يروى مراسل شبكة “بي بي سي” تفاصيل حوار دار بينه وبين إحدى الفتيات العمانيات وتدعى “غادة الحارثي” كانت تعمل في شركة خدمات بجوار المسجد الكبير بوسط العاصمة العمانية مسقط، تزامن ذلك مع خروج مسيرات جماهيرية ضمن أحداث الربيع العربي، تندد بما سمته فساد الحكومة والمحسوبية واللامبالاة في معالجة تفاقم معدلات البطالة بين الشباب.
يقول المراسل “سألتها هل يمكن أن تصل الأمور بالعمانيين لما وصلت إليه مع التونسيين والمصريين وانتفاضهم على الحكام؟” لكنها أجابت باستنكار واستهجان شديد “يا إلهي، لا! إنها إهانة لنا!، نحن لسنا تونس، وعمان ليست بليبيا. زعيمنا محبوب وليس فاسدًا، وأنا مستعدة لبذل حياتي من أجله”.
“عمان اليوم غيرها بالأمس فقد تبدل وجهها الشاحب ونفضت عنها غبار العزلة والجمود وانطلقت تفتح أبوابها ونوافذها للنور الجديد”.. قابوس بن سعيد
وقد خلص صحفي الشبكة الإنجليزية من وراء هذا الحوار إلى أن خيار تنحية السلطان قابوس بن سعيد لم يكن أبدا خيارا مطروحا حتى في أحلك الظروف التي عاشها الشعب العماني، فالروح الثورية التي تمددت داخل الشارع العماني لم تنل أبدًا من جماهيرية السلطان الذي بقي في الحكم 50 عامًا يُخضع فيها كافة مفاصل السلطنة في قبضته.
برحيل السلطان قابوس فجر اليوم السبت، عن عمر يناهز 79 عامًا، بعد صراع طويل مع المرض استمر قرابة 6 سنوات، طويت صفحة واحد من أقدم حكام المنطقة وأكثرهم تأثيرًا، سواء على الصعيد الداخلي كونه من وضع بلاده على طريق النهضة والتنمية بعد سنوات من التأخر، أو على الصعيد الإقليمي والخارجي بعدما اعتمد على دبلوماسية الحياد الإيجابي والوساطات السرية والعلنية، حتى توفي وهو صديق للجميع بحسب تعبير المحللين والمقربين منه.
Today we lost our precious dimond in our country. We didnt just lose a leader we lost our lover , our father . Rest in peace & God bless your soul #قابوس_في_ذمة_الله . #قابوس_بن_سعيد pic.twitter.com/hb1ULmFYxW
— i.ly3 (@23Oo13) January 11, 2020
باني النهضة العمانية
“عمان اليوم غيرها بالأمس فقد تبدل وجهها الشاحب ونفضت عنها غبار العزلة والجمود وانطلقت تفتح أبوابها ونوافذها للنور الجديد”.. بهذه العبارة جسًد قابوس التغير الملحوظ الذي أحدثه في السلطنة منذ خلافة والده على كرسي الحكم في في 23 من شهر يوليو العام 1970.
في الأشهر الأولى من حكمه، عمل السلطان الثامن من أسرة آل بوسعيد، على تقريب الثوار الظفاريين، والتعهد لهم بحل كلّ مشاكلهم مقابل إلقاء السلاح، وبعد تحركات دبلوماسية مكثفة كان من نتائجها تدشين تعاون عسكري مع بعض القوى على رأسها إيران، قضى السلطان الشاب على ما تبقى من المتمردين الذين رفضوا الاستسلام، لتنتهي الحرب بشكل رسمي عام 1975.
وبعد إسدال الستار على تلك الحرب بدأ قابوس بما سٌمي “مشروع النهضة” ذلك المشروع الذي يهدف إلى الارتقاء بالبنية التحتية للسلطنة ودعم محاور التنمية بها على كافة المستويات، العلمية والصحية والثقافية، ويكفي للوقوف على ماكانت عليه البلاد قبل وصول قابوس للحكم أنه لم تكن في عمان كلها سوى 3 مدارس فقط ومستشفى واحد.
سياسة التوازن التي نجح قابوس في إرساء قواعدها أهلته لقيادة وساطة بين القوى الغربية وطهران حليف مسقط في مسار الاتفاق النووي الذي وقع في 2015
استلم السلطان الحكم وحالة من الانقسام الطائفي تفتت أرجاء البلاد، لكنه نجح في إنهائها بشكل دبلوماسي محنك، هذا بجانب مساعيه لإرساء منظومة اقتصادية جيدة، وذلك بعد أن تمكن من استثمار العوائد النفطية في وضع السلطنة على خارطة المنطقة، لينهي سنوات طويلة من العزلة.
وضع قابوس كافة مقاليد الحكم في يده، فبجانب كونه سلطانا للبلاد، تولى ما يقرب من 11 منصبا أخر، من بينها رئاسة الوزراء، ووزارات الدفاع والخارجية والمالية، ورئاسة البنك المركزي والقوات المسلحة، لكن الكثير من هذه المناصب كانت شكلية ورمزية، إذ أنه استمر بتعيين “وزراء مفوضين” لتسير شؤون هذه الوزارات.
