سوق للبيانات للشخصية: عادل ويحافظ على الخصوصية والكرامة.. ممكن؟

ترجمة وتحرير: نون بوست
يزوّد الأشخاص اليوم الاقتصاد الرقمي بتدفق هائل من البيانات، لكنهم لا يتمتعون بأي سلطة افتراضية للمطالبة بتعويض عادل عن ذلك. تفرض الشركات التي تجمع كل تلك البيانات سيطرتها بشكل كامل على السوق، وتكسب مليارات الدولارات دون أخذ قيمة الخصوصية بعين الاعتبار. لذلك، نحن نحتاج إلى سوق جديد لتقييم البيانات يكون قادرًا على تحقيق التوازن في هذا السوق غير المتكافئ وإنشاء قيمة اقتصادية لخصوصية البيانات.
لقد شهدنا بالفعل مناقشات أولية حول هذه الفكرة، حيث يبحث العديد من صناع القرار والباحثون عن نماذج من شأنها أن تقدم تعويضات للأشخاص الذين يشاركون بياناتهم الشخصية. وفي هذا الصدد، اقترح حاكم ولاية كاليفورنيا غافن نيوسوم فكرة تقوم على إعادة توزيع بعض الأرباح التي تجنيها شركات التكنولوجيا من بيانات المستخدم.
بالإضافة إلى ذلك، اقترح كل من جارون لانييه وغلين ويل من شركة مايكروسوفت فكرة أخرى تتناول مفهوم “كرامة البيانات” الذي يرغب الجميع في توفره، التي تتوقع مؤسسة تشبه النقابات العمالية تتفاوض على شروط تبادل البيانات نيابة عن المستخدمين النهائيين. وتشير هذه المقاربات إلى البحث عن سبل تصحيح اختلال التوازن في الاقتصاد الرقمي، حيث تطرح تحديات في غاية الأهمية. ولكن ما نحتاج إليه في نهاية المطاف هو تصميم سوق أكثر دقة يحدد كيفية تقييم قيمة البيانات وتأمينها وتداولها.
يحتاج سوق البيانات الفعال إلى آلية تأخذ بعين الاعتبار حساسيات خصوصية المستخدمين، التي تتجذر في التجربة الشخصية والهوية والسياق المحدد
في الواقع، يحتاج سوق البيانات الفعال إلى آلية تأخذ بعين الاعتبار حساسيات خصوصية المستخدمين، التي تتجذر في التجربة الشخصية والهوية والسياق المحدد. تتغير قيمة جزء من البيانات بشكل فعال استنادًا إلى وضعية حياة الشخص وكيفية دمج هذا الجزء من البيانات مع نقاط بيانات أخرى للحصول على رؤى عميقة. قد لا تكون بيانات الموقع بمفردها بالنسبة لشخص يسير في شوارع مانهاتن مهمة، ولكن من المرجح أن تجعل بيانات إضافية حول تفضيلات التسوق والدخل وتاريخ العائلة التفاصيل المتعلقة بنظام التموضع العالمي ذات أهمية بالنسبة لشركات الإعلان المستهدفة. ومن المحتمل أن تكون بعض البيانات غير مهمة وواسعة الانتشار، في حين قد يكون البعض الآخر أكثر قيمة ويستحق التفاوض.
من المحتمل أن تكون بعض هذه المعلومات قيّمة للغاية، مما يجعل المستخدمين يسعون إلى حجبها تمامًا، على غرار البيانات الصحية الحساسة أو تفاصيل حول أطفالهم. ولكن إذا كنا قد تعلمنا أي شيء عن تراكم عمليات انتهاك البيانات وكشف انتهاكات الخصوصية، فإن هذا يعني أننا لن نبلغ المرحلة التالية من النمو الرقمي دون توفير قدر أكبر من الثقة. ينبغي أن تُستمد هذه الثقة من قدرة الأشخاص على ضمان خصوصيتهم.
ستتطلب أي قيمة اقتصادية حقيقية للبيانات مزيدًا من قدرة المستخدم على التحكم في مشاركة البيانات ودرجة أعلى من ندرة البيانات التي تنشأ بسبب القيود المفروضة على عدم شفافية وعدم مراقبة انتشار معاملات البيانات. وبناءً على ذلك، سيتطلب تحقيق هذه الأهداف سوقا عادلة وفعالة للبيانات توفر أربعة عناصر هيكلية: إدارة البيانات الشخصية، وتعيين ملكية البيانات، وبنية أساسية للمعاملات، والتقييم الفعال للبيانات.
من شأن إدارة البيانات الشخصية أن تخلق توازنا في القوة بين المشترين وبائعي البيانات من خلال إدارة المعلومات الشخصية والخصوصية في التفاعلات الرقمية
من شأن إدارة البيانات الشخصية أن تخلق توازنا في القوة بين المشترين وبائعي البيانات من خلال إدارة المعلومات الشخصية والخصوصية في التفاعلات الرقمية. وهذا يتطلب تحولًا جوهريًا في تحديد شروط وأحكام مثل هذه التفاعلات. اليوم، تظهر عناصر التحكم في إدارة البيانات والخصوصية في شكل عروض تدريجية شاقة أو حلول شاملة. وعلى الرغم من أن إعدادات الخصوصية في أنظمة التشغيل والمتصفحات والتطبيقات والخدمات الرقمية الأخرى تمنح المستخدمين بعض الحماية والقدرة على التحكم، إلا أن مقدمي الخدمات الرقمية مازالوا يحددون نطاق عناصر التحكم هذه.
