يُعد تبوؤ أحمد داود أوغلو منصب رئيس الوزراء في تركيا تتويجا لصعوده السياسي وارتقائه سلم المناصب الحكومية في العاصمة أنقرة. وبينما يعد الصعود السياسي لشخص آت من خلفية أكاديمية ومنخرط في الحياة التعليمية بعمق كأستاذ جامعي؛ أمرا غير مألوف بحد ذاته، إلا أن وصوله لهذه الدرجة من الأهمية في الدولة يعد أمرا غير مسبوق ليس في تركيا فحسب بل في العالم.
وإذا حاولنا أن نبحث عن حالات مشابهة، فإني لا أجد نظيرا سوى هنري كيسنجر، ورغم أن هذا الأخير قد لعب دورا محوريا كمهندس للسياسية الخارجية الأميركية في عصر كانت فيه الولايات المتحدة قوة عظمى، فإنه لم يتبوأ منصبا أعلى من وزير للخارجية.
بدأت مسيرة أوغلو مع الحكومة عام 2002 كمستشار أعلى لرئيس الوزراء، وسرعان ما لوحظت بصماته بوضوح على ثلاثة محاور مهمة من السياسة الخارجية التركية.
رسخ داود أوغلو أهمية التكيف مع الوضع الإقليمي الجديد في فترة ما بعد نهاية الحرب الباردة، وعمل على ترسيخ مفهوم استقلالية القرار التركي وأن الوقت قد أصبح ملائما لتصبح تركيا لاعبا مستقلا في الشرق الأوسط دون الحاجة إلى الولايات المتحدة، كما كان الحال أيام الحرب الباردة.
إضافة لكل ذلك، فقد أصبح داود أوغلو وجه تركيا في أوروبا، وأخذ على عاتقه تعبيد الطريق لبلاده للانضمام للاتحاد الأوروبي وفهم أهمية تلبية “معايير كوبنهاغن” التي يتم بموجبها تحديد أهلية البلاد التي تطلب الانضمام للاتحاد الأوروبي. ومن هذا المنطلق استخدم داود أوغلو مهمة تلبية تلك المعايير في رسم خارطة طريق للإصلاحات الداخلية المرغوبة في تركيا.
كان لذلك التوجه أهمية قصوى في السنين الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية عندما كانت العلاقات مع الجيش يشوبها التوتر، فقد منح التحرك في ذلك الاتجاه قيادة رئيس الوزراء السابق رجب طيب أردوغان أسباب المضي قدما في تقوية قبضة السلطات المدنية في البلاد، حيث إن عسكر تركيا يتوقون ويرغبون في الانضمام للاتحاد الأوروبي بقدر توق ورغبة حزب العدالة والتنمية لتحقيق ذلك الهدف.
ونتيجة لذلك تحققت نتائج مبهرة تتمثل في إزاحة الجيش عن المشهد السياسي في تركيا بعد أن كان في الواجهة لعقود طويلة، واعتبر ذلك النجاح الباهر خطوة ذات أهمية كبيرة في رفع مستوى التجربة الديمقراطية في تركيا. إلا أن تلك النجاحات لم تؤت أكلها في بروكسل حيث مقر مفوضية الاتحاد الأوروبي، وذلك يرجع إلى وجود حاجز نفسي كبير لدى الأوروبيين يمنعهم من القبول بدولة مسلمة في اتحادهم، بغض النظر عن مدى تلبيتها لـ”معايير كوبنهاغن”.
وربما يجدر هنا القول إن قوى المعارضة العلمانية التركية لم تعترف قط بفضل أردوغان في ذلك الإنجاز (إزاحة الجيش عن المشهد السياسي)، والذي قد يكون أكبر إنجازاته في تطوير الحياة السياسية في البلاد.
وبالعودة إلى داود أوغلو، فقد عرف منذ أيامه الأولى في الحكومة أهمية التوصل إلى حل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني السوري، ودعا لدور تركي فاعل في هذا المسار. أما مساعيه للاعتراف بحماس ككيان سياسي شرعي بعد فوزها في انتخابات عام 2006 في غزة، فلم تلاق صدى إيجابيا في واشنطن وتل أبيب، ولو فعلت لكان ذلك كفيلا بتجنيب المنطقة الكثير من المعاناة.
لقد لعبت تركيا باستمرار دورا نبيلا في تحدي حصار إسرائيل لغزة وإنهاء سياسة العقاب الجماعي لسكان القطاع ومساعدتهم على الخروج من محنتهم. لم يرُق التحرك التركي لمعظم مراكز صنع القرار في الغرب ولبعض العواصم العربية كذلك، إلا أن تركيا وقادتها نجحوا بذلك في الفوز بتأييد الشارع العربي والرأي العام في بقاع كثيرة من العالم. لقد ترجمت تلك النتائج نظرية داود أوغلو بضرورة أن تبنى السياسة الخارجية على المبادئ وتحقيق المصالح بشكل ذكي.
