كما كان متوقعًا، أثارت عملية اغتيال الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني، التي نفذتها “درونز” أمريكية بالقرب من مطار بغداد العراقي، مطلع الأسبوع الماضي، عاصفةً من ردود الفعل المتباينة في صفوف اللاعبين الأساسيين بالمنطقة، ومن بين هؤلاء اللاعبين بالطبع كانت “إسرائيل” التي أبدت ارتياحًا مشوبًا ببعض القلق، الذي حاولت الولايات المتحدة احتواءه ببعض التطمينات والمُسكنات أعقاب العملية.
حفاوة بالغة
تلقت دولة الاحتلال خبر مقتل قائد فيلق القدس الإيراني بحفاوةٍ بالغة، بدت بوضوح على وجه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي أدلى بحوار تليفزيوني عاجل فور وصوله إلى مطار بن غوريون قادمًا من اليونان، ليعلن مباركة العملية “والوقوف بشكل كامل إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية في كفاحها العادل لتحقيق الأمن والسلام والدفاع عن النفس”.
وبعد يومين من نجاح العملية، وخلال جلسة الحكومة الأسبوعية، عاود نتنياهو ليؤكد مضمون رسالته الأولى، متبنيًا وجهة النظر الأمريكية التي تعتبر سليماني مستحقًا للقتل لأسباب متعلقة بجرائمه الممتدة في الماضي، التي أخذت في طريقها ضحايا أمريكيين، بالإضافة إلى السبب الرئيس الذي اعتبرته واشنطن عاملًا حاسمًا في اتخاذ القرار خلال هذا التوقيت، وهو تخطيط المقتول لتنفيذ عمليات جديدة ضد أهدافٍ تابعةٍ لها، مشيدًا في الوقت نفسه بصاحب قرار العملية وصاحب الكثير من الأفضال على دولة الاحتلال، دونالد ترامب.
إلى هذا الحد، كان الاصطفاف الإسرائيلي مع الولايات المتحدة دبلوماسيًا ومفهومًا بل وواجبًا، فالولايات المتحدة أفضل صديقة لـ”إسرائيل”، والعكس بالعكس كما يقول نتنياهو، ولكن هل كان هنالك أسباب أخرى لهذا التأييد الذي كرره أكثر من وزير في الحكومة الإسرائيلية؟
حلم قديم
بالنسبة لـ”إسرائيل” التي قلصت احتفالاتها العلنية بنجاح العملية إلى الحد الأدنى لأسبابٍ سوف نعرضها بعد قليل، فإن قرار الولايات المتحدة التخلص من قاسم سليماني بنفسها مباشرةً، خلصها من عبءٍ ثقيل، طالما تمنت إزاحته من على كاهلها، ولكن خوفها من عواقب هذا القرار إلى جانب بعض الأسباب الفنية، كانت تمنعها من ذلك.
ففي مطلع أكتوبر/تشرين الماضي، أعلنت مخابرات الحرس الثوري الإيراني، ممثلةً في اللواء حسين طائب، إحباط عملية أمنية، أشرف عليها جهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلي (موساد)، بهدف اغتيال العميد قاسم سليماني عبر فريق مكون من عناصر عربية وعبرية.
ورغم نفي جهاز الموساد على لسان مديره، يوسي كوهين، ضلوعه في العملية، فإن بعض المعطيات رجحت صحة الرواية الإيرانية حينها، مثل التزامن بين خروج سليماني الرسمي الأول على قناة إيرانية حكومية للحديث عن إنجازات محور المقاومة ضد محور الشر وكشف أسرار تتعلق ببعض المعارك التي خاضها الطرفان من قبل، ومحاولة الاغتيال من جهة، وقبض الطرف الإيراني بالفعل على الخلية التي يُعتقد اشتراكها في العملية الفاشلة من جهة أخرى.