تسعة من أصل عشرة مستخدمين يوافقون على الشروط عبر الإنترنت دون قراءتها
أصبح الأمر سيئًا للغاية، حيث أن قراءة حوالي 900 صفحة من شروط وأحكام التطبيقات الشائعة على هاتف ذكي تتطلب 34 ساعة، علما بأن تسعة من أصل عشرة مستخدمين يوافقون على الشروط عبر الإنترنت دون قراءتها. وتتيح خدمات الخصوصية الأخرى للمستخدمين مزيدًا من التحكم، ولكن مع وجود حلول شاملة لا تسمح لهم بتعديل تفضيلات الخصوصية وتكون غير موضوعية وشخصية.
وفقا لمايكل بوروس، وهو شريك عام في “أكس سيد كابيتال”، لا يوجد حل مخصص للأغراض العامة لإدارة الخصوصية الفردية. لنجاح سوق البيانات، سيحتاج منشئو البيانات الفرديين، سواء كانوا شركات أو مستهلكين، إلى أدوات لوضع شروط وأحكام الخصوصية الخاصة بهم. ينبغي أن تكون هذه الأدوات قادرة على إدراج مُعرّفات فريدة في جميع أنواع البيانات الشخصية، وتعقب هذه الأنواع المختلفة من البيانات عبر الاستخدامات المختلفة، في الوقت الفعلي، والتفاوض بشأن الشروط المتعلقة بالاستخدام من قبل شركات خارجية.
نحتاج إلى قلب الأمور وإجبار موفري الخدمات الرقمية وتحفيزهم على قبول سياسة خصوصية المستخدم، وليس العكس. يمكن أن يوفر “ميثاق الخصوصية الشخصي” لوحة تحكم رئيسية لإدارة الخصوصية والبدء في تحديد مدى ندرة أنواع مختلفة من البيانات في مجموعات مختلفة، وتوفير ضمان مجموعات البيانات هذه ضد استعادة الملكية ورفع دعوى قضائية قبل تداولها. عند دمج هذا الميثاق مع الأدوات التقنية والقانونية الموضحة أدناه، سيبدأ في خلق ندرة لأي نوع من البيانات، سواء وقع إنشاؤها بشكل سلبي أو إيجابي، مما يوفر شرطًا مسبقًا ضروريًا للتفاوض على قيمة البيانات.
بالطبع، لا يمكن لأي طرف بيع البيانات في حال لم يتمكن في المقام الأول من إثبات ملكيتها. وتتمثل الطريقة الأكثر شيوعًا لتأمين ملكية البيانات الشخصية في حماية حقوق النشر، وهو ما يوفر للمالك مجموعة من الحقوق الحصرية على عمل أصلي طوال مدة حقوق الطبع والنشر. ولكن لا تغطي هذه الحقوق بعض الحقائق المباشرة، مثل الموقع الخاص بشخص ما حسب نظام تحديد المواقع، مما يحد من قدرته على حماية البيانات وإنشاء نقص. وفي حين تتعامل بعض السوابق القضائية الأمريكية الحديثة مع البيانات مثل أي ممتلكات أخرى وتوفر الأساس لحماية ملكية شخص لبياناته، فإن السوق القوية تحتاج إلى وسائل أكثر فعالية وحداثة.
من بين أحد أساليب القوة الغاشمة جعل البيانات غير قابلة للاستخدام دون موافقة مالكيها، ربما عن طريق إغراق معلومات حقيقية في محيط من الشّراك الخداعية. على سبيل المثال، يمكن أن يحدد هاتفك الذكي موقعك ولكن بعد ذلك يقدم مجموعة من الطلبات العشوائية إلى نفس الشبكة. من المؤكد أن مزود الخدمة الرقمية سوف يعتبر هذا استخدامًا مسرفًا أو غير قانوني لقدرته الحاسوبية، مما يعني أن المستخدمين يعتبرون جهات فاعلة سيئة وينتج عن ذلك نتيجة غير مرغوبة أكثر من الخطيئة الأصلية للمزود.
من ناحية أخرى، تعد البنية الأساسية للمعاملات هي البديل الأقل إثارة للجدل إلى حد ما حيث تكتشف أنواعًا غير مقبولة من المتعقّبين في موقع ما، ثم توصي ببديل من مزودي الخدمات الرقمية الذين يسمحون بحماية أفضل أو الموافقة على التفاوض على قيمة البيانات. سوف يؤدي هذا الأمر في النهاية إلى إثارة منافسة حول الخصوصية بين مزودي الخدمات الرقمية.
