بعد أشهر من المعارك على أبواب طرابلس بين القوات الموالية للواء متقاعد خليفة حفتر وقوات حكومة فايز السراج المعترف بها دوليًا، دخل اتفاق لوقف إطلاق النار في ليبيا حيز التنفيذ، أمس الأحد، إثر مبادرة من أنقرة وموسكو ومباحثات دبلوماسية مكثفة فرضتها الخشية من تدويل إضافي للنزاع.
ومن المقرر عقد مفاوضات بين السراج وحفتر اليوم في موسكو وفق ما صرح مصدر في وزارة الخارجية الروسية لوكالة “سبوتنيك” الروسية، الذي أكد أن اللقاء الذي جاء بناءً على المبادرة الروسية التركية سيعقد بمشاركة ممثلي وزارتي الخارجية في البلدين.
وكان السراج قد وصل في ساعة مبكرة من اليوم إلى العاصمة الروسية موسكو، لتوقيع اتفاق تثبيت وقف إطلاق النار، مع حفتر الموجود أيضًا في موسكو للغرض ذاته، بحسب ما ذكرت بعض المصادر التي أشارت إلى أن الاتفاق سيُجرى بضمانة روسية – تركية بين الطرفين استعدادًا لبدء مسار سياسي لحل الأزمة الليبية.
ترحيب عربي ودولي بهذه الخطوة التي يراها البعض ضرورية لحقن دماء الليبيين، غير أن حالة من الترقب تخيم على الأجواء خشية حدوث أي اختراقات للاتفاق، وهو ما ألمحت إليه حكومة السراج خلال الساعات الماضية بشأن خرق بعض القوات الموالية لحفتر الهدنة المتفق عليها، وهو الاتهام ذاته الذي وجهته الأخيرة ضد الحكومة المعترف بها.
طي صفحة الماضي
قبيل ساعات من مغادرته الأراضي الليبية دعا رئيس حكومة الوفاق الوطني إلى “طيّ صفحة الماضي”، موجهًا رسالة متلفزة للشعب الليبي قال فيها: “أدعو كل الليبيين إلى طيّ صفحة الماضي ونبذ الفرقة ورص الصفوف للانطلاق نحو السلام والاستقرار”، وأضاف السراج “لا تعتقدوا أبدًا أننا سنفرط في تضحيات أبنائنا ودماء شهدائنا، أو بيعنا حلم السير نحو الدولة المدنية”، لافتًا إلى أن قبول حكومته وقف إطلاق النار يأتي من موقف قوة، حفاظًا على اللحمة الوطنية ونسيج ليبيا الاجتماعي، مشددًا في الوقت نفسه على استعداد طرابلس عسكريًا لدحر “المعتدي في حال حدوث أي خروق لهذا الاتفاق”.
كما أوضح أن قرار وقف إطلاق النار خطوة أولى في “تبديد أوهام الطامعين في السلطة بقوة السلاح والحالمين بعودة الاستبداد، وأن المسار السياسي الذي سنخوضه سيكون استكمالًا للتضحيات الجسام التي بذلت في سبيل قيام دولتنا التي نحلم بها”.
من الواضح أن قبول السراج وحفتر لقرار وقف إطلاق النار في ظل التحفظات التي أبداها كل طرف عليه إنما جاءت وفق ضغوط دبلوماسية مورست عليهما
بدوره أشار رئيس مجلس الدولة (الذي يوازي مجلس أعيان) في طرابلس خالد المشري لتليفزيون “ليبيا الأحرار” أن توقيع هذا الاتفاق سيُمهد الطريق لإحياء العملية السياسية، موضحًا أنه سيُرافق السرّاج إلى موسكو، في حين يُرافق رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح اللواء المتقاعد حفتر.
وفي السياق نفسه، نقلت وكالات أنباء روسية عن رئيس فريق الاتصال الروسي بشأن ليبيا ليف دينغوف قوله: “السراج يصل في أقرب وقت إلى موسكو لإجراء محادثات ستُركز على التسوية المستقبلية في ليبيا، بما في ذلك إمكان توقيع اتفاق هدنة وتفاصيل هذه الوثيقة”، مضيفًا أن كلًا من حفتر والسراج سيلتقيان بشكل منفصل مع المسؤولين الروس ومع ممثلي الوفد التركي الذي يتعاون مع روسيا بشأن هذا الملف.
