قررت الحكومة التركية، في عهد حزب العدالة والتنمية، عدم البقاء مكتوفة اليدين حيال المشهد السياسي المعقد في العالم، وفضلت المشاركة بصناعة اللعبة بدلًا من السيناريو المعاكس الذي ستكون فيه خاضعةً لأوامر وقواعد الآخرين بما يتناسب مع مصالحهم الخاصة، ومن خلال إجراء بعض التعديلات على سياساتها وأجندتها الداخلية والخارجية، استطاعت إدارة العديد من الأزمات والقضايا العالقة على أرض الواقع، ومن أحدث جهودها المبذولة في هذا الشأن، الإعلان عن المبنى الجديد لوكالة الاستخبارات الوطنية التركية في العاصمة أنقرة، الذي يُعرف بـ”القلعة” أو “MİT” بالتركية، في محاولة جديدة لرفع مستوى أنشطة الوكالة وجاهزيتها في السيطرة على التهديدات الخطرة والمتمثلة، بحسب تصريح الرئيس رجب طيب أردوغان، في التنظيمات الإرهابية مثل: بي كا كا وواي بي جي وفتح الله غولن وداعش.
يضاف إلى ذلك، التوترات والنزاعات الداخلية والإقليمية التي تطل برأسها القبيح من حين لآخر، وتنعكس آثارها بشكل مباشر أو غير مباشر على الداخل التركي، ويشمل ذلك الأزمات التي مرت بها سوريا والعراق، إضافة إلى التحالفات التي تكالبت ضد أنقرة في شرق البحر المتوسط. وعلى إثر جميع تلك التطورات، رأت أنقرة أن إعادة هيكلة جهاز المخابرات سيجعلها حصنًا في وجه جميع التهديدات.
تاريخ جهاز الاستخبارات الوطنية التركية
زمن الدولة العثمانية
يعود تاريخ تأسيس جهاز الاستخبارات التركي إلى عهد الدولة العثمانية، وبدايةً على يد حكومة حزب الاتحاد والترقي التركي القومي عام 1909، بأمرٍ من جمال وأنور وطلعت باشا، وفي إطار متصل مباشرة بالسلطان العثماني، وآنذاك، اتخذ الجهاز اسم “TEŞKILAT-I MAHSUSA/ التشكيلات المخصوصة” أي الفرقة الخاصة، التي كانت تركز في أنشطتها على اصطياد العصابات وشبكات الخيانة الوطنية وحركات التمرد والأجندة الأجنبية والدعاية السوداء التي تشكل تهديدًا على أمن الدولة العثمانية ومصالحها.
عملت التشكيلات المخصوصة في جميع أنحاء الإمبراطورية العثمانية، فقد انتشرت أعينها الرقابية على مساحات جغرافية واسعة، وتحديدًا ما بين بلاد الأناضول إلى بلاد القوقاز.
انتهى دورها عام 1918، في الوقت الذي سقطت فيه الدولة العثمانية، ولكن في نفس العام، تأسس جهاز آخر ضد الاحتلال الإنجليزي في مدينة إزميت، وسُمى آنذاك “KARAKOL/ كاراكول” بهدف محاربة المتعاونين مع الاحتلال ضد الدولة العثمانية، وقد حقق الكاراكول أهدافه بنجاح، إلى أن تسللت قوات من الاحتلال الإنجليزي إلى داخل كيان الجهاز وخلقت بداخله خلية تجسس، ولكن سرعان ما تفككت وقُضي عليها. فيما بعد، قرر مؤسس الجمهورية التركية، مصطفى كمال أتاتورك، تأسيس منظمة بديلة، وأنشأ حينها، عقب حرب التحرير عام 1921، فرقة “Müsellah Müdafaa-i Milliye/ مسلح مدافعة ميلية”، وتعني قوات الدفاع القومية المسلحة، من أجل ربط الأنشطة الأمنية والعسكرية به دون الحاجة إلى جهاز استخباراتي خاص.
