في كل أزمة اقتصادية أو سياسية بالمنطقة، تعلو الأصوات مطالبة بالقانون الدولي ومظلة الأمم المتحدة، تطئ أقدام الحكومات سريعًا المؤسسة الكبرى، نرى من بعيد في الخلفية اجتماعات عاجلة للمندوبين والوفود، في الاقتصاد يلاحقنا شبح تعويم العملة عن الاستنجاد بالبنك الدولي، وما يترتب على ذلك من متاعب يذهب ضحيتها الفقراء دون غيرهم، بسبب فرض إصلاحات قاسية منسوخة بالنص، دون قراءة جيدة للناتج المحلي الإجمالي وحجم التصنيع والتصدير والثقافة الفردانية القادرة على تحمل مسؤولية الذات مع الدولة، ما يطرح السؤال: هل التعامل البيروقراطي بصبغة موحدة لكل سكان الكوكب باختلاف ثقافاتهم ومرجعياتهم الدينية والسياسية والاجتماعية، يحمل البلدان الأكثر تضررًا على التمرد والابتعاد أم لا يزال الأمل باقيًا في الإصلاح؟
لماذا آلية الأمم المتحدة بيروقراطية؟
عام 2017، وصل الصدام مع أنظمة الأمم المتحدة للذورة، أصبحت بيرواقرطية الكيان الجامع لبلدان العالم وعدم تفاعله مع القضايا بطرق أكثر تفهمًا للواقع، من أهم الاتهامات الموجهة للمنظمة الدولية، ومن الذي يقول ذلك؟ دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، أكبر دولة في العالم وصاحبة النصيب الأكبر من تمويل كل أنشطة المنظمة.
كان لافتًا اعتراف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، بالأزمة الدائرة في أروقة المؤسسة الأهم في العالم، واعترافه أيضًا أن الاستفادة التي حققها العالم من العولمة، لم تحمه من أوضاع غير متكافئة لا يمكن استمرارها، في ظل معاناة الكثيرين من فقر مدقع وعدم مساواة.
ألقى غوتيريس لكمة في وجه الرئيس ترامب -الذي استخدم مهارات التاجر في إملاء شروطه التي تعبر بالضرورة عن مصالح بلاده، ولوح بتخفيض مساهمتها في تمويل ميزانية الأمم المتحدة التي تبلغ حاليًّا نحو 22% بينما تدفع الصين 8% فيما لا تتجاوز المساهمة الروسية 3% كبادرة حسن نية على إعادة إصلاح المؤسسة الدولية،- وكشف خطة للمؤسسة عن التنمية المستدامة وأهدافها لعام 2030 التي تعمل على بناء عولمة شاملة وأكثر عدلًا.
وحتى يتم إصلاح المؤسسة، وإن كان هذا ليس بالأمر اليسير، يطرح سؤال آخر نفسه: لماذا أصبحت الأمم المتحدة موصومة بالبيروقراطية؟ وما الذي عانى منه العالم جراء ذلك؟ يمكن القول إن منتصف ثمانينيات القرن الماضي، كان مرحلة بداية فهم الأزمة، وتطوير منطق الهجوم عليها واتهامها بالتقصير، حيث كانت انعكاسًا لحالة من الغضب تتدحرج مثل كرة الثلج، وتتزايد وتشحن القرارات السياسية للكثير من بلدان العالم بالحنق الشديد، ما جعلهم يخفضون عدد موظفيهم، بنحو 13% من عدد المندوبين السابقين بالأمانة العامة للأمم المتحدة.
المستفيد دائمًا هي الدول الكبرى التي تتماشى قوانينها وتشريعاتها وبيئتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مع قوانين الأمم المتحدة
كانت حقبة الثمانينيات حافلة بالأزمات العالمية، وخاصة ما أطلق عليه الإثنين الأسود في الـ19 من أكتوبر عام 1987، حيث اختفت ملايين الدولارات من أسواق الأسهم في كبرى البورصات العالمية، وإلى الآن لم يعرف السبب الحقيقي للأزمة، حدث ذلك في وقت ضعفت فيه الخدمة المدنية المركزية بالأمم المتحدة وتراجعت بشكل غير مسبوق، واللجان الإقليمية الخمسة ووحداتها العديدة الأخرى في جميع أنحاء العالم لم تعد تعمل بكفاءة في تحليل وتوفير المعلومات عن الاتجاهات العالمية والإقليمية في المجالات السياسية والأمنية ونزع السلاح والاقتصاد والبعد الاجتماعي والبيئي وحقوق الإنسان.
هذا التقصير في مهام شديدة الحساسية، لم يكن يناسب حجم الصرف على ميزانية المنظمة ومدها بكل متطلباتها لخدمة العالم من جميع أعضائها، ومن هنا بدأت تشعر بعض البلدان المساهمة التي تعاني بطبعها من صعوبات اقتصادية، بأن لا يجب عليها أن تتحمل الزيادة المستمرة والمتكررة في ميزانية الأمم المتحدة، دون أن تستفيد منها بشكل مباشر، فالمستفيد دائمًا هي الدول الكبرى التي تتماشى قوانينها وتشريعاتها وبيئتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مع قوانين الأمم المتحدة.
