أبو ظبي التي كانت تعاني من الكثير من العلل التي تعاني منها البلدان العربية الأخرى، والمتمثلة في التضخم وانعدام الكفاءة، حيث تلعب المعارف وسمعة الأسرة دورا أكبر في التوظيف أكثر من الكفاءة. مثلت هذه المظاهر جزءًا من إرث الرجل المصري القوي، جمال عبد الناصر الذي بنى نموذجًا أوليًا مختلا وظيفيا في الخمسينات، والذي وقع استخدامه في كل مكان.
عيّن بن زايد مجموعة من الشباب الموهوبين وأذن لهم بوضع حد للبيروقراطية. وخلال السنوات القليلة التي تلت ذلك، طردت هذه المجموعة عشرات الآلاف من الموظفين وأعادت تعيين العديد من الموظفين الآخرين، وذلك بهدف إعادة هيكلة الدولة. وبين 2005 و2008، انتقلت حكومة أبو ظبي من 64 ألف شخص إلى 7 آلاف فقط. في الوقت نفسه، بدأ بن زايد في تسخير احتياطيات رأس المال الضخمة في أبوظبي لبناء اقتصاد غير نفطي. باستخدام صندوق الثروة السيادية الجديد المسمى “مبادلة”، جذب بن زايد صناعات جديدة، وخلق فرص عمل من شأنها أن تساعد في تدريب السكان المحليين. كما حسن من صورته التقدمية عن طريق إشراك النساء في مجلس وزرائه. أنشأت مبادلة مركزًا للفضاء الجوي والطيران في مدينة العين، حيث تمثل النساء 86 بالمئة من العمال.
قد يبدو بن زايد في بعض الأحيان أنه يرغب في تغيير الإماراتيين أنفسهم، وجعل شعبه أكثر انضباطًا وعقلانية وأكثر اعتمادًا على الذات، حيث سمعه أحد الدبلوماسيين السابقين يقول: “هل سبق أن صافحت إماراتيا. إنها يد ضعيفة – لأنهم يشيحون بنظرهم بعيدا. أنا أحاول تعليم الناس أن ينظروا إليك في عينيك ويصافحوك بحفاوة”. جعل بن زايد أيضا رياضة جيو جيتسو إلزامية في المدارس. وفي سنة 2014، أسس التجنيد الإلزامي العسكري، مما أجبر الشباب الإماراتي – الذين مُنحوا الإسكان المجاني والتعليم والرعاية الصحية – على تحمل سنة في معسكر التدريب وعلى تحمل العمل الشاق. كما صمم بن زايد على أن يأخذ هؤلاء الشباب الأمر على محمل الجد. بعد وقت قصير من بدء التجنيد، فشل بضع مئات من الشباب المؤهلين في التسجيل. أخبرني أحد الدبلوماسيين السابقين، أن بن زايد أمر بإحضار هؤلاء الشباب إليه “وأمضى ساعة في إخبارهم حول ما فعله والده، وبنائه للبلد وما إلى ذلك”. وأضاف أنه “زج بهم جميعًا في السجن لمدة 30 يومًا” (علما بأنه شكك متحدث إماراتي في هذا التصريح).
عندما بدأت في زيارة الإمارات لأول مرة في سنة 2007، سمعت الكثير من المعلومات المقلقة حول العواقب الاجتماعية المترتبة على التحول المفاجئ للبلاد من الفقر إلى الثروة الهائلة، والتي تمثلت في الخمول والاكتئاب والعزلة والتفكك. وفي آخر زياراتي، سمعت ما لا يقل عن عشرات القصص عن الأشخاص الكسالى اليافعين الذين عادوا من معسكر التدريب هادئين ونحيفين، والذين كانوا على استعداد فجأة لغسل الملابس والأطباق الخاصة بهم. جمع التدريب الإلزامي العسكري أيضًا أشخاصًا من مختلف الإمارات والطبقات الاجتماعية على نحو نادرا ما حدث في الماضي.
بثت حرب اليمن الرعب ونشرت الخراب في هذا البلد الفقير، لكن يبدو أنه كان لها تأثير شديد على المجتمع الإماراتي. قُتل أكثر من 100 إماراتي في القتال، وعلى الرغم من أن هذا العدد ضئيل مقارنةً بالعدد الهائل من القتلى اليمنيين، إلا أنها تعد من الناحية الإنسانية أكثر الحروب التي خاضتها الإمارات تكلفة. كان لبن زايد ومعظم حكام الإمارات الست الأخرى أبناء أو أبناء أخ على الحدود الأمامية، والذين أصيب بعضهم بجروح خطيرة. التقيت بزايد بن حمدان، وهو ابن شقيق بن زايد وصهره، لفترة وجيزة. كان يستخدم كرسيا متحركا بعد الضرر الذي طال عموده الفقري في حادث تحطم مروحية في اليمن في سنة 2017.