خلال تاريخها نقلت مقرها 3 مرات تقريبًا، ومؤخرًا افتتحت الحكومة مبنى جديدًا لها في منطقة “باغليجا أتيمسغوت” بالعاصمة التركية أنقرة، على مساحة 2000 هكتار تقريبًا وبجدران إسمنتية يصل ارتفاعها إلى 3 أمتار
نجحت لاحقًا قوات الدفاع في أنشطتها الاستخبارية تحت إدارة وتوجيهات رئيس الأركان العامة فوزي جاكماق، ولكن أتاتورك لاحظ أن المنظمة تفتقر إلى الحداثة والتنظيم، وأراد أن تشبه المنظمات الاستخبارية في الدول المتقدمة مثل الاستخبارات الألمانية والسوفيتية والإيطالية، وعلى إثر ذلك أمر بإرسال كوادر المنظمة إلى أوروبا لتلقي التدريبات اللازمة هناك التي من شأنها رفع مستوى النشاط الاستخباري.
زمن الجمهورية التركية
أُنشئ مجلس الأمن القومي التركي (M.E.H)، في 6 من يناير/كانون الثاني 1926، بأنقرة، وفقًا لأوامر رئيس قيادة الأركان العامة المارشال فوزي جاكماق، ورُبط مؤقتًا وشكليًا بوزارة الداخلية عام 1927، وترأسه شكري علي أوجال آنذاك، وخلال تلك الفترة شهد المجلس العديد من التعديلات القانونية والإدارية فيما يخص البنية الهيكلية والمهام في الحياة السياسية.
استمر عمل منظمة “ماه” حتى عام 1965، إلى أن قرر الرئيس عصمت إينونو تغيير اسمها إلى “ميت”، اختصارًا لـ”ميلي استخبارات تشكيلاتي/ Millî İstihbarat Teşkilatı” أي جهاز الاستخبارات الوطنية، وذلك عام 1983، بموجب القرار البرلماني 2937.
ما زالت المنظمة تعمل بنفس الاسم إلى يومنا الحاليّ، ولكن خلال تاريخها نقلت مقرها 3 مرات تقريبًا، ومؤخرًا افتتحت الحكومة مبنى جديدًا لها في منطقة “باغليجا أتيمسغوت” بالعاصمة التركية أنقرة، على مساحة 2000 هكتار تقريبًا، وبجدران إسمنتية يصل ارتفاعها إلى 3 أمتار، وذلك بعد أن كانت في منطقة “يني محلة” منذ السبعينيات، وهو المقر الذي تعرض لإطلاق النيران من جماعة غولن الإرهابية خلال محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016.
في عهد حزب العدالة والتنمية
خاضت وكالة الاستخبارات التركية عدة تجارب ومحطات مختلفة، باختلاف الأنظمة والوجوه الحاكمة، لكنها في عهد حزب العدالة والتنمية مرت بنقلة نوعية، غيرت مكانتها ودورها، كما حولتها من جهاز أمني ضعيف يعاني من بعض الثغرات إلى جهاز داعم ساعد الحكومة التركية في استجماع قواها شيئًا فشيئًا في أكثر من محور وناحية.
شهدت العاصمة أنقرة ومدينة إسطنبول، منتصف يوليو/تموز 2016، محاولة انقلابية فاشلة نفذتها عناصر محددة من داخل الجيش تتبع منظمة “فتح الله غولن”، أو كما كان يطلق عليها أردوغان اسم “الكيان الموازي”، بهدف السيطرة على مفاصل الدولة ومؤسساتها الأمنية والإعلامية، ولكن تم إفشال هذه المحاولة التي بدأت الساعة 22:00 من يوم الجمعة، بعد 15 ساعة تقريبًا، فقد أرغمت الاحتجاجات الشعبية العارمة الآليات العسكرية وجنودها على الانسحاب.
كثرت التساؤلات حينها عن دور جهاز الاستخبارات التركي ورئيسه حاقان فيدان، لا سيما أن أردوغان أشار في أحد اللقاءات الصحفية أنه عرف عن المحاولة الانقلابية من شقيق زوجته، إضافة إلى رئيس الوزراء آنذاك بن علي يلدريم الذي قال إنه لم يستطع الوصول لرئيس جهاز الاستخبارات حتى الساعة الحادية عشرًة ليلًا، أي بعد بدء محاولة الانقلاب بساعتين تقريبًا، مما دلل على وجود ضعف استخباري في الجهاز، بحسب ما قاله المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن في أحد التصريحات الصحفية.
