عطاء كبير وإرادة حديدية كانا مصدر إلهام حمد (17 عامًا) الذي لازم ساحة التحرير (ملتقى المحتجين في بغداد) منذ الـ25 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فعمل مسعفًا للمتظاهرين المصابين في الساحة، ثم بعد ذلك حلاقًا داخل خيمته الصغيرة، ولم يكن حمد في ساحة التحرير يكافح الظلم وحده، بقدر ما كان يكافح أخطر أمراض العصر، إذ كان هذا المناضل مصابًا بسرطان الدم!
حمد يروي لـ”نون بوست” معاناة أقرانه من مصابي السرطان، فلا تزال المشاهد المأساوية داخل المستشفيات الحكومية نتيجة الإهمال والفساد عالقة في ذهنه.
بألم وحسرة يقول حمد: “أنا مصدوم من الواقع الطبي، كل يوم يموت مريض بالسرطان بسبب ارتفاع أسعار العلاج، كثير من المصابين لا يمتلكون قوت العيش، فكيف لهم بشراء علاج باهظ الثمن، بعض المصابين لا يستطيعون تعاطي العلاج أكثر من مرة واحدة من أصل أربع مرات يشترط أن يتعاطى فيها العلاج شهريًا، بسبب عدم امتلاكهم ثمنه”، ويضيف “شاهدت أشخاصًا يتناولون جرعات الكيمياوي في أروقة المستشفيات، ويفترشون الأرض في أروقة المستشفى قرب المصاعد، لا في غرف مخصصة للمرضى! أليست هذه جريمة بحق مرضى السرطان الذين يجب على الحكومة توفير بيئة نظيفة ونفسية مناسبة لهم”.
حمد القادم من محافظة ديالى إلى بغداد ترك الدراسة بسبب علاجه في العاصمة، ويطالب بوطن تكون الإنسانية أولوياته، ويرفض الحديث عن مطالب شخصية، لكن يريد توفير علاج لمرضى السرطان في العراق، وينظر إلى الاحتجاجات ومستقبلها بأمل وشغف.
قبل أربع سنوات جرى تشخيص حمد بمرض السرطان، يقول إن الشهر الأول شكَّل صدمة له، بدأ الأمر بألم في المعدة ثم بعد التحاليل الطبية اكتشف أنه مصاب بالمرض، يصف حاله في ذلك اليوم بأنه “رأى فيه العجب”!
حمد أمام خيمته بساحة التحرير
“مؤسسة حمد”
يحلم حمد بمساعدة مرضى السرطان عبر تأسيس مؤسسة “حمد الصحية”، وهو هدف يسعى لتحقيقه لانتشال أقرانه المرضى من الإهمال الحكومي، مخاطبًا إياهم: “أنتم أقوى من أي شخص، أنتم المحاربون الحقيقيون، نحن أقوياء، ولهذا اختارنا الله لهذا المرض”.
يرافق حمد في خيمته بساحة التحرير ريسان وهو أحد أقربائه، يقول إنه علمه الحلاقة وساعده على إعطاء محاضرات لطلبة المدارس بشأن الوقاية من الأمراض بصورة عامة والسرطان بصورة خاصة، كجزء من مهام المؤسسة التي يحلم حمد بتأسيسها.
يقول ريسان في حديثه لـ”نون بوست”: “في أحد الأيام جاء مدير مدرسة إلى محل الحلاقة الذي يعمل فيه حمد، فطلبت منه أن يسمح له بإعطاء درس أسبوعي لطلبة المرحلة الابتدائية، ليثقف الطلبة بإرشادات صحية، فوافق المدير وبدأ حمد بإعطاء درس أسبوعي للطلبة، استمر بذلك، وكان بالنسبة لهم شيئًا مهمًا”.
ملهم المتظاهرين
قوة وعزيمة حمد باتت تلهم المتظاهرين في ساحة التحرير، إذ لم يمنعه المرض من الاحتجاج والمطالبة بحقوق العراقيين، في رسالة أخرى خطت بحبر الإصرار والتحدي.
علاء حسين (37 عامًا) أحد مرضى السرطان أيضًا، في خيمة حمد بساحة التحرير يتحدث عن الواقع المأساوي الذي يعيشه أقرانه المرضى وعن حجم الفساد في وزارة الصحة.
يقول حسين لـ”نون بوست”: “خرج مع العديد من المصابين بمرض السرطان في احتجاجات سابقة على مدى السنوات الماضية، لكن من دون استجابة حكومية، إنهم لا يتعاملون معنا كبشر، نقف في طوابير طويلة لتسلّم العلاج، وكذلك في إجراء التحاليل، نحن نعيش مأساة حقيقة في هذا البلد”، ويضيف “أنا اليوم محتج على الحكومة منذ انطلاق الاحتجاجات في بداية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ولن أعود حتى تحقيق المطالب، الجهات الصحية تتعامل معنا كأرقام وتتستر على العدد الحقيقي للمصابين، لأنه عدد كبير جدًا جدًا”.
ويستكمل حسين حديثه بألم قائلًا: “عند الذهاب إلى المشافي الحكومية نتمنى هناك الموت، إنهم لا يتعاملون معنا برفق، يحاولون إذلالنا، في غرفة صغيرة جدًا يوجد مئات المصابين، وما نحتاج إليه هو الدافع المعنوي، الوضع الصحي هناك قصص مآسٍ حقيقية، والجهات الصحية لا تعير لأي مريض أدنى اهتمام”.
إحدى اللافتات المعلقة داخل خيمة “حمد” محارب السرطان
أرقام صادمة لعدد المصابين
ارتفاع لافت ومريب لعدد المصابين في السرطان بالعراق، إذ تكشف تقارير رسمية أن حالات السرطان ارتفعت بين عامي 1991 و2016، حيث كانت الإصابات 5.720 وبمعدل 31.05% عام 1991 في حين ارتفع عدد الإصابات لتصل إلى 25.556 وبمعدل 67.4% عام 2016.
تتصدر بغداد المحافظات الأكثر إصابةً بالسرطان، فيما تشير دراسات بحثية صادرة عن البرلمان العراقي إلى أن سرطان الرئة أكثر أنواع الأورام شيوعًا بين المصابين والمسبب للوفاة، وخاصة في فئة الذكور، أما الإناث فإن سرطان الثدي الأكثر شيوعًا والمسبب للوفاة بينهن وبمعدلات مرتفعة جدًا.
تعزو الدراسة الارتفاع المريب للإصابات إلى الأسلحة المستخدمة في الحروب التي شهدها العراق وما رافقها من إشعاعات نووية وكيمياوية سامة.
لفرط ما عانى حمد من مرضه، فهو يشبّه الحكومة بالسرطان الذي يعانيه، يقول: “إنها خلايا سرطانية يجب استئصالها، وبقاؤها سوف يتسبب في موت هذا الشعب، تنهب خيرات البلد، وإذا لم نعالجها فسوف تقضي علينا جميعًا”.
يزور المتظاهرون من جميع المحافظات العراقية خيمة حمد محارب السرطان، وهو بابتسامته البسيطة التي تبعث الأمل يعبر عن فرحه بالأهداف التي حققتها الاحتجاجات الشعبية في العراق. يقول: “الجميع يهتف للوطن ولا مكان لغيره داخل ساحة التحرير”.