لا يعد فن النحت في العراق حديثًا أو وليد دراسة بعض العراقيين النحاتين في الدول الأوروبية، فعند تأمُل الأدوات البسيطة التي استخدمها النحاتون القدماء من الآشوريين والسومريين في بلاد ما بين النهرين لنحت تماثيلهم، وبمقارنة ذلك مع شدة صلابة الأحجار والصخور المستخدمة لصناعة هذه المنحوتات والتماثيل التي لا تزال العشرات منها شاخصة حتى الآن، فإن ذلك يعطي انطباعًا جوهريًا عن مدى براعة أولئك الذين نحتوا الحجارة لتظل طيلة هذه المدة وبأبهى صورة.
الفن الآشوري
يمتد تاريخ النحت في العراق إلى عهود غابرة، ويستطيع المتتبع للتاريخ العراقي أن يستشعر الفن العراقي، خاصة في مجال النحت في كل منحوتة صنعها الآشوريون، فالملاحظة التي يستطيع أن يلمسها المتابع لمسار فن النحت في العراق هو تركيز الآشوريين على النحت البارز بروزًا خفيفًا وإهمال التماثيل المجسمة تجسميًا ثلاثي الأبعاد، إذ يلاحظ أن ارتباط النحت بالعمارة جعل تماثيل الأبواب الضخمة للأسود والثيران المجنحة في نينوى والنمرود تغطي الأبواب الرئيسية للقصور.
استمر النحت في التطور على مدى تاريخ العراق من أيام الآشوريين وصولًا إلى الدولة العراقية الحديثة التي بدأت ملامحها تظهر عقب انهيار الدولة العثمانية وبدء الاحتلال البريطاني للبلاد في العقد الثاني من القرن الماضي.
بداية النحت العراقي الحديث
تخرج العديد من الفنانين العراقيين – من الرعيل الأول – من الدول الأوروبية في العقود الثلاث الأولى من القرن العشرين، وخاصة فرنسا وإيطاليا، يقول الكاتب الصحفي شوكت الربيعي: “احتضنت إیطالیا جیلین من الفنانین العراقیین المتمیزین منذ ثلاثینيات القرن العشرین ومنهم: جواد سلیم وخالد الرحال وحافظ الدروبي ومحمد غني ومیران السعدي ومحمد علي شاكر وغازي السعودي وسعد الطائي”.
ويضيف الربيعي أن سعد الطائي (من الرعیل الأول) أنھى تحصیله الفني في روما، وبدأ انطباعیًا متأثرًا فیما بعد بأستاذه سفربي، ولكنه في لوحاته عن الأھوار، بواكیر الستینيات، بلور تجربته الانطباعیة ورسخ في أعماقه إمكانیة البحث في اللون المشبع بالضوء، لیس كما فعل الانطباعیون الفرنسیون من قبل، بل بإحساس ومشاعر ومعالجة ورؤیة مشبعة بالجو العربي والعراقي بشكل خاص.
جواد سليم.. أبرز النحاتين العراقيين
يحظى العراق بعدد كبير من الفنانين الذين مثلت أعمالهم قمة فن النحت العراقي، ومن بينهم جواد سليم الذي نحت نصب الحرية في العاصمة العراقية بغداد، الذي يشهد تظاهرات حاشدة منذ أكثر من 3 أشهر. ويعد سليم من أبرز من تلاقحت منهجيته الفنية بالحضارة الغربية، إذ ولد في أنقرة سنة 1919 من أبوين عراقيين، وسافر إلى فرنسا سنة 1928 لدراسة الفن ثم عاد إلى بغداد بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية.
يقول الكاتب الصحفي محمد صفاء حمودي إن سليم عيّن مدرسًا لمادة النحت في معهد الفنون الجميلة بعد عودته من باريس عام 1945 واستمر في مهنته وأعماله حتى وفاته في بغداد عام 1961، ويضيف حمودي أن من أهم أعمال سليم الجدارية نصب الحرية في بغداد، فاستيعاب جواد سليم للتراث هو أحد الأسباب الجوهرية في إبداعه الفني الذي يتركز في كونه انطلق من المحلية إلى العالمية، لافتًا إلى أنه أبدع في صياغة إرث حضاري عراقي خالص يحمل في جعبته خليطًا من التأثر بالماضي مع محاولة التجديد.
وعن نصب الحرية يعتقد حمودي أنه يلاحظ به الهوية المنفردة على واجهة من الحجر الأبيض اللون وهي عبارة عن لافتة مدون عليها نص ليس هو بالكتابي المقروء وإنما كمفردات، يستطيع المشاهد من خلالها قراءة أهداف ورؤى نظمت بعلاقات تنظيمية حاكت واقعًا جديدًا حاملًا في طياته رموزًا معقدةً وسهلة الفهم في آن معًا.