صاغت هذه التصريحات صورة سلبية وغامضة عن عمل جهاز الاستخبارات ورئيسها فيدان وشاعت التكهنات عن إقالته من منصبه، لكن فيدان بقي في مكانه، فقد قال أردوغان “يجب عدم تغيير الحصان في أثناء الطريق”، ثم اتضح لاحقًا، أن المخابرات كانت على علم بمحاولة الانقلاب، ونسقت مع رئيس هيئة الأركان خلوصي أكار ضد الانقلابيين لردعهم، ولكن الإجراءات التي اتخذوها دفعت الانقلابيين إلى تقديم موعد الانقلاب ست ساعات عن الموعد المقرر أولًا، أي الساعة الثالثة فجرًا.
لم يربح جهاز الاستخبارات الكثير من النقاط في هذا المنعطف الحاد، ولذلك قرر أردوغان إعادة النظر في نظام وهيكلة الجهاز، مما أدى لاحقًا إلى فصله لجهازين: أحدهما للداخل والآخر للخارج كما في النموذج الأمريكي، كما تم ربط الجهاز برئيس الجمهورية ومنحه صلاحية ترؤس مجلس تنسيق المخابرات الوطني الذي كان تابعًا سابقًا لرئيس جهاز المخابرات، إضافة إلى إعطاء رئيس الجمهورية حق المصادقة على قرار التحقيق مع رئيس جهاز المخابرات أو رفضه، وبذلك تخلص أردوغان من أوجه القصور والأخطاء التي كانت تشوب النظام.
استوفت هيئة المخابرات التركية أنشطتها عقب محاولة الانقلاب تحت شعار “نحن خُدام الأمة التركية”، وكانت أكثر نشاطًا من ذي قبل، فقد جلبت 80 مسؤولًا وعنصرًا من جماعة غولن من 18 دولة حول العالم موزعة بين أوروبا وإفريقيا وآسيا، حتى إنها لعبت دورًا محوريًا في مجموعة من القضايا المفصلية مثل عمليات مكافحة التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها حزب العمل الكردستاني “بي كا كا” في شمال العراق، إذ نفذت تركيا منذ عام 2015 هجمات فاعلة ضد معسكرات ومواقع الحزب الإرهابي واعتقلت أكثر من 100 شخصية من قياداته وعناصره البارزين، كما قضت على أكثر من 15 ألف إرهابي من التابعين للتنظيم في تركيا وشمال العراق وسوريا، ومن أبرز تلك العمليات التي رتبها تقرير نشر على موقع الجزيرة، كالتالي:
-
جلب قياديين اثنين من جماعة غولن من باكستان وإندونيسيا في أكتوبر/تشرين الأول 2017.
-
توقيف رجل الأعمال ممدوح تشيكماز الذي ينتمي لجماعة غولن في السودان، وإحضاره إلى تركيا بعد استجوابه هناك، في نوفمبر/تشرين الثاني 2017.
-
إحضار 6 من أعضاء جماعة غولن من كوسوفو بالتعاون مع أجهزة الأمن المحلية في مارس/آذار 2018، وأدت تلك العملية إلى اندلاع أزمة بين رئيس وزراء كوسوفو ووزير الداخلية ورئيس جهاز الاستخبارات من جهة أخرى.
-
إحضار 3 من مسؤولي الجماعة من الغابون في أبريل/نيسان 2018.
-
جلب قيادي بالجماعة من باكو عاصمة أذربيجان، وآخر من أوكرانيا بعده بأيام، في يوليو/تموز 2018.
-
استهداف وقتل زكي شنجالي، عضو المجلس التنفيذي لـ”اتحاد مجتمعات كردستان”، ومسؤول سنجار في حزب العمال الكردستاني، بقصف سيارته من الجو، في عملية مشتركة بين جهاز الاستخبارات والجيش التركي، في أغسطس/آب 2018.
-
اعتقال مخطط تفجير الريحانية الذي ذهب ضحيته 53 مواطنًا تركيًا وسوريًا عام 2013، يوسف نازك في اللاذقية وإحضاره إلى تركيا لمحاكمته في سبتمبر/أيلول 2018.
-
اعتقال 9 من منسوبي وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا، بتهمة الاشتراك في قتل ضابطين تركيين خلال عملية غصن الزيتون، في سبتمبر/أيلول 2018.