في سنة 2009، اتخذ بن زايد قرارًا من شأنه أن يزيد من قدرته على إبراز سلطته خارج حدود بلاده، حيث دعا اللواء مايكل هيندمارش، وهو القائد السابق المتقاعد لقيادة العمليات الخاصة الأسترالية، لمساعدته في إعادة تنظيم الجيش الإماراتي. في وقت سابق، طلب بن زايد من هيندمارش مساعدته في العثور على ضابط إماراتي لقيادة عملية إعادة تشغيل وحدات النخبة في البلاد. لكن يبدو أن بن زايد قد أُعجب بهيندمارش، الذي يتميز بأسلوب مريح وصريح في التعامل، وانتهى به الأمر لاختياره لهذا المنصب.
لن يكون تعيين شخص غير عربي مسؤولا عن المؤسسة العسكرية في البلاد أمرا واردا في أي دولة أخرى في منطقة الشرق الأوسط. لكن بحلول سنة 2009، تمكن محمد بن زايد من إحكام قبضته على الدولة. ألحقت الأزمة المالية العالمية الضرر بالإمارات الست الأخرى، لا سيما دبي، حيث فقدت جزءًا من حكمها الذاتي لصالح أبو ظبي، التي تعد أكبر وأغنى إمارة في الاتحاد. وقد منح بن زايد هيندمارش (الذي يطلق عليه اسم “الرئيس”) دعمه الكامل وجميع الأموال التي يحتاجها. كان هيندمارش، الذي اعتاد على العقبات البيروقراطية خلال عقود خدمته في الجيش الأسترالي، مسرورا. لقد أبقت الإمارات العربية المتحدة على دور هيندمارش غير واضح للعيان وذلك مراعاة للحساسيات العربية، ولكنه ظل في منصبه، وكان عمله يشكل ضرورة أساسية لجعل القوات الخاصة الإماراتية من بين الأفضل على مستوى العالم.
لم يكن بن زايد يشعر بالتوتر والقلق إزاء حديث إدارة بوش عن الترويج للديمقراطية وعواقبها، بما في ذلك إنشاء أحزاب سياسية طائفية في العراق والانتصار الانتخابي لحركة حماس في غزة. في سنة 2009، تمكن بن زايد من الكشف عن أجندة تدعم الحرية في الخطاب البارز الذي أدلى به أوباما في القاهرة، الذي دعا إلى “بداية جديدة بين الولايات المتحدة والمسلمين في جميع أنحاء العالم”. إثر ذلك، أخبر دبلوماسي أمريكي أنه يخشى أن يرفع الخطاب من التوقعات في العالم العربي”، ليندلع بعد فترة الربيع العربي.
كانت الولايات المتحدة على مدار عقود طويلة تدعم الرئيس المصري حسني مبارك والحكام المستبدين أمثاله، واعتبرت المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين متشددين ويشكلون خطرا كبيرا. لكن حين وقع انتخاب محمد مرسي، الذي ينتمي إلى جماعة الإخوان رئيسًا لمصر في سنة 2012، قبلت إدارة أوباما بهذه النتيجة، ولكن بن زايد لم يتقبلها.
في مطلع سنة 2013، كانت الإمارات تدعم “حركة تمرد”، وهي حركة شعبية معارضة لحكم مرسي. وقعت مظاهرات حاشدة ضد مرسي في 30 حزيران/ يونيو، وقع على إثرها الإطاحة بمرسي من قبل الجيش في الثالث من تموز/ يوليو بقيادة القائد العسكري عبد الفتاح السيسي الذي وصل إلى السلطة.
محمد بن زايد رفقة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي
تعهدت الإمارات وحلفاؤها الخليجيون على الفور بتقديم مليارات الدولارات لدعم الحكومة الجديدة. حافظ المسؤولون الإماراتيون على صمتهم بشأن دورهم، لكن جميع الدبلوماسيين الذين تحدثت معهم يعتقدون أن الإمارات تواصلت مع السيسي وحددت شروط دعمها المالي قبل الإطاحة بمرسي. وحيال هذا الشأن، قال أحد الدبلوماسيين السابقين: “هناك أسباب تجعلنا نعتقد أنه هو من دبّر للانقلاب”، مضيفا أن “الإطاحة برئيس مصر تمثل إنجازا هائلا بالنسبة لدولة صغيرة في الخليج العربي”.