سيحتاج أي سوق بيانات إلى بنية أساسية للمعاملات يمكنها التعرف على اتجاهات السوق، وتجميع مجموعات البيانات بناءً على تلك الاتجاهات، ثم إنشاء وحدات بيانات قابلة للبيع
سيحتاج أي سوق بيانات إلى بنية أساسية للمعاملات يمكنها التعرف على اتجاهات السوق، وتجميع مجموعات البيانات بناءً على تلك الاتجاهات، ثم إنشاء وحدات بيانات قابلة للبيع. نظرًا لأن قيمة البيانات تعتمد على العديد من المتغيرات، فإن إنشاء هذه الوحدات في حد ذاتها من شأنه أن يسهّل إنشاء إطار عمل منظم للبنية الأساسية للمعاملات لإصدار عقود المبيعات أو تراخيص استخدام البيانات. تكتسي مثل هذه التراخيص أهمية بالغة بشكل خاص، لأن البيانات تعتبر أصولا “غير قابلة للمنافسة” على عكس شطيرة الجبن أو سترتك المفضلة مثلا، حيث يمكن نسخ نفس مجموعة البيانات الدقيقة عدة مرات دون أن تفقد قيمتها أو جودتها.
تنص التراخيص على شروط استخدام البيانات وتوضيح خصوصية مجموعة بيانات معينة. يمكن بعد ذلك تأسيس قاعدة للسوق لفرض هذه الشروط، وخلق الفرص المتكافئة لمؤسسات الوساطة في السوق، وتعزيز الثقة في نهاية المطاف. بطبيعة الحال، سيتطلب هذا النوع من الاقتصاد الرقمي التوسعي أتمتة شاملة للعقود وإنتاج التراخيص والقبول والتنفيذ. وهذا من شأنه أن يخلق صعوبات تقنية، لكن مؤيدي ترخيص البيانات يلاحظون أنه من الممكن حلها.
في النهاية، سيحتاج السوق إلى تسهيل التسعير الديناميكي للبيانات. ونظرًا للفجوة الحالية القائمة بين السعر الفعلي للبيانات، التي تبلغ قيمتها حوالي (0.0005 دولار للفرد الواحد في المتوسط)، والقيمة المتصورة التي ينسبها المبدعون إلى افتقارهم للخصوصية (حوالي 36 دولار أمريكي)، فإن أي تحول من نموذج “البيانات المجانية للخدمات المجانية” الحالي إلى نموذج لسوق البيانات ينبغي أن يحدث على مراحل.
ينبغي أن ينعكس هذا في كيفية تسعير البيانات، لأنه لا يوجد نموذج تسعير قياسي مقبول بشكل شائع في الوقت الحالي، بالإضافة إلى أن معظم النماذج الحالية تستخدم أرقامًا اقتصادية عالية المستوى، مثل مستويات الإنتاجية الوطنية، ثم تستخدم هذه الأرقام لتقريب قيمة ثابتة للبيانات لكل شخص. ولا تعكس هذه الطرق السياق الذي تُستخدم فيه المعلومات بدقة ولا تأخذ بعين الاعتبار عوامل مثل تفضيلات الخصوصية الشخصية، التي تؤثر على قيمة أنواع مختلفة من البيانات.
في المقابل، سنحتاج إلى آليات تسعير ديناميكية تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات المختلفة، وسنفعل ذلك بطريقة سلسة قدر الإمكان. نظرًا لأن هذا الأمر يعتبر صعبًا في حالة عدم وجود بيانات تاريخية يمكن الاستناد إليها لإقامة نظام أكثر إنصافا لتسعير البيانات، فإنه يمكننا البدء بمزاد بيانات. يمكن للمشترين تقديم معطيات على بيانات المستخدمين لتحديد القيم الأولية، التي ستكون بمثابة الأساس لنموذج التنبؤ الذي يوفر المزيد من الاستقرار من خلال التفكير في نطاق أوسع من المتغيرات، وحساب احتمال مطابقة العرض والطلب، ثم تحديد أسعار مجموعات البيانات المختلفة. إنها ممارسة معقدة في مجملها، لكنها لا تختلف عن المزيج المعقد من العوامل التي تستخدمها شركتا “إير بي إن بي” و”أوبر” في نماذج التسعير الخاصة بهما.
لدينا الخبرة والخوارزميات وقوة الحوسبة لإنشاء سوق متماثل جديد يحدد سعرًا للبيانات التي تضمن الخصوصية، ويعود بحصة عادلة من هذه القيمة إلى أصحابها. إن العمل المعقد والصعب واللازم لبناء سوق بيانات متوازن وفعّال لن يتصدر العناوين الرئيسية. لكنه ضروري لتغيير الاقتصاد الرقمي من التصور أحادي الجانب والمناورة، التي بددت قيمة العملة الأكثر أهمية لكل الأطراف – ألا وهي الثقة – إلى نموذج بيانات عادل قائم على الكرامة يمثل الأساس للمرحلة التالية من النمو الاقتصادي والاجتماعي الرقمي.
المصدر: وايرد