ترحيب عربي ودولي
لاقى الاتفاق ترحيبًا واسع النطاق، فقد رحب الاتحاد الأوروبي وبعثة الأمم المتحدة والجامعة العربية بهذه الخطوة، ودعوا الطرفين إلى احترام وقف إطلاق النار واستئناف المسار السياسي، فيما رحبت كل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة في بيان مشترك بقبول الأطراف في ليبيا وقف إطلاق النار، وحثّت الأطراف على اغتنام هذه الفرصة الهشة لمعالجة القضايا السياسية والاقتصادية والأمنية الرئيسية التي تكمن وراء الصراع.
من جانبها رحبت القاهرة كذلك بالقرار، مؤكدة في بيان على لسان وزير خارجيتها سامح شكري، دعمها لحل شامل يحفظ أمن ليبيا وأمن دول جوارها ودول حوض البحر المتوسط، ويحفظ وحدة ليبيا وسلامة أراضيها، مع التعامل بحزم مع التدخل الأجنبي في البلاد.
أما على المستوى الإفريقي، أكد وزير خارجية الكونغو برازفيل، جان كلود جاكوسو، أن رئيس بلاده دينيس ساسو أنجيسو، بعثه إلى الرئيس الموريتاني للدعوة لتحرك إفريقي عاجل وفعال لمنع تدويل الأزمة الليبية، مشيرًا في رسالة رسمية تسلمها نيابة عن الرئيسي الموريتاني رئيس وزرائه، أن “الوضع في ليبيا دخل مرحلة تحول مثيرة للقلق للغاية والأسباب معروفة”.
الكثير يعول على قمة برلين في تبني صيغ ومقترحات من شأنها تسريع المسار السياسي لحلحة الأزمة التي باتت تمثل هاجسًا ليس للليبيين وحدهم، بل للدول المجاورة والمحيطة في المنطقة بأسرها
وأضاف “هناك خطر كبير جد لتدويل النزاع الليبي كما لو أن الشعب الليبي لم يعانِ بما فيه الكفاية مما يستدعي أن تتبنى إفريقيا موقفًا موحدًا بشأن هذا النزاع وأن تُسمع صوتها في محافل الأمم، فهناك بالفعل عملية تقودها الأمم المتحدة بواسطة ممثلها السيد غسان سلامه”.
وقال: “هناك استعدادات جارية لانعقاد قمة في برلين، ولا يمكن لإفريقيا أن تبقى على هامش هذه التطورات المعنية بها باعتبار ليبيا دولة إفريقية وعضو مؤسس في الاتحاد الإفريقي، الشيء الذي لا يمكن معه أن تبقى إفريقيا مكتوفة الأيدي”، فيما ألمح إلى عقد قمة إفريقية في 25 من يناير الحاليّ في برازافيل لصياغة مقترحات تضع حدا للأزمة الليبية.
من الواضح أن قبول السراج وحفتر لقرار وقف إطلاق النار في ظل التحفظات التي أبداها كل طرف عليه إنما جاءت وفق ضغوط دبلوماسية مورست عليهما: الجانب التركي على حكومة الوفاق، والضغوط الروسية على قوات الجنرال السابق، في ظل الخشية من تدويل متزايد للنزاع الدائر عند السواحل الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط.
فبالأمس عقد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، اجتماعًا مع رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الليبية، واستغرق الاجتماع المغلق، قرابة ساعتين ونصف الساعة في المكتب الرئاسي بقصر دولمه بهجه بمدينة إسطنبول، ولم يصدر بعد، بيان من الرئاسة التركية عن فحوى الاجتماع.
وفي المقابل حث الجانب التركي السلطات الروسية على الضغط على القوات الموالية لحفتر بقبول قرار وقف إطلاق النار تجنبًا لأي تصعيد من الممكن أن يأتي بنتائج عكسية على مستقبل الأزمة الليبية، هذا في الوقت الذي تتصاعد فيه مخاوف أن تتحول ليبيا إلى سوريا جديدة.
قمة برلين
وبينما تخشى أوروبا من تصاعد الأوضاع فوق التراب الليبي، التقت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل في موسكو، أول أمس السبت، بالرئيس الروسي، حيث رحبت بالجهود الروسية التركية، آملة أن توجه قريبًا “الدعوات إلى مؤتمر في برلين ترعاه الأمم المتحدة”.
