صراع تشكيل حكومة تونس 2020 ومعركة المصادقة عليها يوم الـ10 من يناير كشف وجود منطقة سياسية فارغة تنادي من يملأها بخطاب مختلف عن الصراعات السياسية التي عطلت تشكيل الحكومة وتستدعي ممارسات سياسية تأسيسية منتمية لبرنامج الثورة الذي تخلى عنه الجميع، فقد جعلت ممارسات النخبة الظاهرة حتى الآن في المشهد السياسي التونسي مرور الحكومة أعسر من مرور الجمل في سم الخياط.
هذا الفراغ يتضح أولًا بفشل النخبة على بناء تفاهمات سياسية على غير قاعدة الإقصاء السياسي الموجه أساسًا ضد الإسلام السياسي ويتضح ثانيًا بوجود نخبة أخرى بقيت خارج الصراع والمناورات ولكنها لم تغادر مربع الفعل غير أنها تعاني من تشتت أعاق دورها وحرم المجتمع/المرحلة من فاعليتها في إنتاج بديل من خارج معارك الاستئصال.
مناورات استئصالية مدمرة للديمقراطية
مهما كانت ذرائع فرقاء المشهد البرلماني الفائز في انتخابات 2019، فلا يمكن أن تخفي خلفيتهم الاستئصالية التي جعلتهم يناورون من أجل عزل حزب النهضة الإسلامي ودفعه إلى الفشل السياسي، فكان واضحًا منذ إعلان النتائج أن حجم الحزب الأول لا يسمح له بتشكيل الحكومة وقد شكل هذا مغنمًا كبيرًا لمن هم أقل منه حجمًا لمعرفتهم بحاجته إليهم في بناء حزام سياسي لحكومته، فكانت مفاوضاتهم قائمة على قاعدة ابتزازه وتحصيل أكبر الفوائد من ضعفهم في مقابل قوته المنقوصة.
حول الاستئصاليون هزيمتهم (أو انتصارهم النسبي) لانتصار باهر عبر الرفض المنهجي لكل أشكال التعاون مع حزب النهضة
لقد كان يشعر بذلك فأعطى ما طلب منه وكان ذلك على حساب مكانته وحقه المخول له بالصندوق ليتم له الحكم مع شركاء، لكن بعد إذلاله بالتنازل رُفضتعروضه ففقد الكثير من مصداقيته وقدرته على المناورة السياسية ودخل التشكيل في أضعف حالاته، فجاءت حكومته ضعيفة. لقد كانت مفاوضات غير جدية نوى فيها مفاوضو النهضة دفع الحزب إلى مربع الفشل ومن ثم إعلان القبول بحكومة الرئيس (أي حكومة لا يشارك فيها الحزب الفائز إلا كتابع أو يقصى منها إذا توافر لها نصاب 109 من دون كتلته).
زاوية النظر هذه لا تنفي حق الأحزاب في المفاوضة وتقسيم المواقع لو لم يكن الغريم (أو العدو) هو حزب إسلام سياسي عانى ويعاني بعد من الإقصاء، فقد قاد موقف الأحزاب فكر استئصالي لا يعطي للإسلاميين أي حق في الحكم. إقصاء بصيغة بينة تستند إلى تجربة بن علي في قهر الإسلاميين (حزب عبير موسي) وإقصاء بصيغة مواربة حزبا الشعب والتيار) بدأ بمنعه من ترؤس حكومة يخوله له حجمه وثنّي بمنعه من وزارات السيادة باعتباره غير أمين عليها (ليس في المستوى) ثم إجباره على عدم تعيين كوادره الحزبية في الحكومة وانتهاءً بإجباره على عرض الشخصيات المقترحة من خارجه على نظر الأحزاب، بما يجعلها حكمًا عليه ويجعله قاصرًا دون وظائف الحكم رغم التفويض الشعبي، ولقد قبل كل الشروط المهينة فلما قبلها رفضت الأحزاب العمل معه بما انتهى بعزلته، وكشف الروح الاستئصالية التي قادت موقف الأحزاب.
لقد حول الاستئصاليون هزيمتهم (أو انتصارهم النسبي) لانتصار باهر عبر الرفض المنهجي لكل أشكال التعاون مع حزب النهضة، وكانت عبارات التشفي تقرأ على الملامح في وسائل إعلام منحتهم مساحة دعاية بلا حدود، وهنا اتضح فشل الجميع.
