أوضحت التصريحات الأمريكية التي ساقها كل من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو، أن قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، جاء إلى العراق لتنفيذ عمليات إرهابية ضد مصالح أمريكية ليس في العراق فحسب، بل في مناطق أخرى من الشرق الأوسط، ولم تشر إدارة ترامب لأي تفاصيل عن خطط هجوم سليماني المزعومة، واكتفت بتقديم دليل الرحلات والزيارات التي قام بها من سوريا إلى لبنان إلى العراق.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن هذه الزيارات الأخيرة التي قام بها سليماني شكلت نسق عمل اعتاد القيام به في مرحلة ما بعد داعش، وذلك من أجل تنسيق العمل الأمني والعسكري المشترك بين فيلق القدس وحلفائه في المنطقة، ضمن إستراتيجية عمل دأبت الدولة الإيرانية على القيام بها منذ فترة طويلة، وتتأطر مؤسساتيًا وإعلاميًا تحت عنوان “محور المقاومة” الذي تقوده إيران في منطقة الشرق الأوسط.
وهو ما يشير بدوره إلى الكثير من الأسئلة والاستفسارات التي دفعت واشنطن هذه المرة لإنهاء دور سليماني بصورة نهائية.
ما الحرس الثوري؟
عند اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979 وتأسيس الجمهورية الإسلامية، واجه المرشد الأعلى للثورة الإيرانية الخميني وأنصاره مشكلة بناء الدولة الجديدة، في وقت لم يكن يثق فيه بمؤسسات الدولة الأخرى كالجيش والاستخبارات، لأنهم كانوا عبارة عن تحالف أمني بين أجهزة نظام تحالف الشاه المخلوع، لذا كان من الضروري إنشاء جهاز أمني ليكون أساسًا لقوة عسكرية موازية، سميت في البداية بفيلق الحرس الثوري الإسلامي، الذي تكون من مقاتلين مدربين على حرب العصابات واقتحام السفارات (دربت حركة فتح الفلسطينية العشرات من مقاتلي الحرس الثوري الإيراني في بداية تأسيسه)، وملتزمين إيديولوجيًا بحماية النظام السياسي الإيراني الجديد ومُثُل ومبادئ الثورة الإسلامية.
في 8 من أبريل 2019، سمى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الحرس الثوري الإيراني كمنظمة إرهابية، وهي المرة الأولى التي تدرج فيها الولايات المتحدة كيانًا حكوميًا أجنبيًا ضمن المنظمات الإرهابية، ما مكن الإدارة الأمريكية من زيادة العقوبات الاقتصادية والضغط السياسي على النظام السياسي في طهران.
فيلق القدس.. الذراع الخارجية للحرس الثوري
يتكون الحرس الثوري الإيراني من عدة تفرعات أمنية وعسكرية، بما في ذلك فيلق القدس وجهاز الاستخبارات وقوات التعبئة الشعبية الباسيج، هذه الأخيرة هي قوة شبه عسكرية يتم تعبئتها لفرض النظام وحماية الأمن العام في حالات الطوارئ، بما في ذلك إخماد الاحتجاجات وملاحقة الناشطين والمعارضين السياسيين، إذ تشكلت الملامح الأولى لقوات التعبئة الشعبية الباسيج كقوة تطوعية في فترة الحرب العراقية الإيرانية، ومن ثم أصبحت بعد ذلك جزءًا أساسيًا من بنية الدولة الإيرانية الأمنية.
بعد تولي سليماني قيادة فيلق القدس، شهدت عمليات الفيلق تطورات كبيرة، مثل تطوير وإدارة الميليشيات والجماعات المسلحة الحليفة، إلى جانب توسيع أعمال الاستخبارات العسكرية الخارجية.
لفترة وجيزة قبل اغتيال سليماني، كانت الولايات المتحدة وفيلق القدس يعملان معًا في العراق وسوريا ضد تنظيم داعش عام 2014
إذ اضطلع سليماني وعبر فيلق القدس بمهمة تطوير علاقات إيران مع الحلفاء في الخارج، في محاولة لنشر إيديولوجيا الثورة الإيرانية في مجمل ساحات الشرق الأوسط، وذلك عن طريق تقديم الدعم اللوجستي والاستخباري، وعلى هذا الأساس أنشأت إيران ميليشيات مسلحة في العراق وسوريا وأفغانستان وباكستان، ودعمت جماعات مسلحة كحزب الله في لبنان وحماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة، وهيأت البيئة الإقليمية لظهور بعضها الآخر في اليمن والبحرين ونيجيريا، وجعلتها جميعًا ضمن قيادة سليماني الموحدة.