يرى بن زايد أنه ربما تمكن من منع مصر من أن تصبح ثيوقراطية إسلامية. لكن، القسوة التي يمارسها السيسي أصبحت واضحة للعيان. (ويمكن أن نفترض أن هذا الأمر لا يسبب الإزعاج لبن زايد). في منتصف آب/ أغسطس 2013، أطلق الجيش المصري النار على حوالي ألف شخص في معسكرين للمحتجين المؤيدين للإخوان في القاهرة، وذلك وفقًا لمنظمة “هيومن رايتس ووتش”.
في نفس الوقت تقريبا، بدأت الحكومة في قمع المعارضين العلمانيين أيضًا، وكان السيسي على العديد من المستويات أكثر استبدادية مقارنة بسلفه مبارك. وأدى الاستيلاء على السلطة في مصر إلى إثارة التوترات بين الولايات المتحدة والإمارات، التي تأرجحت بين فرض الرقابة على السيسي، الرجل القوي غير الديمقراطي، والاستمرار في التعاون معه بصمت. (سيقدم ترامب لاحقًا اعترافا غير مشروط، حيث قال مازحا إنه يعتبر السيسي “ديكتاتوره المفضل”).
بعد وقت قصير من تولي السيسي مقاليد الحكم في البلاد، في تشرين الأول/ أكتوبر 2013، حين كان بن زايد يشاهد الأخبار على شبكة سي إن إن، علم للمرة الأولى أن الولايات المتحدة كانت تتفاوض بشكل سري على صفقة نووية مع إيران. لم يخبره أصدقاؤه الأمريكيون بأي شيء عن هذا الأمر، “لقد كانت ضربة كبيرة” بالنسبة إليه، هذا ما أخبرني به أحد كبار مستشاري بن زايد.
في حقيقة الأمر، لم يكن بن زايد يعارض فكرة التفاوض مع إيران كثيرا (في نهاية المطاف، صادقت الإمارات على الاتفاق النووي الأولي، الذي جرى إضفاء الطابع الرسمي عليه في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر). بدلا من ذلك، كان بن زايد يشعر بالذهول من أن أوباما لم يكلف نفسه عناء استشارته أو إبلاغ حليف قديم عن مثل هذه الصفقة المهمة، وهي الصفقة التي كان يجري التفاوض بشأنها في الجوار في عمان. كان هناك الكثير من الأمور على المحك بالنسبة للإمارات، حيث أجبر التجار في دبي على التخلي عن أعمالهم المربحة مع إيران للامتثال للعقوبات المفروضة. وحيال هذا الشأن، قال المستشار البارز: “شعر صاحب السمو أن الإمارات قدمت العديد من تضحيات، ومن ثم أُقصيت”.
شكّل الوضع المضطرب في مصر ومحادثات إيران معًا منعرجًا كبيرًا في العلاقات بين بن زايد والولايات المتحدة. لم يكن التحول واضحًا بشكل مباشر، حيث استمر في التواصل مع أوباما بانتظام وقدم له المشورة وحذره من أن الحل المقترح لحل الأزمة في سوريا – المتمثل في المتمردين الإسلاميين – قد يكون أسوأ من المرض في حد ذاته (طغيان الأسد). فضلا عن ذلك، حث بن زايد أوباما على التواصل مع الروس حول العمل المشترك في سوريا، وكان من شأن هذا الاقتراح الواقعي وضع حد للحرب بشكل أسرع، وإن كان ذلك عن طريق تبديد أمل المعارضة في الفوز.
تحت غطاء المشاورات الروتينية، تغيرت مشاعر بن زايد إزاء أوباما. ومن ثم تحولت العلاقة في نهاية الأمر إلى علاقة سامة، حيث تحدث محمد بن زايد بالسوء عن الإدارة الأمريكية مع الزائرين، وذلك وفقا لما أورده مسؤولون سابقون في الإدارة. كما أدلى أوباما بتعليقات رافضة في مقابلة أجراها في سنة 2016 مع مجلة الأتلانتيك، ووصف حكام الخليج “بالركاب المجانيين” الذين “لا يملكون القدرة على إخماد النيران بأنفسهم” ويتوقعون من الولايات المتحدة أن تهرع لإنقاذهم.