أحرزت وكالة الاستخبارات الوطنية نجاحًا إضافيًا عام 2018، في تحقيقات مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي بقنصلية بلاده في إسطنبول، إذ حازت المخابرات الوطنية تسجيلات عن دور فريق القتل الذي وصل من المملكة السعودية لتنفيذ هذه الجريمة، الأمر الذي أثار إعجاب أردوغان مما دفعه للقول بأن أداء الهيئة كان “رائعًا”، وجعل بلاده “تشعر بالفخر على المستوى الدولي”، فقد كان مسؤولو الاستخبارات التركية يستمعون لما يحدث داخل القنصلية دون علم السعوديين بأن تركيا تملك أكثر الأدلة إدانة لها على عملية اغتيال خاشقجي، عدا عن أسلوبها التدريجي والاحترافي في كشف الجريمة، بما لا يدع مجالًا للشك أو التهرب من الرأي العام الدولي.
تصدرت وكالة الاستخبارات الوطنية المشهد التركي نتيجة لتلك الجهود والتطورات التي أدخلها أردوغان على جهاز الاستخبارات الذي أصبح أحد أذرع الجمهورية التركية القوية، وبطبيعة الحال، لا يمكننا الثناء على إنجازات الهيئة دون التعمق قليلًا في سيرة رئيسها هاكان فيدان، على اعتبار أنه أحد أهم الأسماء التي تسببت في إحداث نقلة نوعية وفريدة في تاريخ المخابرات التركية.
هاكان فيدان.. دعامة أساسية في النظام التركي
حظي هاكان فيدان بعدة ألقاب مختلفة التصقت باسمه وتبدلت بحسب كل دور لعبه على الساحة السياسية، والأكثر شيوعًا “الثعلب” و”الجندي المجهول” و”اليد الضاربة” و”السكين”، وفي أحيان أخرى وصفته وسائل الإعلام المحلية والإقليمية بـ”كاتم أسرار أردوغان”، وشبهته بالصندوق الذي لا يعرف أحد ماذا بداخله، ولكن رغم ملامح الهدوء والرصانة التي تبدو على فيدان، فإن قرارته وتعاملاته المدروسة مع أكثر المنعطفات السياسية حدةً وأهميةً، أزالت الكثير من أغطية الغموض عن هذا الاسم الذي قاد العديد من الملفات الثقيلة التي حددت وغيرت مجريات اللعبة السياسية في تركيا عدة مرات.
ولد هاكان عام 1968 بالعاصمة التركية أنقرة، درس في الأكاديمية الحربية البرية، وتخرج عام 1986، ثم حصل على البكالوريوس من جامعة ميريلاند في العلوم السياسية والإدارة خلال مهمة له بالولايات المتحدة الأمريكية، ثم حصل عام 1999 على درجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة بيلكنت، وكانت أطروحته عن نظام الاستخبارات التركي والأمريكي والبريطاني، وألقى الضوء على حاجة تركيا إلى شبكة استخبارية خارجية قوية، وفي نفس الجامعة السابقة، نال الدكتوراه عام 2006، وتابع خطواته الأكاديمية والتعليمية في عدد من المؤسسات والمعاهد مثل الأمم المتحدة لبحوث نزع السلاح وفي الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
برز اسم هاكان في عدد من الملفات أبرزها إدارة الملف السوري وقيادة محادثات السلام مع حزب العمال الكردستاني وتطهير أجهزة الدولة من أتباع فتح الله غولن، إضافة إلى قطع أنشطة الموساد الإسرائيلي في تركيا
بدأت مسيرة فيدان المهنية كرقيب في القوات المسلحة التركية، ولاحقًا عمل فني حواسيب داخل القوات البرية التركية، ثم شغل منصب مستشار اقتصادي وسياسي في سفارة تركيا بأستراليا وترأس وكالة التنمية والتنسيق التركية (تيكا) عام 2003، ومن خلال استغلال إمكانيات الوكالة، نجح فيدان في جعل تركيا قوة إقليمية في بعض دول البلقان وإفريقيا وآسيا الوسطى، وبعد ذلك عمل مستشارًا لأحمد داود أوغلو خلال عمله وزيرًا للخارجية.
فيما بعد، عُين عام 2007 نائب لمستشار رئيس الوزراء لشؤون الأمن الدولي والسياسة الخارجية، وفي العام ذاته، وقع الاختيار عليه كعضو بالمجلس الإداري للوكالة الدولية للطاقة الذرية، ثم اختير عام 2009 نائب لرئيس الاستخبارات التركية إيمره انير، وحين تقاعد الأخير عُين فيدان وكيل للجهاز عام 2010 وعمره آنذاك 42 عامًا، كأصغر من يتولى هذا المنصب، وعام 2018 تم ترقيته إلى منصب الرئيس.