لفترة وجيزة قبل اغتيال سليماني، كانت الولايات المتحدة وفيلق القدس يعملان معًا في العراق وسوريا ضد تنظيم داعش عام 2014، إذ قدمت الطائرات الأمريكية كل التسهيلات العسكرية من أجل إزالة الموانع الإستراتيجية التي أقامها تنظيم داعش أمام تقدم سليماني وقواته، إلا أن هذه العلاقات الطيبة سرعان ما ارتطمت بصخرة الإدارة الأمريكية الجديدة، إذ مثل مجيء دونالد ترامب إلى رئاسة البيت الأبيض الفصل الأخير في العلاقات الطيبة التي جمعت الولايات المتحدة بإيران خلال فترة رئاسة باراك أوباما، ومن ثم تحولت إيران إلى أحد أعباء الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، وهو ما جعل الولايات المتحدة الأمريكية تتبنى خيارات سياسية واقتصادية عديدة من أجل كبح جماح فيلق القدس الإيراني الذي يقوده سليماني في المنطقة، عبر سلسلة من الأحلاف العسكرية والعقوبات الاقتصادية، حتى كان أحد عناوين احتواء السلوك الإيراني في الشرق الأوسط، هو تنفيذ عملية اغتيال سليماني رفقة العديد من القادة في الحشد الشعبي والحرس الثوري في بغداد 2 من يناير 2020.
فيلق القدس في مرحلة ما بعد سليماني
أثارت الساعات الأولى من عملية اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني، الكثير من التساؤلات عن الشخصية التي من الممكن أن تشغل مكانه من جهة، ومستقبل العمليات الخارجية للفيلق من جهة أخرى، وعلى الرغم من تمكن النظام الإيراني من تدارك كارثة اغتيال سليماني عبر تعيين خليفة له وهو نائب قائد فيلق القدس إسماعيل قآني، فإن التساؤل المهم هنا: هل سيتمكن من إدامة العمليات الخارجية لفيلق القدس بنفس الطريقة والفاعلية التي كانت في زمن سليماني؟
لا بد من القول إن هناك الكثير من القواسم المشتركة بين سليماني وقآني، إذ انضم كلاهما للحرس الثوري الإيراني خلال الحرب العراقية الإيرانية، كما فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على كليهما بسبب أنشطتهما الأمنية المزعزعة للاستقرار في المنطقة، إلا أنه على العكس من سليماني يفتقد الكاريزما الشخصية والتأثير السياسي الذي كان سليماني يمارسه داخل إيران وخارجها، هذا بالإضافة إلى عدم تمتعه بتلك الصلات القوية التي كان يمتلكها سليماني مع العديد من قادة الجماعات والمليشيات المسلحة في الشرق الأوسط.
وعلى هذا الأساس يمكن القول إنه نتيجة لحالة الفوضى السياسية التي تمر بها إيران اليوم، وتحديدًا بعد مقتل سليماني، وحادثة إسقاط الطائرة الأوكرانية، فضلًا عن تصاعد حدة الاحتجاجت الشعبية في مدن طهران وأصفهان وشمال إيران، هذا بالإضافة الى الضغوط الكبيرة التي بدأ يتعرض لها حلفاء إيران في المنطقة، وتحديدًا في العراق وسوريا، فإن المستقبل الذي ينتظر فيلق القدس وعملياته الخارجية في الشرق الأوسط، سيكون خاضعًا للكثير من التحديات والعقبات الإستراتيجية التي نجح سليماني في تجاوز الكثير منها، وهو ما يلقي الكثير من الأعباء على خلفه في تجاوزها هذه المرحلة، وإلا فإن المشروع الإستراتيجي الإيراني في منطقة الشرق الأوسط سيواجه خطر التفكك والاندثار في الكثير من الساحات.