أما البعد الأكثر شهرة وإثارة لسياسات داود أوغلو فهو اغتنامه لفرص التواصل مع العالم العربي والمنطقة، فعلى عكس المحاولات الفاشلة في تسعينيات القرن الماضي لإدخال جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق في آسيا الوسطى في الجلباب التركي، فإن حزب العدالة والتنمية نجح في الانخراط في موجة التوسع وازدهار الاستثمار والتغيرات الثقافية في المنطقة، وقد تم تنفيذ ذلك ضمن سياسة داود أوغلو التي عرفت باسم “صفر مشاكل” فيما يخص الخلافات مع دول الجوار (أي غلق جميع الملفات العالقة وحلها حلا يرضي الجميع)، وهي سياسة اتبعها منذ توليه حقيبة الخارجية عام 2009.
في البداية، بدت هذه السياسة كرمية سديدة وجهد ملفت لتحقيق طموحات تركيا باستخدام “القوة الناعمة للجغرافيا السياسية”، وهو أسلوب يعود بمنافع عديدة ويجتذب الآخرين ولا يتطلب خبرة عسكرية ولا استعراض نفوذ القوة.
عرفت منطقة الشرق الأوسط بأوضاع سياسية متسلطة وغير مرنة، إلا أن التواصل البناء المبني على المصالح المشتركة أثبت أن صوته أعلى من أصوات العدائية والتوتر والانعزال التي سادت المنطقة لعقود من الزمن. لذلك كان اندلاع ثورات الربيع مفاجأة صادمة للأتراك والعالم أجمع. لقد خلقت الثورات حالة من الفوضى في المنطقة، ولكن في نفس الوقت زرعت الأمل في غد أفضل.
رحب داود أوغلو كأي رجل دولة آخر في العالم بثورة العرب ضد التسلط واعتبرها ظاهرة مرحبا بها، وأشاد خصوصا بما حدث في مصر عام 2011 وإزاحة الرئيس الأسبق حسني مبارك ونظامه بوسائل سلمية إلى حد بعيد. لقد أثار إعجابه الشباب العربي بشكل خاص كقوة ثورية واعية ومدركة للتغيرات المرحلية على مرّ التاريخ.
إلا أن التفاؤل بالخير لم يدم طويلا، فالأحداث في ليبيا وسوريا والبحرين واليمن أثبتت بوضوح أن الانتقال السلمي والسلس للسلطة في مصر وتونس هو أمر بعيد المنال. وسرعان ما توجب على تركيا اختيار الجانب الذي ستصطف معه، إما الثورة ضد تسلط النخبة الساعية للتشبث بالسلطة أو الاستمرار بعلاقات هادئة مع نظم الدول المجاورة دون التدخل في العلاقة بين تلك النظم ومواطنيها.
وعلى هذا الأساس، أضحت سوريا العقدة الكبرى، خاصة أنها كانت من أول الدول التي طبقت معها سياسة “صفر مشاكل”، إلا أن هذا الخيار لم يعد ممكنا بعد أن قام النظام السوري بارتكاب فظائع واحدة تلو الأخرى.
قام داود أوغلو بإعادة صياغة نظريته بشكل ذكي ورشيق بما يتعلق بسوريا، وأوضح أن النظام الذي يقوم بقتل مواطنيه بالجملة لا يمكن أن تتهادن تركيا معه، وأنها ستصطف مع الشعب وليس مع الحكومة التي فقدت شرعيتها نتيجة لأفعالها. وهكذا أصبحت نظريته تفهم بشكل أوسع على أنها “صفر مشاكل مع الشعوب”.
وبنفس الأفكار قدمت تركيا مباركتها لتدخل حلف شمال الأطلسي في ليبيا، بعد أن بدا نظام العقيد الليبي السابق معمر القذافي منخرطا في نهج يقرب لنهج الإبادة الجماعية لوأد الثورة التي قامت ضده.
أما فيما يتعلق بمصر، فالموقف التركي كان مختلفا عن عموم المنطقة، حيث رفضت تركيا مباركة الانقلاب العسكري ضد الرئيس المصري السابق محمد مرسي ولم يوافقها في ذلك الموقف سوى قطر.
تتلخص نظرية داود أوغلو في السياسة الخارجية في مزج المبادئ بالبراغماتية، أي اتخاذ الخيارات الصحيحة من حيث المبادئ دون أن يؤثر ذلك على العمل الدؤوب لتحقيق المصلحة العليا للبلاد (تركيا)، بما في ذلك سعيها لاعتراف عالمي بها كلاعب إستراتيجي مسؤول.