برز اسم فيدان في عدد من القضايا الداخلية والإقليمية، أبرزها إدارة الملف السوري وقيادة محادثات السلام مع حزب العمال الكردستاني وتطهير أجهزة الدولة من أتباع فتح الله غولن، إضافة إلى قطع أنشطة الموساد الإسرائيلي في تركيا.
بشأن الجانب الأخير، ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية عام 2012 أن تعيين فدان كرئيس في الاستخبارات التركية أثار استياء “إسرائيل” والولايات المتحدة الأمريكية، بسبب موقفه المعروف من التعاون مع الموساد الإسرائيلي الذي بدأت العلاقات معه منذ عام 1958 وتعززت الصلة في بداية التسعينيات حتى اتفق الطرفان على إمكانية تحرك عناصر من الموساد بحرية على الأراضي التركية.
لم يستمر هذا الوضع على حاله، مع مجيء فيدان الذي عارض هذا النوع من العلاقات، ما جعل وجوده في رئاسة المخابرات التركية أمرًا مزعجًا بالنسبة للمسؤولين الإسرائيلين الذين رأوا بأن فيدان يعرقل أنشطتهم ويكشف خططهم، فبحسب الصحيفة، يتهم الاحتلال الإسرائيلي فيدان بإعطاء “معلومات سرية إلى الاستخبارات الإيرانية، عن شبكة تجسس إسرائيلية تعمل داخل إيران، مما أدى إلى تصفية الإيرانيين هذه الشبكة بالكامل، موجهة بذلك ضربة قوية للعمل الاستخباراتي الإسرائيلي في إيران”.
سفير الولايات المتحدة الأمريكية في تركيا جيمس جيفري: فيدان هو وجه الشرق الأوسط الجديد، وعلينا أن نعمل معه، لأنه يستطيع إنهاء المهام
تزامن ذلك مع تعليق من وزير الجيش الإسرائيلي آنذاك، إيهود أولمرت، الذي قال: “نخشى من أن ينقل رئيس المخابرات التركي الجديد المعلومات لإيران، فهو يعرف الكثير عن أسرارنا، وفكرة أنه من الممكن أن يطلع الإيرانيون على هذه الأسرار أمر مقلق”، عدا عن أن فيدان أدار ظهره لـ”إسرائيل” في هذا الملف الإستراتيجي، إلا أنه أيضًا أثار غضبها بسبب تأسيسه فكرة “أسطول الحرية” وتنظيمه تلك الحملة التي حاولت كسر الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة، من خلال هذه الحادثة أعلن فيدان بأنه لا يكتفي فقط بقطع الصلة مع “إسرائيل”، بل سيحاربها أيضًا في ملف القضية الفلسطينية، الأمر الذي ساعد بشكل أساسي في خلق مكانة خاصة لتركيا لدى الشعوب العربية.
ظهر فيدان أيضًا لأول مرة أمام الصحفيين في أحد المؤتمرات الصحفية التي عقدها رئيس الوزراء السابق داود أوغلو للرد على الاعتداءات الإسرئيلية على المسجد الأقصى، كجزء من محاولاته تصدير نفسه كأحد داعمي القضية الفلسطينية.
أيقن عدد من المسؤولين، انطلاقًا من هذه المواقف الصريحة، بأن فيدان أحد الأرقام الصعبة في الحكومة التركية، إذ قال سفير الولايات المتحدة الأمريكية في تركيا والعراق، جيمس جيفري: “فيدان هو وجه الشرق الأوسط الجديد، وعلينا أن نعمل معه، لأنه يستطيع إنهاء المهام. لكن لا ينبغي افتراض أنه الصديق الساذج للولايات المتحدة، لأنه ليس كذلك”، بينما وصفه الخبير في شؤون الاستخبارات إيمري أوسلو، بأنه “أقوى كثيرًا من أي وزير، بل أقوى من الرئيس عبد الله غول نفسه”، آنذاك.
أكثر الملفات السياسية حساسيةً
واحدة من الأحداث التي ذاع فيها اسم فيدان كانت في تاريخ 7 من فبراير/شباط 2012، عندما استدعي للتحقيق في تهم متعددة، منها التفاوض مع أعداء الوطن وتجاوز صلاحيته، وذلك نتيجة لتسريب لقاء قديم يعود لعام 2009 (قبل توليه رئاسة الاستخبارات عام 2010) يجمع بين فيدان وبعض مساعديه مع حزب العمال الكردستاني وزعيمه عبد الله أوجلان، ضمن محادثات سرية في العاصمة النرويجية أوسلو، ما أثار استغراب وسخط بعض الجهات الحقوقية والإعلامية التي اعتبرت هذه المقابلة انتهاكًا صارخًا.