كانت الطامة الكبرى بعد شهر من انتخاب دونالد ترامب، حين سافر بن زايد إلى نيويورك للقاء فريق الرئيس المنتخب، وألغى مأدبة غداء مع أوباما. بعد فترة وجيزة، استضاف بن زايد وسيطا روسيا في منتجع يملكه الإماراتيون في سيشيل مع مؤسس شركة “بلاك ووتر” إريك برنس، وهو اللقاء الذي جعلهم محل تحقيق روبرت مولر حول علاقة إدارة ترامب مع روسيا. ولا يبدو أن الاجتماعات المذكورة في تقرير مولر لفترة وجيزة، تنطوي على أي تواطؤ يتعلق بترامب. لكن حتى لو لم يكن متواطئا مع الروس، يبدو أن موقف بن زايد تجاه رعاة الولايات المتحدة قد تغير. كان يملك خططا خاصة به، ولم يعد ينتظر موافقة عليها.
كانت الإطاحة بمرسي أول نجاح كبير لحملة بن زايد المضادة للثورة، ويبدو أنه زاد من ثقته فيما يمكن القيام به دون قيود أمريكية.
كانت الإطاحة بمرسي أول نجاح كبير لحملة بن زايد المضادة للثورة، ويبدو أنه زاد من ثقته فيما يمكن القيام به دون قيود أمريكية. سرعان ما تحول انتباهه إلى ليبيا، التي انتشر وجود الجهاديين فيها. بدأ بن زايد بتقديم الدعم العسكري للجنرال السابق المنشق خليفة حفتر، وهو مستبد يتقاسم مشاعر بن زايد ضد الإسلاميين. في قمة كامب ديفيد في أيار/ مايو 2015، وجّه أوباما توبيخا ضمنيًا لكل من بن زايد وأمير قطر لشن حرب بالوكالة لدعم الميليشيات المتنافسة. ولكن بحلول نهاية سنة 2016، أقامت الإمارات قاعدة جوية سرية في شرق ليبيا قصفت من خلالها طائرات وطائرات دون طيار تابعة لأعداء حفتر في بنغازي.
مثّل كل ذلك انتهاكًا لحظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة، الأمر الذي أثار غضب واشنطن. قُتل الآلاف في الصراع الليبي، ولم تنجح جهود حفتر للاستيلاء على طرابلس. وفقا لأحد الدبلوماسيين الأمريكيين السابقين المعجبين ببن زايد، فإن تعامله مع الفوضى في ليبيا يؤكد الخطر الذي ينطوي عليه التمادي. حيال هذا الشأن قالت: “إنهم يتطلعون إلى إدارة وتصفية الأطراف التي لا يرغبون في وجودها. سيتعلمون أنهم لا يستطيعون فعل ذلك. يمكنك إثارة أزمة بسبب تدخلك في أمر لا يعنيك”.
في الوقت الذي ابتعد فيه عن إدارة أوباما، اكتسب بن زايد حليفًا قويًا، ألا وهو ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. وقد يبدو التحالف أمرا طبيعيا بالنسبة للأطراف الخارجية. لكن تفوقت الرابطة بين هذين المستبدين على الشقاق التاريخي. يمثل السعوديون “منبع الإسلام السياسي”، على حد تعبير الصحفي السعودي جمال خاشقجي. يوافقه بن زايد الرأي. تعود جذور الدولة السعودية إلى اتفاق عُقد في القرن الثامن عشر بين حكامها والمتشددين المنتمين إلى الوهابية، التي تعتبر صيغة للتطرف الذي ترعاه الدولة والذي يجعل جماعة الإخوان المسلمين تبدو معتدلة.
نشأ بن زايد في وقت شعر فيه معظم الإماراتيين بالتهديد من طرف الدولة الصحراوية الكبرى المجاورة، حيث كانت هناك اشتباكات مسلحة على الحدود في خمسينات القرن الماضي. في سنة 2005، أخبر بن زايد سفير الولايات المتحدة، جيمس جيفري، أن همه الأكبر كان الوهابية، وذلك حسب ما ورد في برقية نشرتها “ويكيليكس”. كان بن زايد يعتبر العائلة المالكة السعودية عاجزة، ولكنه كان يخشى أن تكون الثيوقراطية الوهابية، على غرار تنظيم الدولة، البديل في مثل هذا المجتمع المحافظ. ويتذكر جيفري قوله: “كل شخص سيحل محل آل سعود سيكون كابوسًا. ينبغي علينا تقديم يد المساعدة لهم حتى يتمكنوا من مساعدة أنفسهم”.