ويصف حمودي النصب بأنه “أصدق مرحلة وأكثرها تحديدًا لشخصية سليم، تلك المرحلة التي عصرت فيها تقاليد الفن الرافديني في أعماله وكان مشروع نصب الحرية رائعة أعماله الفنية وكمال عبقريته”.
خالد الرحال
نحات وفنان عراقي آخر، ولد عام 1962 ويعد أحد أبرز رواد الحركة الفنية في العراق، تخرج في معهد الفنون الجميلة ببغداد عام 1947 بشهادة الدبلوم في النحت، انتمى بعدها إلى جماعة بغداد للفن الحديث عام 1953، سافر الرحال بعد عدة معارض خارجية وداخلية إلى إيطاليا ليدرس في أكاديمية الفنون الجميلة بروما وتخرج عام 1964 حاملًا البكالوريوس في فن النحت.
ومن أبرز أعماله النحتية، نصب الشهيد في العاصمة بغداد الذي شيد وافتتح عام 1983، إضافة إلى قوس النصر في منطقة المنصور وتمثال الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور ونصب المسيرة وتمثال الأم في حديثة الأمة وسط بغداد.
محمد غني حكمت
يعد شيخ النحاتين العراقيين، ولد عام 1929 وتوفي في 2011 ويعد أحد أهم النحاتين العراقيين في التاريخ الحديث، تخرج حكمت في معهد الفنون الجميلة ببغداد عام 1953، وحصل على شهادة الدبلوم في النحت من أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد عام 1959 ليشد الرحال إلى عاصمة الفن روما لإكمال دراسته في فن النحت.
زينت تماثيل حكمت الجميلة العديد من ميادين العاصمة العراقية بغداد وساحاتها فضلًا عن عواصم ومدن عربية وعالمية، فمن أبرز أعماله تماثيل شهريار وشهرزاد وكهرمانة (علي بابا والأربعين حرامي) وجدارية مدينة الطب وتمثال أبي الطيب المتنبي وبساط الريح والخليفة أبي جعفر المنصور والجنية والصياد في بغداد، كما ساهم في تنفيذ نصب الحرية الضخم الذي يقع في ساحة التحرير وسط بغداد نهاية خمسينيات القرن الماضي إلى جانب مصمم النصب الأصلي جواد سليم.
عالميًا، أنجز حكمت في ثمانينيات القرن الماضي إحدى بوابات منظمة اليونسيف في باريس وثلاث بوابات خشبية لكنيسة “تيستا دي ليبرا” في روما، ليكون بذلك أول نحات عربي مسلم عراقي ينحت أبواب كنيسة في العالم.
جوجل يحتفل بالذكرى الـ87 لميلاد النحات محمد غني حكمت
أما عربيًا، فقد أنجز حكمت جدارية الثورة العربية الكبرى في عُمان، فضلًا عن تماثيل وجداريات في البحرين تتضمن خمسة أبواب لمسجد قديم ونوافير مائية.
قبيل وفاته عام 2011، أنهى حكمت إنجاز 4 نصب جديدة للعاصمة العراقية بغداد تتمثل بنصب (مصباح علاء الدين السحري) الذي سيوضع في ساحة الفتح بالقرب من المسرح الوطني، وتمثال عن شموخ بغداد سيوضع في ساحة الأندلس، وتمثال (إنقاذ مسلة التاريخ العراقي) الذي نحته على شكل رجل يدفع بمسلة تاريخية ووضع في حدائق منطقة المنصور، فضلًا عن نافورة تضم شعرًا لـ”مصطفى جمال الدين” وضعت بعد وفاته في منطقة الكاظمية ببغداد.
القائمة زاخرة بالنحاتين الذي تركوا بصمة محلية وعالمية، يصعب حصرهم في مقال، ويمكن افشارة أيضًا إلى أعمال إسماعيل فتاح الترك الذي شارك في إنجاز نصب الشهيد، فضلًا عن تمثال الكاظمي وأبو نواس والرصافي، وصالح القره غولي صاحب تمثال الرازي، وعبد الجبار البناء الذي أنجز أكثر من 80 قطعة فنية فولكلورية في المتحف البغدادي، وراكان دبدوب من مدينة الموصل وعيدان الشيخلي وعزام البزاز واتحاد كريم والعشرات غيرهم، إذ تميز كل منهم بمدرسة خاصة في النحت ما أضفى مزيدًا من التنوع في النحت معتمدين على التجرد من التقليد والإبداع في تجسيد رؤاهم الفكرية في رموز أفنوا حياتهم في تجسيدها.