إذا رغبت يومًا في معرفة أحوال الدول والممالك فاسأل عن صحة شعوبها، فمقياس تقدم المجتمعات هو مستوى الخدمات الصحية التي تقدمها دولة ما لمواطنيها أو مدى إنفاقها على قطاع الرعاية والحيطة لمختلف فئات السكان في كامل مجالها الجغرافي دون استثناء.
وما تعيشه الدول المتقدمة من نهضة وتقدم وازدهار، يرده المختصون في علم الاجتماع إلى النظم السياسية الذي تدور فلسفتها بشأن قيمة واحدة وهي رفاه مواطنيها.
الدراسات تؤكد بهذا الخصوص أن التنمية ومسار ارتقاء الدول يتأثران بصفة مباشرة باعتلال صحة الشعوب وذلك على أكثر من صعيد، لا سيما الاجتماعي الاقتصادي، والأخير مرتهن بالطاقة الإنتاجية للمواطنين ومدى قدرتهم على المساعدة في رفع الأداء الاقتصادي من خلال المردودية وقوة العطاء.
وتؤكد منظمة الصحة العالمية في خطة التنمية المستدامة لعام 2030، أن “ضمان تمتع الجميع بأنماط عيش صحية وبالرفاهية في جميع الأعمار، هو الهدف الوحيد الذي يركز على صحة الإنسان، فإن جميع الأهداف مترابطة فيما بينها”، وبفضلها تتحقق جميع الأهداف الأخرى كالتنمية والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي وحتى السياسي.
واقع الصحة العربية
باستثناء بعض الدول العربية (الخليج) التي تمكنت من إنشاء نظم للتغطية الصحية الشاملة تحمي المواطنين وتمكنهم من الحصول على رعاية صحية تلبي تطلعاتهم وحاجياتهم، التي سجلت مواقع متقدمة نسبيًا ضمن المراتب الـ50 الأكثر صحة في التصنيف كالبحرين المرتبة الأولى عربيًا، وقطر الثانية والإمارات الرابعة وسلطنة عمان الخامسة، فإن باقي الدول تُعاني من أزمات متفاوتة الحدة ما جعلها تتذيل قوائم التصنيف العالمي للدول الأكثر صحة، حيث احتلت مصر المرتبة الـ18 من بين الدول الـ20 الأسوأ أداء في مجال الصحة، وفق مؤشر “إنديغو ويلنس” للرفاه، وبين أن المركز المتأخر الذي احتلته القاهرة يعود أساسًا إلى قلة الإنفاق الحكومي على الرعاية الصحية وارتفاع خطر الإصابة بداء السكري ومعدلات البدانة.
ووفق ذات التقرير، احتل العراق المرتبة التاسعة في سوء الأداء الصحي، وأرجع المؤشر ذلك إلى عوامل مثل الخمول وانخفاض متوسط العمر المتوقع ونقص إنفاق الدولة على الصحة وتراجع معدلات السعادة.
احتل العراق المرتبة التاسعة في سوء الأداء الصحي
كما تشهد بعض الدول العربية انتشار الأمراض السارية (تنتقل إلى الإنسان من إنسانٍ أو حيوان عن طريق عدوى فيروسية) التي عادت بقوة خاصة في ظل الحروب والنزاعات الدامية التي تعصف بالمنطقة، مثل الكوليرا والسل والجرب والتهاب الكبد الفيروسي.
وكانت منظمة أوكسفام قد حذرت في وقت سابق من أن 8 ملايين يمني سيفقدون المياه النظيفة وأن وباء الكوليرا سيتفشى في البلاد، فيما كشفت مصادر طبية بصنعاء أن الإصابات بإنفلونزا الخنازير(H1N1) خلال العام المنصرم 2019 بلغ 7364 حالةً توفي منها 310 حالة.
من جهة أخرى، تستحوذ الدول العربية على نصيب الأسد من حالات سوء التغذية التي يعاني منها الملايين في مناطق الحروب، ووفق تقرير لبرنامج الأغذية العالمي، فإن أكثر من مليونَي طفل يمني يعانون من سوء التغذية، فيما تسبب الصراع الدائر في ليبيا، وفق منظمة الصحة العالمية، في تدمير 17.5% من المستشفيات و20% من مرافق الرعاية الصحية الأولية و18 مستشفى متخصص جزئيًا أو كليًا، كما تعرضت الكوادر والعملين إلى41 هجومًا في الفترة المتراوحة بين 2018 و2019.
وذات الأزمة كان وقعها أشد في قطاع غزة بفلسطين، حيث تتواصل تحذيرات المبعوثين الدوليين المتتالية من أن حالة الانهيار التي يشهدها قطاع الصحة تستمر وتُنذر بالأسوأ، وكشفت وزارة الصحة الفلسطينية أن 50% من الأدوية الأساسية و25% من المستهلكات الطبية و60% من لوازم المختبرات وبنوك الدم، نفدت من المخازن بقطاع غزة بفعل الحصار والقيود المفروضة، إضافة إلى ما تعانيه من أزمة طاقة ووقود.
كما تشهد الدول العربية تزايدًا غير مسبوق في انتشار الأمراض النفسية نتيجة الحروب والبطالة وغياب العدالة الاجتماعية وانعدام فرص التشغيل وضيق الآفاق، إضافة إلى المخاطر الصحية الجديدة الناجمة عن تغير النُظم الغذائية وأنماط المعيشة والتوسع الحضري والتكنولوجي السريع.