سرعان ما سار محمد بن زايد آل نهيان على خطى نظيره السعودي، الذي كان متعطشا لإجراء إصلاحات كبيرة، بهدف التقليص من مدى ارتباط اسم المملكة العربية السعودية بالإسلام المتطرف. يبدو أنه كان مرشدًا للرجل الشاب، مما شجع إدارة أوباما على دعمه. في المقابل، يبدو أنه غير قادر على معارضة التأثيرات السلبية التي يمكن أن يفرضها عليه محمد بن سلمان. خلال شهر آذار/ مارس، عندما قاد السعوديون حملة عسكرية ضد المقاتلين الحوثيين المتحالفين مع إيران في اليمن بالتعاون مع الإمارات العربية المتحدة بشكل رئيسي، توقع الكثيرون أن تستمر هذه الحرب بضعة أشهر على أقصى تقدير. بدلاً من ذلك، استمرت هذه الحرب قرابة خمس سنوات، وأصبحت كارثة هزت ضمير العالم. لقد انهارت المباني القديمة وتحولت إلى أنقاض، وقُتل الآلاف من المدنيين. بات اليمن، الذي يعد بالفعل أفقر بلد في العالم العربي، يعاني من تفشي المجاعة والأوبئة. وبذلك، أصبح الهدف المزعوم للحرب الذي يتمثل في إزالة حكومة الحوثي المدعومة من قبل إيران بعيد المنال أكثر من أي وقت مضى.
تتحمل الإمارات العربية المتحدة جزءا من المسؤولية في هذه الكارثة الضخمة، على الرغم من أنها لم تكن مسؤولة عن التفجيرات التي ألحقت الكثير من الدمار بشمال اليمن. في المقابل، حصر محمد بن زايد دور بلاده في الجنوب، حيث أخفقت في محاولاته إبرام صفقات سياسية لإنهاء الحرب، واعتمد على وحدات الكوماندوز التابعة هيندمارش بهدف تدريب القوات المحلية. وقد أخبرني أحد كبار المسؤولين العسكريين الأمريكيين السابقين أنه من 95 إلى 100 في المئة من النجاح العسكري المُحرز في هذه الحرب يعود إلى الإماراتيين.
في شهر حزيران/ يونيو، عندما أعلن محمد بن زايد عن انسحاب قواته من اليمن أوضح أن شراكته الجديدة مع المملكة العربية السعودية لها حدود، بينما بدأ في رسم مسار دبلوماسي قريب أكثر مع إيران. بعد سلسلة من الهجمات على سفن الشحن في الخليج الفارسي وإسقاط طائرة مسيرة أمريكية، هدد ترامب بالرد على ذلك في الشهر ذاته، غير أنه تراجع عن ذلك في اللحظات الأخيرة. يبدو أن بن زايد شعر أن طهران بدأت تعتبر ترامب نمرًا ورقيًا، نظرا لتركه الإمارات العربية المتحدة عرضة بشكل خطير لمزيد من العدوان الإيراني. بعد فترة وجيزة، أصدرت أبو ظبي بيانات تصالحية وأرسلت وفدًا إلى إيران في أواخر شهر تموز/ يوليو. ومن المرجح أن اتباع هذا النمط من التواصل والحوار أضحى ضروريًا لاسيما في أعقاب اغتيال سليماني، حيث يكافح جيران إيران لتجنب اندلاع الحرب.
في شهر تموز/ يوليو، أشاد بعض منتقدي محمد بن زايد بمبادرته الدبلوماسية باعتبارها علامة على مرونة غير متوقعة من جانبه. في بعض الأحيان، قد يكون محمد بن زايد جامدًا وأيديولوجيًا تماما مثل أعدائه. أصبح الحظر المفروض على قطر، الذي بدأ في شهر حزيران/ يونيو 2017، ذو طابع شخصي، حيث شن الجانبان حملات سيئة لتشويه سمعة وسائل الإعلام، وأدى ذلك حتى إلى مناوشات بالوكالة في الصومال. يُقوض هذا الخلاف هدف محمد بن زايد الظاهري المتمثل في الحفاظ على جبهة موحدة تهدف بالأساس إلى تقويض نفوذ إيران بالمنطقة. خبرني مسؤول عسكري أمريكي سابق رفيع المستوى: “أنه في حال لم يجدوا طريقة لحل هذا النزاع، سيستغل شخص ما هذه الفجوة”. في أسوأ الحالات، ألقى الخلاف مع قطر بظلاله على حملة محمد بن زايد بأكملها ضد الإسلام السياسي التي كانت ذات أهداف انتقامية بحتة، حيث كان حريصًا على إهانة منافسيه أكثر من أي شيء آخر.