خلقت هذه التسريبات أزمة سياسية داخلية في تركيا، ولكن سمومها توقفت مع تأكيد أردوغان رفضه لمحاكمة فيدان واستهدافه بهذا الشكل الذي يهدف بالأساس إلى النيل منه وإسقاطه عن قمة الحكم، لا سيما أن ذلك اللقاء تم بأمر رئيس الوزراء وتمهيدًا لعملية السلام الكردية في البلاد، ولذلك طرح حزب العدالة والتنمية مشروعًا ينص على تبرئة مسؤولي أجهزة الاستخبارات الذين اتهمهم القضاء بتجاوز صلاحياتهم، كما أقر القانون منع التحقيق مع رئيس الاستخبارات إلا بموافقة رئيس الوزراء، وبذلك أعطى أردوغان فيدان الحصانة القانونية، كما منحه فرصة إعادة الثقة الشعبية به عندما سلمه ملف المفاوضات مع التنظيم، ومنذ ذاك الحين، بات فيدان يُعرف باسم “كاتم الأسرار”، ففي مقابلة صحفية وصفه أردوغان قائلًا: “حارس بلدي السري، هو الحارس السري للدولة”، وذكر أنه “بيروقراطي جدًا ومدرب تدريبًا جيدًا”.
أردوغان يرى في بقاء فيدان في الجهاز أمرًا ضروريًا للحفاظ على الاستقرار في البلاد، وخاصةً مع توليه أكثر الملفات محورية وحساسية في السياسة التركية
استلم فيدان مفتاح محادثات السلام مع أوجولان عام 2013، وعلى إثر الجهود المبذولة، توصلت الحكومة التركية إلى اتفاق ينص على وقف إطلاق النار بين الجانبين ورحيل العناصر الكردية المسلحة من تركيا، لإنهاء الصراع الذي أودى بحياة 40 ألف شخص في 3 عقود وعرقل مشاريع التنمية في جنوب شرق تركيا، وذلك بعد أشهر طويلة من التخطيط والمفاوضات التي أجرتها وكالة الاستخبارات مع زعيم الحزب في أثناء فترة اعتقاله في جزيرة إيمرالي الواقعة على بحر مرمرة. أضاف هذا الاتفاق إلى سجل فيدان إنجازًا آخر، فلم يعد من الممكن الحديث عن هذه المرحلة التاريخية والمحورية دون ذكر اسم فيدان.
اتخذ فيدان لنفسه مساحة كافية من الساحة السياسية في تركيا، ولكن في فبراير/شباط 2015 استيقظت البلاد على مفاجأة استقالة فيدان من منصبه وهو في ذروة نشاطه وقوته بغرض الترشح للانتخابات البرلمانية، ولكن أردوغان الذي يثق بكفاءة فيدان في إدارة الجهاز بقوة و”اقتدار”، رأى أن بقاء فيدان في الجهاز أمر ضروري للحفاظ على الاستقرار في البلاد، وخاصةً مع توليه أكثر الملفات محورية وحساسية في السياسة التركية، وهي الملفات التي لم تغلق بعد بشكل كامل، إذ كانت حينها الحرب مع تابعي تنظيم غولن مستمرة، كما لم تتم عملية السلام كاملًا مع حزب العمال الكردستاني وبعد إصرار أردوغان الشديد على حفاظ فيدان على منصبه في جهاز المخابرات، عاد فيدان خلال شهر تقريبًا إلى رئاسة الجهاز.
كل ما سبق صنع من فيدان شخصًا سياسيًا ثقيلًا، تُصدّره الحكومة التركية في الواجهة دومًا، ولا تستبعده من الكواليس والغرف المغلقة المليئة بالأسرار والقرارات المصيرية التي تحسم مواقف البلاد وتوجهاتها في أكثر الملفات محورية، ومع التطورات الأخيرة التي أعلنتها الحكومة، فمن المتوقع أن تزداد كفاءة الجهاز في اقتلاع السموم التي أقلقت استقرار البلاد في السنوات الماضية، فضلًا عن توفير أغطية الحماية اللازمة لردع أي تهديدات محتملة.