وقد تجلى نجاح نظريات داود أوغلو في هذا المجال في عدة بقاع مثل البلقان وشبه جزيرة القرم وأرمينيا وميانمار وأميركا اللاتينية، حيث دأبت الدبلوماسية التركية على السعي لحل الخلافات وتحقيق أهداف الشعوب ومن خلال ذلك تعمل على إثبات أن تركيا لاعب دولي بنّاء وشريك تجاري واستثماري مهم.
ولعل من أبرز نجاحات السياسة الخارجية التركية بقيادة داود أوغلو: التدخل في الصومال، عندما تركها العالم كله باعتبارها حالة ميؤوسا منها، إلا أن تركيا نزلت بكامل ثقلها فارتفعت أسهمها نتيجة لذلك في كافة أرجاء القارة الأفريقية.
من جهة أخرى، يتجلى نجاح الثنائي السياسي داود أوغلو/أردوغان في الصومال في انتخاب تركيا كعضو غير دائم في مجلس الأمن، بينما أضحت إسطنبول التركية المدينة المفضلة لعقد الاجتماعات الدولية متغلبة بذلك على إرث أوروبي في هذا المجال.
ورغم هذا السيل من النجاحات، فإن لسياسة داود أوغلو الخارجية إخفاقات أيضا، فهناك دول لم تستطع أن تهضم التقلبات المتسارعة التي عصفت بالشرق الأوسط في السنين الأخيرة. وربما اضطلاع داود أوغلو بملفات ليس لها حصر، كان السبب في تمدد نشاطاته أكثر من اللازم، وقد يكون هذا هو السبب في حدوث عدد من الإخفاقات نتيجة الخطوات غير المحسوبة.
وفي هذا الإطار، توجه انتقادات للسياسة الخارجية التركية ضمن تأييدها غير المتناهي للتغيرات السياسية في مصر وتونس واعتبارها تغيرات نهائية لا رجعة فيها، وأنها تصرفت وكأن تلك التغيرات سوف تجتاح باقي دول المنطقة. لقد أخفقت السياسة الخارجية التركية في إعطاء القوى السياسية المناوئة للتغيير في تلك البلدان حق قدرها، كما أنها أخفقت في تقدير مدى قوة الأنظمة الوراثية التي لا تعترف بالنظام الديمقراطي كخيار لتداول السلطة.
فالدور السعودي والإماراتي في استخدام نفوذهما المالي الهائل في دعم الانقلاب العسكري في مصر الذي نكّل بحركة الإخوان المسلمين تنكيلا دمويا، أدى إلى تغيرات في التوازنات السياسية في بلدان عدة في المنطقة.
وفي السياق ذاته، هناك أمور يصعب تحليلها بشكل صحيح وتثير التساؤلات حول السياسة الخارجية التركية، فرغم سعي الأتراك لترويج وترسيخ نظريتهم السياسية الجديدة، فقد انخرطوا مع الولايات المتحدة في عمليات غير مفهومة مثل مشاركتهم في التدخل العسكري الفاشل في أفغانستان وليبيا وبالطبع سوريا.
أما موافقة تركيا على نشر منظومات صاروخية دفاعية لحلف شمال الأطلسي على أراضيها والتي اعتبرتها روسيا تصرفا عدائيا، فهو أمر يثير الفضول والتساؤلات.
ومن خلال نظرة تقييمية لتلك الأحداث، يبدو أن تركيا بحاجة لإيلاء عناية أكبر لخياراتها في مجال الحفاظ على تحالفها المتين مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
إجمالا، فإن أحمد داود أوغلو كان وزيرا متميزا للخارجية. وكرئيس وزراء لتركيا قريبا، فهو على يقين من أنه سيضاعف النجاحات التي حققها في تركيا ما بعد أتاتورك. إن فكره السديد في صنع القرار السياسي ممزوجا بالتزامه بمبادئه كإنسان وكشخصية أكاديمية، يجعل منه طرازا نادرا من الساسة.
لطالما أبهرني داود أوغلو بإدراكه أن النجاح على الساحة الدولية يجب أن يستند إلى قوة مستمدة من سياسة داخلية ناجحة ينتج عنها جبهة داخلية ثابتة ومتماسكة، الأمر الذي يتطلب استقرارا سياسيا ونموا اقتصاديا وحماية لحقوق الإنسان والبيئة وخلق مناخ ديمقراطي عادل يحتوي الجميع.
وبفضل هذه المهارات الفريدة والرؤية الدولية الواضحة، يحق لتركيا أن تتطلع لمستقبل باهر بفضل هذه القيادة الجديدة.
المصدر: الجزيرة ترك