وُضع تمثال برونزي كبير خارج مكتب محمد بن زايد الرئيسي في أبوظبي، كتب عليه كلمة “التسامح” بالأحرف الإنجليزية. وهذا يدل على أن دولة الإمارات العربية المتحدة تبذل جهودا حثيثة من أجل الإعلان عن التزامها بالتعددية. في سنة 2016، أنشأت الحكومة وزارة للتسامح، واعتبرت سنة 2019 سنة التسامح التي استهلتها الإمارات بالزيارة التي أداها البابا فرانسيس إلى البلاد خلال شهر شباط/ فبراير، والتي أثارت جدلا كبيرا، حيث كانت المرة الأولى التي تطأ فيها قدما البابا شبه الجزيرة العربية. لم يمتد هذا الطابع المتسامح ليشمل الإسلاميين أو أي شخص يعرب عن تعاطفه معهم. منذ سنة 2011، شنت دولة الإمارات حملة صارمة ضد الإسلاميين وقامت باعتقالهم وسجنهم بشكل جماعي تحت ذرائع واهية.
في سنة 2012، أغلقت السلطات الإماراتية مكاتب دبي للمعهد الوطني الديمقراطي التي يقع مقرها في الولايات المتحدة وغيرها من المؤسسات الأجنبية التي تدعم المؤسسات الديمقراطية. أما في سنة 2014، صنفت الحكومة جماعة الإخوان المسلمين رسميًا جماعةً إرهابيةً. كما لاحقت قضائيا على الأقل محاميًا واحدًا دافع عن الإسلاميين، وفي بعض الحالات، منتقدي الحكومة العلمانيين.
فضلا عن ذلك، أجرى معظم الإماراتيين الذين ناقشوا حملة محمد بن زايد التي تستهدف جماعة الإخوان المسلمين حوارات معي بشرط عدم الكشف عن هويتهم واستخدام تطبيقات مشفرة. على عكس الغرب، يمكن للكاميرات الخاصة في البلاد أن تصبح خاضعة للحكومة، مما يعطي السلطات رقابة استثنائية على ما يجري في كل مكان في البلاد. كما اكتُشف أن تطبيق رسائل معتمد على نطاق واسع في الإمارات منذ السنة الماضية، الذي يعرف باسم “توتوك”، يستخدم كأداة تجسس للمخابرات الإماراتية. على خلفية ذلك، سارع المسؤولون في الإمارات إلى الدفاع عن هذه التكتيكات؛ ذلك أنه من شأن قنبلة إرهابية واحدة أو صاروخ إيراني أن يتسبب في فرار العمالة الوافدة على البلاد ما سيساهم في إلحاق أضرار جسيمة بدور الدولة كمركز آمن للنقل والتجارة. ففي سنة 2014، على سبيل المثال، طعن متطرف متأثرٌ بأيديولوجية تنظيم الدولة أحد المعلمين حتى الموت في أبو ظبي، مما يؤكد الخطر المحدق بالبلاد.
يبدو أن الإمارات لا تستهدف الإرهابيين فحسب. فقد طورت برنامجًا ذكيًا بشكل متزايد للذكاء السيبراني، أطلقت عليه اسم “مشروع رافين” أنشأه عملاء سابقين من المخابرات الأمريكية. ويبدو أن جزءًا منه يستهدف خصوم أبو ظبي السياسيين. تضمنت أهداف مشروع رافين أربعة صحفيين غربيين على الأقل، من بينهم ثلاثة أمريكيين، وذلك وفقًا لتحقيق أجرته وكالة “رويترز” ونشر السنة الماضية.
بالإضافة إلى ذلك، حذرت منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي من أن التعبير عن الدعم لدولة قطر يعد جريمة جنائية يُعاقب عليها بالغرامات أو حتى بالسجن. في هذا الصدد، أفاد عبد الخالق عبد الله، وهو عالم سياسي إماراتي بارز اعتقل بسبب تعبيره عن انتقاده للحكومة، بأن “أضحت حقيقة لا شك فيها اليوم أنه من الصعب للغاية نشر الانتقادات والتعبير بحرية عن المواقف”، مؤكدا أن هذا يحدث في جميع أنحاء العالم العربي. تُفرض في الإمارات الكثير من تدابير الرقابة الذاتية، خاصة مع شعور الشباب بأنهم يجب أن يكونوا أكثر يقظة ضد أعداء البلاد الخارجيين. في هذا الإطار، أخبرني شاب في العشرينات من عمره أنه يتساءل عما إذا كان تهديد جماعة الإخوان المسلمين المبالغ فيه، يساعد على تعزيز قوة الدولة، علما بأنه لا يجرأ على التعبير بشكل علني عن هذه الشكوك.