ضربات ناجحة
نظرت بعض الجهات الأمنية الإسرائيلية إلى هذه العملية باعتبارها اتساقًا مع المجهودات العبرية الساعية إلى مكافحة الميليشيات المسلحة في المنطقة، سنيةً كانت أو شيعيةً، التي لا تستطيع تل أبيب التعامل معها أو الوثوق بها بسبب تعارض قيم هذه التنظيمات مع مسألة وجودها بشكل جذري، ونظرة هذه التنظيمات إلى “إسرائيل” باعتبارها سببًا لإجهاض “الخلافة” عند نسختها السلفية أو أثرًا لـ”الإمبريالية” عند الشيعة.
من هذه الزاوية، كانت عملية اغتيال القائد الإيراني الأبرز للميليشيات الشيعية في المنطقة، الذي وضعته “إسرائيل” على هرم الشخصيات الأكثر خطورة عليها، فوق كل من حسن نصر الله وبهاء أبو العطا (اغتالته نوفمبر الماضي)، ضربةً أمنية ناجحة، تحسب للرئيس دونالد ترامب، بعد توجيهه بالتخلص من زعيم تنظيم الدولة الإسلامية أبي بكر البغدادي الذي قتلته قوة من مشاة البحرية الأمريكية في عملية خاصة بسوريا، نهاية العام الماضي.
بعض المحللين الإسرائيليين مثل حيمي شليف، شبهوا عملية اغتيال قاسم سليماني، من حيث القيمة، بعمليات اغتيال كل من المهندس الفلسطيني يحيى عياش الذي أشرف على تصنيع الأحزمة الناسفة للمقاومين عام 1996، وأبو علي مصطفى القائد التاريخي للجبهة الشعبية عام 2001، وأحمد ياسين مؤسس حركة حماس عام 2004، كما استبعد اللواء احتياط متعاقد يعقوب حميدروز، قائد المنطقة الشمالية الأسبق، أن يتمكن الإيرانيون من استعادة زمام المبادرة في مناطق العمليات التي كان يشغلها سليماني قبل شهور من الآن.
الرد المنتظر
الانتشاء الكبير بهذه المكاسب المتداخلة لم يدم لوقتٍ طويل، حتى حلت محله بعض المخاوف بخصوص طبيعة الرد الإيراني (الانتقام) المنتظر على عملية الاغتيال النوعية، وطرح سؤال: تُرى هل سيطال هذه الرد “إسرائيل”؟
استبعدت التقارير الأمنية الرسمية في “إسرائيل” بشكل واضح أن تتورط إيران في مغامرة توجيه ضربة انتقامية إلى الداخل المحتل، ورجحت أن يكون الرد الإيراني مقتصرًا على الأهداف الأمريكية، في العراق، بعد الانتهاء من مراسم جنازة سليماني مباشرةً.
ترجع هذه الرؤية في الأساس إلى عدة أسباب لخص بنيامين نتنياهو السبب الأول منها في كلمته أمام اجتماع “الكابينيت” الذي انعقد يوم الإثنين الماضي: “هذه العملية لا تخصنا، إنها تخص الولايات المتحدة الأمريكية، ونحن لم نتدخل بها”، وبناءً عليه وجهت تعليمات مشددة لأعضاء الحكومة بعدم التعليق على موت سليماني، بأكثر من مضمون رسائل رئيس الوزراء، بل وتشير مصادر مقربة من نتنياهو إلى توبيخه وزير الدفاع “بينيت” بعد إظهاره سعادةً مبالغة أمام كاميرات الإعلام بالمخالفة للتعليمات.
السبب الثاني وراء استبعاد المنظومة الأمنية مجازفة الإيرانيين بتهديد “إسرائيل” وترجيح قصف أهداف أمريكية في زمن محدد، رغم التقارير الاستخبارية التي أكدت علم نتنياهو بالعملية قبل يوم من التنفيذ (أور هيلار) وإشارة الحرس الثوري في بعض رسائله التهديدية إلى مدينة حيفا بالاسم، كان متعلقًا بنتائج المسح الجوي الذي نفذته طائرات “شافيت” و”نحشون”، التابعة للسرب 122 من قاعدة “نيفاتيم” الجوية طوال أيام التصعيد، الذي لم يكشف أي تحركات عدائية من إيران تجاه “إسرائيل”.