وباء الفساد
تتعدد أسباب انهيار قطاع الصحة في العالم العربي ولكن يبقى الفساد (المحسوبية والرشوة) الضلع الأعوج الذي لا يجعلها تستقيم، وبدا وضحًا أن مواطني بعض البلدان العربية فقدوا ثقتهم في المؤسسات الحكومية وفي الرعاية الصحية والخدمات الأساسية التي تقدمها حكوماتهم، حيث أظهرت البيانات البحثية للبارومتر العربي، أن نسبة المواطنين في المنطقة الراضين عن خدمات الرعاية الصحية في بلدانهم لا تزيد على 38%، وينخفض هذا الرقم إلى 20% في ليبيا والمغرب.
ويؤكد 48% ممن شملهم البحث أنه من الضروري دفع رشوة للحصول على خدمات رعاية صحية أفضل، وترتفع هذه النسبة لتصل إلى 69% من بين الذين شملهم المسح في مصر و64% في المغرب.
وفي السياق ذاته، أوردت تقارير محلية جزائرية مؤخرًا أن بعض الأطباء والممرضين العاملين في القطاع الحكومي (العام) تحولوا إلى وسطاء “سماسرة” لدى القطاع الخاص، وتصل نسبتهم إلى 20%، فيما تتحدث تقارير أخرى عن اختلاسات وصفقات عمومية مشبوهة تورط فيها موظفون في الدولة.
قصور النظم
تُعاني معظم الدول العربي من معوقات بنيوية كثيرة تقف حاجزًا أمام أي عملية إصلاح أو هيكلة حقيقية قادرة على “إنعاش” قطاع الصحة، وتُعد البنية التحتية الضعيفة من أكبر الإشكالات سواء كان على مستوى النقص الفادح في المستشفيات ومراكز الإسعاف أم سوء توزيعها جغرافيًا حيث تتركز في الغالب في المحافظات والمدن الكبرى ما يكرس حالة من اللاعدالة الصحية.
كما يُمثل النقص الفادح في الكوادر الطبية وشبه الطبية نتيجة ما سُمى بـ”هجرة الأدمغة” إلى الغرب بحثًا عن حياة أفضل وتخلصًا من ظروف عمل تكاد تكون “قاسية” في ظل منظومة صحية (الحكومية) تغلب عليها البيروقراطية والتعقيد الإداري، وتونس كمثال شهدت وحدها، بحسب رئيس عمادة الأطباء السابق منير مقني، مغادرة نحو 45% من الأطباء الجدد المسجلين في هيئة الأطباء لسنة 2017 البلاد، نحو أوروبا ودول الخليج، فيما عرفت في 2018 هجرة 650 طبيبًا، وتُصنف كثاني بلد عربي في هجرة الكفاءات العلمية والأكاديمية بعد سوريا التي تعيش حالة حرب، وفق تقرير التنمية البشرية للعالم العربي في 2016.
غادر تونس نحو 45% من الأطباء الجدد المسجلين في هيئة الأطباء لسنة 2017 البلاد، باتجاه أوروبا ودول الخليج
وفي السياق ذاته، فإن غياب الحوكة الرشيدة والأجهزة الرقابية وضعف الكفاءات داخل الأنظمة الحاكمة والعاجزة على التخطيط والاستشراف، فاقم أزمة قطاع الصحة وعقد من عملية إصلاحه، ويرى المختصون أنه رغم زيادة حجم إنفاق بعض الدول العربية على الصحة، إلا أن الخدمات المقدمة والإنجازات لا تغطي احتياجات المواطنين ولم تحل الإشكاليات، ويعود ذلك إلى سوء التصرف في الموارد والفساد المستشري في الإدارات والمؤسسات المشرفة وغياب الشفافية، وبالتالي تتواصل حالة الهدر الهائل للمقدرات.
وأورد تقرير لمنظمة الصحة العالمية أُصدر مؤخرًا أن النفقات الصحية العالمية نمت 10% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، فيما صعد الإنفاق في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط بنسبة 6% في المتوسط سنويًا.
وفي مصر مثلاً تنص المادة (18) من الدستور على أن “تلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للصحة لا تقل عن 3% من الناتج القومي الإجمالي تتصاعد تدريجيًا حتى تتفق مع المعدلات العالمية”، إلا أن الحكومة خفضت الإنفاق على الصحة نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي من 1.53% عام 2014-2015، إلى 1.19% في 2019-2020، في مقابل ذلك تضخ اعتمادات هائلة لوزارة الدفاع وتعزيز قدراتها العسكرية، والأكثر من ذلك أُسند للأخيرة امتياز تطوير وإنشاء الكثير من مؤسسات الصحة والمستشفيات الحكومية ومناقصات شراء الأجهزة الطبية.
يرى أكاديميون ومختصون أن ثنائية الصحة والتنمية لا يمكن طرحها بعيدًا عن آلية الإنفاق الاجتماعي للدول التي تشمل الإحاطة بالأسر ورعاية كبار السن ومكافحة بطالة الشباب، فكلما حرصت الحكومات على معالجة قضايا مجتمعاتها بالتوازي مع دعم قطاع الرعاية الصحية، ضيقت الفجوة وارتقت في سلم الرفاه والاستقرار، فقطاع الصحة الشامل يُعد المسطرة الحقيقية لتقدم الشعوب.
كما يُعد تدريب الكوادر الطبية والتشجيع على البحث والابتكار والانفتاح على اقتصاد الصحة ورسم السياسات والإستراتيجيات الصحية، طرقًا رئيسية لتحسين الأنظمة الصحية وتقليل التكلفة.