المُستضعَف هو كل إنسان فرد أو مجتمع وقعت عليه قوة قاهرة جعلته ضعيفًا عاجزًا معطلًا كليًا أو جزئيًا، ولكن هل يعقل أن يكون هذا المستضعف طاغيًا ظالمًا شريرًا، وهو من هو في موقع المفعول به وفيه ولأجله، وأبدًا ليس فاعلًا؟
هل يعقل أن يكون المجني عليه جانيًا أو شريكًا للجاني؟ نعم هناك حالات كثيرة يكون فيها المُستضعَف شريكًا في الجريمة، والأخطر أن يكون الشريك المؤسس للجريمة التي وقعت عليه، وهذا ما يدرس وفق عبارة ثنائية الجلاد والضحية، فكم من ضحية استدعت جلادها ابتداءً وأطالت عمره دون أن تدري؟ ولكن كيف يحدث ذلك؟
روى لي صديق من مصر قصة طريفة عن رجل كبير في السن ذي خبرة في الحياة يصطاد على شاطئ البحر، وكانت حصيلته يومها “سرطانات” وضعها في إناء عميق بجانبه، كانت هذه الكائنات البرمائية تتسلق جدار الوعاء محاولة الخروج، مر به شاب فتي، فلاحظ أن السرطانات ستخرج وتفلت “الصيْدة” من الصياد وتفوت عليه حصيلته التي غنمها بصبر وطول انتظار، فقال للصياد المسن باللهجة المصرية: يا حاج البتاع حتطلع وتروح منك، فقال له الصياد الخبير: ما تخفش أختها حتنزلها.
المشاركة من بعض المُستضعَفين تطيل عمر الطغيان والاستبداد، وتعطيه المبرر للوجود والبقاء والديمومة
وهذا ما كان يحدث بالفعل، فكلما اقتربت إحداهن من حافة الوعاء عرقلتها أختها التي تحاول أيضًا الوصول إلى نفس الحافة ولديها نفس الهدف، وهذا ما يحدث في عالم المُستضعَفين، كلما حاول أحدهم التحرر من الطغيان لتحرير نفسه وتحرير أخوته، عرقله أخوه المُستضعَف بعدة طرق قد تصل إحداها وأسوأها إلى الوشاية به عند الطاغية.
من أحد أشكال طغيان المُستضعَف، طغيان المُستضعَف المتعلم تعليمًا أكاديميًا راقيًا، فهو الآخر يعمل دون وعي منه، على زيادة بؤس أبناء جلدته عندما يترفع عليهم بسبب علمه ورقيه الحضاري المظنون، لا سيما إذا كان يرطن لغة أجنبية حصل بها علومًا لا تنفع بيئته بشيء يذكر، بل تنفع كل النفع شركات عالمية يسوق بعلمه الموهوم منتجاتها ويضاعف أرباحها ويزيد طغيانها، ولا يفكر أبدًا بإيجاد حلول تستثمر موارد بلده وطاقات أبناء جلدته، وكيف يفعل وهو يرى أن علوم الطاغية هي المنجاة والأمل؟! فشارك في استضعاف قومه الذين كانوا يفاخرون به ويأملون منه الخير كل الخير في التحرر والنجاة. المصيبة أن غالبية هؤلاء القوم مستمرون بالأمل والانتظار.
من أحد أهم أشكال طغيان المُستضعَفين أيضًا، مشاركة بعضهم الطاغية المُستضعِف السلطة مقابل فتات الموائد التي قد تصل إلى ملايين الوحدات النقدية التي يرونها ثروات هائلة، في حين أنهم يسهلون لطغاة الداخل والخارج مكاسب خرافية لا تقدر بثمن، وقد تأخذ هذه السلطة شكل المنصب السياسي أو الإداري الخالي من القرار المستقل، أو شكل المرجعية الدينية التي كل همها تطبيق حذافير قواعد الأديان على العامة، وإيجاد منافذ التسهيل والترجيح والأعذار للطاغية نفسه.
ما كان للطاغية أن يستمر في استضعافه للناس لولا أمثال هذه المشاركات التي تبرر بآلاف الحجج الواهية، وما هي في الحقيقة إلا طغيان مستضعَف طمع بالخلاص من طغيان مستضعِف، فقرر معاونته والحل مكانه. ولكن هيهات أن يسمح له بذلك، فكرسي الطاغية لا يقبل المشاركة.
هذه المشاركة من بعض المُستضعَفين تطيل عمر الطغيان والاستبداد، وتعطيه المبرر للوجود والبقاء والديمومة، ولكن هيهات فهؤلاء الشركاء الذين يقضمون من كعكة الطغيان يشاركون في إتلافها وخرابها ولكن – للأسف الشديد – بعد تطويل عمرها وتأخير أجلها، ولكل أجلٍ كتاب.
هل يستحق المُستضعَف تهمة الظلم؟ نعم، فالله تعالى وصف بعضهم بالظلم في آية صريحة، عندما توفت الملائكة بعض المُستضعَفين وهم ظاملون. سألوهم فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعَفين في الأرض، أبدًا لن يقبل هذا العذر.
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ، قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾.
أشكال كثيرة لظلم المُستضعَفين نكتشفها تباعًا كلما حفرنا عميقًا في فكرهم وأخلاقهم وسلوكياتهم، ويبقى الطريق الأساس للخلاص من أي منظومة مستبدة فاسدة، ألا تكون جزءًا منها، فهل تقنع هذه الفكرة أهل الطمع والاستعجال من المستضعفين؟ ربما بعد الألم والألم خير معلم.