ومع اندلاع ثورات الربيع العربي في 2011 شهدت شوارع منطقة صحار بتظاهرات غير مسبوقة، تطالب بتحسين الأوضاع المعيشية في البلاد، وانتهت هذه المظاهرات بمواجهات أمنية شهدت مقتل متظاهر واحد على الأقل، الأمر الذي دفع السلطان للتدخل وتقديم حزمة من المساعدات للشعب الذي رغم حالة الغضب التي تسيطر عليه لم يضع قابوس في دائرة استهداف حراكه الثوري.
? ???? ??? ??? ??? ????
??? ???? ???? ???? ?? ????? ?#قابوس_في_ذمه_الله pic.twitter.com/EOsvbS8TJs
— κΘરελɴ ƣƲεεɴ? (@Aso0m_22) January 11, 2020
عميد دبلوماسية الحياد
أما على الصعيد الخارجي فقد لعبت السلطنة في عهد قابوس دورا إقليميًا مؤثرًا، بفضل ما تنتهجه من سياسة الحياد والابتعاد عن مناطق النزاع والصراع، ولقب السلطان الراحل بـ “عميد دبلوماسية الحياد” نظرًا لما بدر منه من جهود حثيثة في التقريب بين وجهات نظر القوى المتصارعة في المنطقة.
سياسة التوازن التي نجح قابوس في إرساء قواعدها أهلته لقيادة وساطة بين القوى الغربية وطهران حليف مسقط في مسار الاتفاق النووي الذي وقع في 2015، وهي المحادثات التي تسببت بحدوث جفاء بينه وبين السعودية التي لم تكن راضية عن سياسة الوساطة التي انتهجها على مدار الأعوام الماضية.
وعلى الرغم من العداء التاريخي بين بلاده وأبو ظبي، والذي تجسد أكثر عام 2011، عقب اكتشاف عمان لخلية تجسس إماراتية على أراضيها، ساهم قابوس بشكل كبير في حل بعض المشاكل الحدودية مع الإمارات عام 1974 حول واحة البريمي، كما يعد السلطان من مؤسسي مجلس التعاون الخليجي عام 1981.
وفي الإطار ذاته لعبت مسقط في عهد قابوس دورًا كبيرًا في ملف الأزمة الخليجية التي اندلعت صيف 2017 حين فشل الحلف السعودي في استقطابها بداية الأمر، ليتحول الحياد العماني بعد ذلك إلى وساطة تستهدف حلحلة الأزمة وتقريب وجهات النظر، وهي الجهود التي ورغم أنها لم تنجح إلا أنها أثارت حفيظة جيرانها الإماراتيين.
ورغم الدور الذي لعبه في ملف الأزمة الأزمة الفلسطينية الإسرائيلية على مدار السنوات الماضية، إلا أن موجة من الانتقادات تعرض لها عقب استقباله رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو في مسقط نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2018، في ثاني زيارة لرئيس وزراء إسرائيلي إلى العاصمة العمانية، منذ أن زارها عام 1994 إسحاق رابين.
كما أدت السلطنة أدوراً عدة في الإفراج عن الرهائن، تحديداً الأميركيين، سواء لدى الإيرانيين أو حتى جماعة “الحوثي”، التي تستضيف مسقط منذ سنوات وفداً منها يقيم فيها، ويتخذ منها مقراً للقاءاته مع المسؤولين الأجانب، وهو الدور الذي خفف كثيرًا من وطأة التوتر في هذا الملف المشتعل.
حتى في اللحظات الأخيرة له في الحياة حافظ قابوس على تماسك شعبه وتجنيبهم مغبة الولوج في مستنقع النزاعات على كرسي الحكم
ولد السلطان الراحل في 18 نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1940 في صلالة في الجنوب، وهو الابن الوحيد لوالده سعيد بن تيمور، وتابع تعليمه المدرسي في صلالة، إلى أن التحق بأكاديمية “ساندهيرست” العسكرية الملكية في بريطانيا وهو في العشرين من عمره، وبعدها خدم في ألمانيا ضمن فرقة عسكرية بريطانية لمدة عام.
حصل السلطان قابوس على عدد من الجوائز أبرزها السلام الدولية، وسام الملك عبد العزيز آل سعود عام 1971، استحقاق الجمهورية الإيطالية عام 1974، قلادة النيل العظمى المصرية عام 1976، وسام جواهر لال نهرو للتفاهم الدولي عام 2004، وسام أسد هولندا عام 2012، وسام الاستقلال القطري.
حتى في اللحظات الأخيرة له في الحياة حافظ قابوس على تماسك شعبه وتجنيبهم مغبة الولوج في مستنقع النزاعات على كرسي الحكم، وذلك حين سمًى هيثم بن طارق خليفة له ليقطع الطريق أمام كافة المتربصين في الداخل والخارج، ليسجل الرجل صفحة ناصعة البياض في التاريخ السياسي لسلطان منح بلاده حقبة من السلام والاستقرار والتنمية وحفظها من الانزلاق والاضطراب في بيئة شديدة الاضطراب علي مدى خمسين عاماً من الحكم.
ختامًا، دعونا نلقي نظرة على أبرز المحطات في مسيرة السلطان الراحل قابوس بن سعيد من خلال هذا التسلسل الزمني الذي أعده الزميل أنيس العرقوبي.