ميركل في مؤتمر صحفي جمعها ببوتين قالت: “نأمل في نجاح الجهود المشتركة لروسيا وتركيا وسنرسل قريبًا دعوات لمؤتمر في برلين”، وهو ما شدد عليه الرئيس الروسي كذلك الذي أكد أن الوقت حان لعقد محادثات السلام بشأن ليبيا في برلين، مشددًا على أهمية وضع حد للمواجهة المسلحة في طرابلس ووقف إطلاق النار، وتابع “الصراع في ليبيا يجب أن ينتهي”.
تسعى برلين إلى لعب دور الوسيط في الأزمة الليبية، بجانب كل من موسكو وأنقرة، هذا في الوقت الذي حذّر فيه وزير الخارجية الألماني هايكو ماس من تحولها – ليبيا – إلى “سوريا ثانية”، مضيفًا في تصريحاته لقناة “إن تي في” الألمانية: “نشرك أوروبا واللاعبين المؤثرين هناك، ولذلك نحتاج إلى روسيا، بالنسبة إلينا، موسكو ليست بعيدة. لنسافر إليها ونناقش الأمر مع بوتين”.
دخل اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، أمس الأحد، غير أنه وبعد دقائق معدودة من إعلان الالتزام بالقرار، سُمع في محيط طرابلس أصوات لقذائف وإطلاق رصاص
وفي العام الماضي أطلقت ميركل مع وزير خارجيتها ما يُسمى “عملية برلين” التي من شأنها تعبئة جميع الدول الفاعلة في ليبيا وجمعها حول طاولة واحدة، ومنذ ذلك التاريخ لم ينفرج الوضع، بل بالعكس ازداد تفاقمًا، حتى قبل ساعات قليلة من المبادرة التركية الروسية.
الكثير يعول على قمة برلين هذه في تبني صيغ ومقترحات من شأنها تسريع المسار السياسي لحلحة الأزمة التي باتت تمثل هاجسًا ليس لليبيين وحدهم، بل للدول المجاورة والمحيطة في المنطقة بأسرها، خاصة أن السيناريو السوري ما زال يسيطر على الأجواء فوق مائدة الحوار بشأن الملف الليبي.
عربيًا.. كانت هناك تحركات دبلوماسية في هذا الإطار من دول الجوار، حيث بذلت الجزائر جهودها لاحتواء الأزمة وتغليب الحل السياسي كخيار وحيد، ففي الـ6 من يناير الحاليّ استقبل الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، رئيس حكومة الوفاق الوطني ووزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، هذا بجانب إجرائه مكالمة هاتفية مع المستشارة الألمانية .
مخاوف من الخرق
دخل اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، أمس الأحد، غير أنه وبعد دقائق معدودة من إعلان الالتزام بالقرار، سُمع في محيط طرابلس أصوات لقذائف وإطلاق رصاص، ما بث الحيرة والرهبة في أنفس المواطنين، وسط تبادل الاتهامات بين الطرفين بانتهاك الهدنة.
وزير الداخلية بحكومة الوفاق أعلن أن قوات حفتر لم تلتزم بوقف إطلاق النار، والحكومة ملتزمة بواجبها في الدفاع عن العاصمة والشرعية، مؤكدًا تأييده للسلام وحقن الدماء، موضحًا أن “المعتدي” ما زال مستمرًا في عدوانه، وفي بيان له أكد أنه سجل فعلًا خروقات واضحة للملأ للاتفاق في محوري صلاح الدين ووادي الربيع بعد دقائق فقط من دخوله حيز التنفيذ، محذرًا من تكرار خرق الهدنة، وأنه سيرد بأعنف الطرق والسبل في حال تكرر هذا الخرق.
في المقابل اتّهمت قوات حفتر خصومها بخرق وقف إطلاق النار معلنة إسقاط طائرة مسيّرة كانت تحلق فوق مواقعها، الأمر الذي يجعل الاتفاق الذي وُصف بـ”الهش” في مهب الريح حال استمرار الضغوط على الطرفين للالتزام به، هذا في الوقت الذي يضع كل فصيل إصبعه على القرار والآخر فوق الزناد تحسبًا لأي تصعيد في أي وقت.
وفي المجمل تبقى الساعات القليلة المقبلة علامة فارقة في اتجاه المسار السياسي لحلحلة الأزمة الليبية، ورغم حالة التفاؤل التي تخيم على الكثيرين في ظل الضغوط الروسية التركية على الطرفين للقبول بهذا الحل، فإن القلق من انتهاك أي من الطرفين للهدنة والعودة للمربع صفر مرة أخرى، في ظل تعدد الأجندات المسيطرة على القرار الداخلي هناك، يفرض نفسه بقوة على المشهد.