انعكست هذه النظرة الإيجابية على طبيعة التدابير الداخلية المتخذة بعد العملية، حيث لم ترفع الحكومة الاستعدادات الأمنية في أي من المناطق باستثناء جبل الشيخ في الشمال، جنبًا إلى جنب مع بعض التحذيرات الموجهة إلى البعثات الخارجية من التهاون في الحراسات واليقظة، فيما لم تر أي من المؤسستين الأمنية والسياسية ضرورة لانعقاد عاجل للمجلس الوزاري المصغر المعني بالشؤون الأمنية، لينعقد يوم الإثنين المشار إليه.
حماس
أثارت هرولة حركة حماس إلى التعزية في مقتل قائد فيلق القدس بعضًا من المخاوف الإسرائيلية المتعلقة باحتمالية استخدام إيران لحليفتها في غزة، كأداة للانتقام على المسرح الفلسطيني المعروف بطابعه التعبوي، خاصة بعد أن كثرت الأحاديث عن عدم استقرار التفاهمات بين حماس والاحتلال، وخروج بعض المظاهرات في قطاع غزة للتنديد باغتيال القائد الإيراني.
نقلت “إسرائيل” تحذيرات واضحة للفصائل المسلحة في غزة وعلى رأسها حماس والجهاد، من الرد القاسي على أي عمليات مسلحة تنطلق تجاهها من القطاع
وبحسب محللين، فإن منشأ هذه الهواجس يعود إلى حجم التنسيق المتبادل الذي أظهره كلا الطرفين، الفلسطيني والإيراني، بخصوص مكانة سليماني بالنسبة للمقاومة في غزة. ففي كلمتها خلال تأبين والدها، اعتبرت زينب قاسم سليماني كلًا من إسماعيل هنية وزياد النخالة من الوكلاء “الإيرانييين” المنوط بهم الانتقام لوالدها المغدور، كما ظهرت أعلام حركة حماس وتنظيم الجهاد خلف قائد القوة الجو فضائية التابعة للحرس الثوري الإيراني، ضمن مجموعة من أعلام الميليشيات التابعة للحرس على غرار “فاطميون” و”زينبيون”، خلال شرحه الملابسات العسكرية للضربة الصاروخية على قاعدة عين الأسد في العراق.
لذلك وبحسب أمير بوخبوط المراسل العسكري في موقع “والا” العبري، فقد نقلت “إسرائيل” تحذيرات واضحة للفصائل المسلحة في غزة، وعلى رأسها حماس والجهاد، من الرد القاسي على أي عمليات مسلحة تنطلق تجاهها من القطاع. كما عبرت لمصر عن امتعاضها من خروج إسماعيل هنية عبر ميناء رفح البري، في رحلات خارجية قد تستمر إلى منتصف هذا العام.
البرنامج النووي
من المعروف أن برنامج طهران للاستفادة من الطاقة النووية، هو أكثر الملفات الأمنية حساسية بالنسبة لـ”إسرائيل” على الإطلاق منذ عقود، وقد أدت تداعيات عملية اغتيال الرجل الثالث في إيران إلى مفاقمة تعقيد هذا الملف.
أعلنت طهران، عقب العملية مباشرة وفيما يبدو أنها خطوة مدرجة ضمن تصورها عن الرد الشامل، أنها شرعت تطبق المرحلة الخامسة (والأخيرة) من مراحل تقليص التزامها بالاتفاق النووي التي أعلنتها ردًا على انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق مايو/آيار 2018 وتوقيع واشنطن مزيدًا من العقوبات التي تستهدف إصابة قطاع النفط الحيوي في البلاد بالشلل التام. القرار الأخير يفتح المجال على مصراعيه أمام طهران لاستخدام أجهزة الطرد المركزي التي تساعد في عملية تخصيب اليورانيوم بلا قيود كمية.
عاودالإسرائيليون الذين جُن جنونهم من هذه الخطوة، تأكيد التزامهم الأثير بعدم السماح لإيران بتطوير أسلحة نووية، وهو ما يعني فعل أي شيء لتفادي حدوث ذلك، كما حاول ترامب امتصاص غضب نتنياهو خلال الاتصال الهاتفي الذي دار بينهما، حيث سارع الأول أيضًا إلى الإشارة لوعده القديم بمنع إيران من امتلاك التكنولوجيا النووية، طالما ظل رئيسًا للولايات المتحدة.