من المرجح أن يكون اللغز المتعلق بحكم محمد بن زايد الرئيسي يرتبط بأنه حاكم مستبد ذو ميولات ليبرالية اجتماعية يدير بلادًا تختلف وجهات النظر حولها بحسب المكان الذي تقف فيه. وبينما تعارض معايير جماعات حقوق الإنسان الغربية، يمكن أن تبدو الإمارات بسهولة أشبه بمستعمرة عبيد تتبع سياسة رأسمالية صارمة يريد زعيمها سحق كل المعارضة. وعندما تقارنها بسوريا أو مصر، تعتبر الإمارات بمثابة نموذج دولة ليبرالية مستنيرة تقريبًا. يبدو أن الشباب العربي يتبنى وجهة النظر هذه. فقد أظهرت الدراسات الاستقصائية أن معظم الشباب العربي يفضل العيش هناك أكثر من أي مكان آخر، بما في ذلك الولايات المتحدة أو كندا. ويعزى ذلك جزئيًا إلى أن الحنين إلى الماضي هو أسلوب حياة تقريبًا في مصر والعراق، بينما يتحدث الناس في الإمارات أكثر عن المستقبل. ولا يبدو هذا الموقف ذو مصداقية على الرغم من أنه محور نقاش في المنابر الإعلامية في الإمارات.
انتقد الدبلوماسيون الأجانب محمد بن زايد، في عدة مناسبات، بسبب افتقار بلاده للديمقراطية، وقد أجاب من خلاله قول أمور من قبيل “هذه ليست كاليفورنيا”، وهو يصر على أن قلة التعليم وانتشار المواقف الدينية المتخلفة تجعل الاستبداد ضروريًا. في حال نجح في مهمته لتعليم عامة الشعب والقضاء على الإسلام السياسي، فقد تواجه عائلة آل نهيان في النهاية مشكلة أكبر تتعلق بمدى قدرتها على تبرير الدور الذي اضطلعت به بصفتها مملكة افتراضية.
أخبرني زكي نسيبة، الذي عمل مترجمًا ومستشارًا لوالد محمد بن زايد منذ عقود، أنه “لا يمكن استيراد عملية جاهزة”، مؤكدا “لكن نحن بحاجة إلى البدء في إشراك الشباب بشكل أكبر في عملية صنع القرار”. خلال ساعتين بالسيارة من أبوظبي إلى منزل نسيبة الذي يقع في مدينة العين، معقل المحافظين في البلاد، مررت بوحدات سكنية ضخمة وعصرية صممتها الدولة للإماراتيين، الذين يميلون إلى عزل أنفسهم عن الأبراج البراقة في المدينة. لقد كانت تلك المباني بمثابة مثال جلي على الاتفاق الضمني الذي أبرمه آل نهيان مع شعوبهم والذي ينص على السلامة والازدهار مقابل الهدوء.
يعد نسيبة، وهو رجل ضئيل الحجم يبلغ من العمر 73 عامًا، من أحد الأساتذة والسفراء الثقافيين في الدولة الإماراتية، التي عاش فيها منذ وصوله قبل خمسة عقود من الضفة الغربية. ويعتبر منزله عبارة عن متحف بكتبه باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية المرصوفة حتى السقف، وبرج كامل من الأقراص المدمجة لأعمال ريتشارد فاغنر (صورة مؤطرة في الأسفل تُظهر نسيبة مع أحد أحفاد فاغنر، كوزيما فاغنر). تملأ اللوحات والمنحوتات كل المساحة الفارغة في المنزل تقريبًا، التي يعود معظمها لفنانين عرب أو إيرانيين.
حسب نسيبة إن العمل الأكثر أهمية يتعلق ببناء المؤسسات وحماية البلاد من التهديدات الخارجية، وهذا يتطلب قيادة مستقرة، غير أن الجماعات الإسلامية لازالت تشكل خطرا. لقد عدنا إلى الخطر الإسلامي. وأضاف نسيبة: “لقد كانت السنوات الخمسون الماضية تأسيسية، أما الخمسون سنة المقبلة فتتعلق بكيفية نقل البلاد إلى مستوى عالمي جديد؟ وفي الواقع، أضحى هذا التحدي وجوديا أكثر. لذلك، يجب علينا تحصين الناس ضد ما يحدث في الخارج”.