بمرور الوقت بدأت بعض البلدان تمتنع عن الدفع، وظهرت الأزمة بوضوح مع تهديدات ترامب وتقليصه الكثير من التمويل بالفعل، ما استدعى تحذيرات متتالية من الأمين العام، من عدم قدرة المنظمة الدولية على دفع رواتب موظفيها، بعد أن واجهت أزمة غير مسبوقة في تنظيم الجمعية العامة الماضية المؤلفة من 193 دولة.
أزمات متتالية
يمكن القول إن أغلب القضايا المفصلية في العالم، تصدت لها الأمم المتحدة، ليست باعتبارها صاحبة سيادة وقرار، بل وكأنها نظام عقيم قديم يحيا خلف لافتة مريبة لأعضاء غير متعاونين على الإطلاق مع بعضهم البعض، ما جعلها كتلة من الأجزاء تعمل ضد بعضها، وفي النهاية تكون النتيجة الحتمية الجمود والعجز.
الأزمة التي افتعلها ترامب لإعادة توزيع الحصص المالية، كانت فرصة تاريخية لعرقلة نظام حق النقض “الفيتو” الذي يفضح جوانب القصور المؤسسي في الأمم المتحدة وعجزها عن مواجهة الدول الكبرى، لم تستغله على الوجه الأمثل، لا سيما أن منح حق النقض للدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن وهي الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وبريطانيا والصين، دون غيرهم، كان الثمن الذي يجب دفعه في الحرب العالمية الثانية، لضمان مشاركة القوى الكبرى في المؤسسة الوليدة، ولمنح الأمم المتحدة فرصة للنجاح، فيما فشلت فيه عصبة الأمم، ولكن هذا الظرف لم يعد مواتيًا، لدرجة تجعل أكبر دول العالم تطالب بالعدالة في توزيع المسؤوليات، فما الذي منع الأمم المتحدة من استرداد حريتها؟
على مستوى الشرق الأوسط، أصبح شجب واستنكار الأمين العام للأمم المتحدة مثار سخرية وتندر، تترد على المقاهي الشعبية، ويتم الإشارة إلى كل سياسي لا يقدم شيئًا غير الانتحاب والشجب والإدانة، على أنه اختراع مصغر من الأمين العام، وذلك ردًا على فشل الأمم المتحدة الكبير في معالجة أزمات المنطقة، بداية من العدوان المستمر والمتتالي على غزة من “إسرائيل”، وعدم قدرة المنظمة على مواجهة الاستيطان والتوسع في الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، نهاية بأزمات الربيع العربي التي لا تتعامل معها إلا مبادرات القوى الإقليمية والدولية، حسب مصالح كل دولة، وليس وفقًا لما يقتضيه القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة.
يرجع البعض، الوضع الذي انتهت إليه المؤسسة الدولية وأصبح يهدد بالتمرد عليها وخاصة من بلدان الشرق الأوسط، إلى المتاهة الداخلية وسطوة الدول الكبرى التي منعت العديد من الإصلاحات لأسباب تتعلق بمصالحها الذاتية، ما جعل القرار الدولي في أزمة دائمًا ولا ينتج عنه إلا الإحباط، فالإجماع الدوري على ضروة إنهاء الفقر على سبيل المثال ما زال منذ عقود يسير في النهاية إلى طريق مسدود.
ليس الفقر وحده، بل كلما جرت محاولة لتسوية النزاع يتم عرقتلها، سواء إنهاء الحرب السورية أم دفع عملية السلام في الشرق الأوسط إلى الأمام، ستجد كل دولة حريصة على إضافة وجهة نظرها الخاصة، ما يصيب القرار النهائي بحالة من الجمود، تنعكس في النهاية على مجلس الأمن، ولهذا تفوقت مؤخرًا الكيانات الإقليمية التي تجمع دولًا متشابهة في القيم والأفكار مثل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي ومجلس التعاون الخليجي قبل تفخيخه والإجهاز عليه منذ عامين بفعل الصراعات والانقسامات بين البيت الخليجي الواحد، ورغبة بعض بلدانه اللجوء إلى تحالفات خارجية تمثل مشروعاتها السياسية والعسكرية في المنطقة.
الأمم المتحدة.. إلى الأمام أم السراب!
كل ما سبق قد يعني بأي منطق تحليلي أن المنظمة في طريقها إلى المجهول والسراب، ولكن هذا ليس صحيحًا، فما زالت تملك العديد من النقاط التي تلعب لصالحها، باعتبارها منظمة متقلبة لديها قدرة على التكيف مع الواقع، أكثر وأسرع من غيرها، كما تملك تجربة تراكمية في قيادة العالم للقضاء على قضايا الساعة مثل فيروس نقص المناعة البشرية ـ الإيدز – وكذلك ما زالت قادرة على تدشين الأهداف الإنمائية للألفية الجديد، لتنظيم جهود الحرب ضد الفقر، حتى لو تهرب البنك الدولي من التمويل والدول الأعضاء من المسؤولية.
كما تملك الأمم المتحدة خبرةً طويلةً في تحويل الخلاف العنيف بين الدول الأعضاء إلى فرصة جديدة للحوار، ولديها الآليات التي تمكنها من صناعة جدول أعمال يناسب كل المصالح والتوجهات، وبالتالي ضغط الدول الأعضاء وخاصة من بلدان الشرق الأوسط للإصلاح مهم للغاية، من غير أن يكلف هذا الضغط خسارة منظمة تاريخية في وقت لم يتم الاتفاق على مؤسسة بديلة، تمثل مصالح العالم الجديد والشرق الأوسط على وجه التحديد.