وبحسب التقرير الإستراتيجي المرفوع للرئيس رؤوفين ريفلين منذ أيام بخصوص المخاطر المحتملة على دولة “إسرائيل” خلال عام 2020، وعدد من التصريحات الرسمية الداخلية والخارجية، فإن إيران، إذا استمرت بهذه الوتيرة التي تعلنها عن أنشطتها البحثية، سوف تتمكن من الحصول على التكنولوجيا اللازمة لتصنيع رؤوس نووية، بحلول العام المقبل.
الخروج من العراق
أحد أبرز المخاوف الاسرائيلية من انفلات الوضع الأمني في المنطقة لصالح إيران وميليشياتها بشكل عام، هو قرار الانسحاب الأمريكي من العراق وسوريا، هذا القرار الذي وضعه الرئيس دونالد ترامب على أجندة أولويات برنامجه الانتخابي عام 2015، وبدأ يتخذ بالفعل خطواتٍ جادة في سبيل الوفاء به منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي، حينما قرر إعادة تموضع قوات بلاده في سوريا وإفساح المجال أمام التحالف الدولي للقيام بالمزيد من الجهد اللوجيستي في المنطقة.
وقد ساد في الأوساط الأمنية العبرية التي تحاول الضغط على إدارة ترامب لتأجيل قرار سحب القوات منذ مدة طويلة، شعورٌ عام بأن الضربة الأمريكية المفاجئة التي نالت من الرجل الأهم بالنسبة لإيران في الإقليم، عقب عدد من الضربات الجوية التي استهدفت عناصر ومقرات تابعة للحشد الشعبي وكتائب حزب الله العراقية، كانت بمثابة عقاب شامل من الولايات المتحدة على مجمل التجاوزات الأمنية التي ارتكبتها إيران وحلفاؤها الدوليون (تركيا) في المنطقة. غير أن بعض المؤشرات والتسريبات الجديدة عاودت لقلب هذا الشعور إلى نقيضه بشكل سريع.
الإسرائيليين عادوا إلى اعتقادهم الأساسي بضرورة التحرك من أجل عرقلة التموضعات الإيرانية في الإقليم دون مساعدة من أحد
المستجد الأهم الذي أزعج الإسرائيليين كان تلك الورقة المنسوبة للجنرال ويليام سيلي قائد القوات الأمريكية في العراق، بخصوص استجابة بعثة بلاده لقرار البرلمان الداعي إلى خروج القوات الأجنبية من بغداد. انتشرت هذه الورقة كالنار في هشيم الدوائر الأمنية الإسرائيلية بدءًا من مجموعات “الواتساب” التي تضم صغار المحللين إلى أروقة القادة العسكريين، بحسب بن كاسبيت المحلل الأمني في موقع “المونيتور”.
ورغم بعض التحليلات التي تقول إن الخروج الأمريكي من المنطقة سيتبعه تمدد روسي في مناطق الفراغ وانحسار إيراني خاصة بعد مقتل سليماني من جهة، وتأكيد القوات الأمريكية على لسان مارك إسبر وزير الدفاع، أن الجيش الأمريكي لا ينوي مغادرة المنطقة حاليًّا من جهة أخرى، فإن الإسرائيليين عادوا إلى اعتقادهم الأساسي بضرورة التحرك من أجل عرقلة التموضعات الإيرانية في الإقليم دون مساعدة من أحد.
وفي ترجمة عملية لهذه الحقيقة على الأرض، فقد نفذت طائرات بدون طيار إسرائيلية غاراتٍ جوية على منطقة البوكمال، الواقعة على الحدود الأردنية السورية، فجر الجمعة، لمنع شاحنات تابعة للحشد الشعبي من الانسحاب تجاه مناطق الحزام الأخضر ونهر الفرات وريف دير الزور، مُخلفةً وراءها ما لا يقل عن 8 قتلى، وسط توقعات بازدياد هذا التصعيد، مع تجاوز الإيرانيين صدمة رحيل سليماني، واقتراب الانسحاب الأمريكي من المنطقة نهاية العام.