في صباح أحد الأيام من شهر حزيران/ يونيو، استقليت سيارة أجرة من فندقي إلى متحف اللوفر في أبو ظبي، أين تتجسد طموحات محمد بن زايد الفنية الحضارية التي تقدر ببلايين الدولارات. كان الجو حارًا بدرجة لا تحتمل ورطبًا، وعندما مررنا بالكورنيش – حيث شاهدت مشهد البحر الجميل – لم ألمح ولا إنسانًا واحدًا. عندما عبرنا الجسر إلى جزيرة السعديات، كنت قادرا على رؤية المتحف في الأفق الذي بدا مثل سلحفاة معدنية ضخمة. كانت قبته المعدنية الثقيلة مثل برج إيفل، تشبه نسيجا من السلاسل المصممة مثل بستان النخيل، مما يسمح بانعكاس أشعة الشمس على أرض المتحف. عندما وصلنا، خرجت وعانيت من تعرضي لأشعة الشمس لمدة لا تتجاوز الدقيقة، ثم عدت إلى الداخل حيث يوجد العالم الخاضع لسيطرة رؤى محمد بن زايد. كان من السهل تخيله وهو يخطو بثقة حول موقع المبنى قبل عقد من الزمن، مشيرًا بسبابته وكأنه ساحر: “أريد ممرات هنا. دعونا نحافظ على المناطق الساحلية الطبيعية هناك. دعونا نبني الفنادق هناك التي تطل على المتحف. في الواقع، هذا ما حدث إلى حد ما، حسب ما أطلعني عنه الرجل الذي أشرف على المشروع.
عندما كنت أسير داخل المتحف، شاهدت الأعمال الكلاسيكية للفن الغربي والروائع الفنية الصينية والهندية والعربية، برفقة السياح. يعكس المفهوم الإرشادي للمتحف روح دولة الإمارات متعددة الثقافات، التي تعد بمثابة مزيج من الثقافة العالمية رفيعة المستوى. لقد سخر منه بعض النقاد، بما في ذلك الكثيرون في فرنسا، لإجرائه عملية شراء ضخمة لأعمال فنية أوروبية تخدم مصالح الطبقة الثرية على مستوى العالم أجمع. في المقابل، يعد الهدف الرئيسي من تشييد بن زايد لهذا المتحف في تثقيف السكان المحليين، وليس جذب السياح، على حد تعبير أحد مستشاريه.
بينما كنت أتجول بالقرب من تمثال روماني، كانت مجموعة من تلاميذ المدارس الإماراتيين يرتدون قمصانًا خضراء يتدفقون ويجلسون على الأرض حولي. بعد بضع دقائق من التقاط الصور، قادهم معلموهم نحو رواق الأديان العالمي، الذي يعد محور المتحف. تبعتهم واستمعت إليهم إلى أن بدأ أحد المعلمين الحديث عن موضوع معين.
قال المعلم: “تعرفون جميعًا القرآن. ولكن من يستطيع أن يقول لي ما هو الكتاب المقدس للمسيح؟”، قدم عدد من الأطفال الإجابة الصحيحة. “حسن جدا! ماذا عن الكتاب المقدس اليهودي؟ وبالنسبة للهندوس؟ قدم الأطفال المزيد من الإجابات التي تدل على مدى ثقافتهم. في نهاية المطاف، جاءت النقطة الفاصلة في هذا الحديث، حيث أردف المعلم قائلا، “لقد أراد الشيخ زايد أن يكون هذا متحفًا ذو صبغة عالميًا، حيث فكر في وضع جميع الكتب المقدسة في مكان واحد، حتى يتمكن الناس من رؤية ما يشترك فيه دينهم مع بقبة الأديان، وربما بهذه الطريقة سيعاملون بعضهم البعض بلطف أكثر”.
عندما نهض الأطفال وانتقلوا إلى الغرفة المجاورة، أدهشني أن محاضرة المعلم تحتوي على ملاحظة كاذبة. لم يكن الشيخ زايد هو الشخص الذي ابتدع هذا المتحف، بطموحه الكبير لتحطيم الشكوك الإسلامية وتحويل البدو إلى مواطنين حقيقيين في هذا العالم. في الواقع، كان محمد بن زايد مختبئًا في ظل والده، غائبًا وحاضرًا في كامل قوته في الوقت ذاته.
المصدر: نيويورك تايمز