آن الأوان للخروج من المنطق الاستئصالي
هنا يتضح الفراغ السياسي الكبير، فتونس ليست منقسمة بين الإسلاميين وأعدائهم الأزليين ولا يمكن بحال أن يستمر حكمها مرهونًا بهذا الانشقاق التاريخي الذي لا يقوم على أسباب واقعية، إنه صراع مؤقت لا قدر مقدور على تونس وشعبها، فلا أحد من الفرقاء الذين أفرغوا الانتخابات من مضمونها وزخمها يملك برنامج خلاص للبلد من أزماته، بل إن أزمات البلد تزداد تعفنًا بوجود هؤلاء يحكمون المشهد بروحهم المخربة لكل أمل في ديمقراطية عادلة ودائمة تحترم إرادة الناخب، إنهم يكشفون منطقة الفراغ التي يجب ملؤها بقوة وطنية ذات برامج وأهداف قابلة لجمع التونسيين حول الديمقراطية والتنمية.
أول أحجار البناء التي يجب أن تعمر المنطقة الفارغة هي إنهاء الاستئصال كفكر وكممارسة بنى عليها بن علي نظامه ووظف النخب في خدمته
قوة وطنية تفكر بشكل صريح أن الجميع متساوون في الحقوق وإرادة الصندوق الانتخابي مقدمة على رغبات الخاسرين الاستئصاليين، وأن الإسلاميين ذوو حق وليسوا عابري سبيل يمن عليهم بالصدقات السياسية، ووجودهم شرط لتأسيس ديمقراطية دائمة وعادلة.
أول أحجار البناء التي يجب أن تعمر المنطقة الفارغة هي إنهاء الاستئصال كفكر وكممارسة بنى عليها بن علي نظامه ووظف النخب في خدمته وجازى بقدر المشاركة في الاستئصال، فلما خلعه الشعب حافظ الاستئصاليون على منهجه/غنيمته حتى اللحظة.
لن يكون ذلك كافيًا ولكن إذا بدأ التعمير/التأسيس من تلك النقطة فإن مطالب الثورة ستعود بالضرورة إلى واجهة الفعل وفيها يكون التنافس السياسي وحولها تكون المعارك الانتخابية وعلى أساسها يتم الفرز بين الكفاءات، لقد حرف الاستئصاليون برنامج الثورة إلى غاياتهم الاستئصالية وآن الأوان للتصحيح والتعديل وإعادة التوجيه نحو الثورة من منطقة أخرى وبكفاءات أخرى لا تزال تراقب وتتحسر أو تشارك من موقع بعيد لأنها لم تنتظم بقدر يسمح لها بالتأثير الفعال.
إنه انتظام بديل على فكر بديل يسقط الروح الاستئصالية المتحكمة في فكر الأحزاب (وريثة نظام بن علي) يتبنى مطالب الثورة الاجتماعية على ما سواها من أسباب الصراع، فينهي بذلك ممارسات الأحزاب المخربة للديمقراطية التي أفرغت الثورة من زخمها وحرّفت كل العملية السياسية الجارية منذ التأسيس عن أهدافها السامية ويعيد رسم حدود منظومة الفساد والاستبداد وأدواتها الجديدة بعد أن كانت استنزفت أدوات سابقة وتخلت عنها في هامش غير فعال (بالتحديد جبهة اليسار الاستئصالي). ويكون من ضرورات إعادة تحديد خريطة الفاعلين المنتمين فعلًا لا بالخطاب العالي والمزيف للثورة من حسابه ويعتبرهم أعداء الديمقراطية ولا يقبل ذرائعهم التي لم تقم على أساس ديمقراطي، ومن هؤلاء بالضرورة أعداء للديمقراطية يتخفون داخلها في تونس ويعادونها خارج الحدود فيحقون لأنفسهم هنا ما لا يحقونه لشعوب عربية أخرى لها نفس الطموح إلى الحرية والديمقراطية.
من يمكن أن يملأ هذا الفراغ الصارخ؟
توجد نخب من كل الأطياف الفكرية بقيت خارج الأحزاب وخارج معارك الاستئصال ولم تتورط في خيانة الثورة ومطالبها الشعبية في الحرية والكرامة ولم تهادن الفساد المستشري ولم توال طبقة الفاسدين المتحكمة في كل المشهد من وراء ستار.
وجوه يسارية كثيرة لم تتحول عن يساريتها ولكنها تمارس يسارية غير استئصالية ونخب مستقلة عن كل أيديولوجيا همها خدمة الوطن من موقع فعال لم تستوعبها الأحزاب القاصرة عن التوظيف وشباب ذو ميول إسلامية تربى خارج الإسلام السياسي.
كل هذا الطيف حقيقة واقعية ولكنها مشتتة ولم تتحفز إلى الانتظام، ونعتقد أن هذا هو الوقت المناسب لكي تخرج من عزلتها وصمتها وتتقدم لملء الفراغ السياسي الذي كشفته معركة تشكيل حكومة 2020 وبرلمانها الناتج عن قانون انتخابي مفصل بروح استئصالية منذ الثورة.
خريطة الأهداف واضحة والخطوات العملية التنفيذية بينة والإرادة لم تتجمع بعد، فإذا تأخرت عن هذا الموعد فلن يكتب لها وجود أبدًا.