ترجمة وتحرير: نون بوست
اعتدتُ أن أعد التخطيط اليومي ليكون في أفضل مستوياته؛ ففي كل صباح، أضع قائمة المهام، وأخطط للجدول الزمني لحظة بلحظة. لم أكن بحاجة إلى تذكير بالمهمات؛ حيث تشمل قائماتي اليومية كل خطة من المقرر القيام بها بحيث لا يكون هناك مجال للوقت الضائع.
خلال الوقت غير المجدول، كان صوت مناجاتي الداخلي هو الأعلى، حيث كانت تراودني مشاعر مختلفة بالذنب والاضطراب، خلال الوقت الذي كنت فيه أكثر عرضة للإصابة بالنهم، وهي العادة التي وقع تحفيزها بالأساس أثناء اتباع نظام غذائي والتي كنت قد اعتمدتها كآلية للتخفيف من حدّة المشاعر السلبية. خلال ثغرة الوقت، تطفو على السطح تلك العواطف المضطربة. وعوضًا عن تعلم كيفية التغلب على عدم الشعور بالراحة، حاولتُ تجنب أي قسط بسيط من الراحة.
حاول التخفيف من الشعور بالذنب والقلق من خلال هذا التحول الصغير
بعد أكثر من عقد من الزمان، أستشعر هذا النمط بشكل متكرر خلال ممارستي العلاجية والتدريبية، وهي عملية الضغط ليكون الإنسان دائمًا “منتجًا”، والشعور بالذنب والقلق عندما لا يتصور المرء نفسه كذلك، والاعتماد على عادة سيئة لتخدير الشعور بالذنب والقلق، إذ يلجأ الجميع إلى الإفراط في الأكل، في إطار سعي معظمنا إلى إخماد المشاعر السلبية بهذه العادات.
غالبا ما يُسلّط الضغط باستمرار على المرء لكي يكون منتجا في خضم موجة محاضرات “ريادة الأعمال” والإشادة بمفهوم”الحلم الأمريكي”؛ بالنسبة لأولئك الذين يمكنهم ربط الأحداث ببعضها البعض وفهم الصلة بينها، فإنها عادة تنشأ في سن مبكرة على أساس أنها قيمة عائلية، سواء قِيلت مباشرة أو اكتُسبت من خلال نموذج يُرسّخه الآباء الذين غالبا ما اعتادوا القيام بالأمور بأنفسهم. كما تعتبر أيضا من بين الطرق التي نسعى من خلالها إلى الكمالية وإفساد الأوقات التي نحظى فيها بالفرح ونتواصل مع الآخرين ونثبت حضورنا في العالم.
بالنسبة إلي، كان تحديد قائمات المهام والسعي لأن “أكون دائما منتجا” ناجعا ثم توقف عن كونه ذلك. ظاهريا، بَدوتُ وكأني متفوق، بينما أشعر داخليا بالقلق الدائم. في البداية، كان هذا مُحبطا ومُربكا ولم أتمكن من رؤية منفذ ممكن. يبدو أنه لم يكن أمامي سوى مصيران، إما أن يُحكم على حياتي بأن تكون مليئة بالقلق والإرهاق الدائم، أو أن أقاوم ضغوطي الداخلية لكي أكون منتجا وأكظم الغيظ الناتج عن مناجاتي الداخلي ذات الحسّ النقدي.
ذات يوم، بعد فترة معمقة من التفكير الوجودي، أصبحت أرى أن الحياة التي تتسم بالإنتاجية لا تعني بالضرورة أنها حياة ذات معنى. في كل الأحوال، كنت دائما على دراية تامة بأنني إنسان فانِِ؛ وأدركت أن تركيزي المفرط على المستقبل كان يسرق مني إلى الأبد اللحظات المهمة التي من شأنها أن تمكنني من أن أكون فاعلا في حياتي الحاضرة. ولأنني كنت غير قادر على التخلص من القيمة التي تجذرت في نفسي بعمق لسنوات عدة؛ قررتُ أن أُجرب تغييرا بسيطا ولكنه قوي من حيث الإسهاب اللغوي، حيث غيرتُ هدفي من جعل وقتي “مثمرا” إلى جعله “ذا معنى”.
فكيف يمكنك أنت أيضا، القيام بهذا التحول؟ فكر أولا في ما تصنّفه ضمن قائمة “الوقت المثمر”. هل هو العمل؟ الدراسة ؟ ممارسة التمارين الرياضية؟ تطوير المهارات؟ مهام الأبوة والأمومة؟ أو الأعمال المنزلية؟ هل أدركت ذلك؟ بالأساس، وفي أي وقت لا تقوم فيه بأي من هذه الأشياء، هل تكون عرضة للذنب والقلق؟ إن التركيز على الإنتاجية يُقيّد شعورنا بأننا لا نسعى لتحقيق أهدافنا إلا إذا أكملنا أو أنتجنا أمرا ما.
في المقابل، فإن العيش ضمن قائمة الوقت “المثمر” يتيح لنا الحماية من الإصابة باضطراب السعي إلى الكمالية الذي يصيبنا بالقلق والشعور بالذنب. يشمل “الوقت الهادف” الأنشطة “الإنتاجية” المذكورة أعلاه، ولكنه يضم أيضا سُبل الاتصال والترفيه والراحة والنمو والوعي الذاتي والإبداع والحضور الذهني.
فيما يلي الأمثلة التالية:
تواصل اجتماعي أو عاطفي أو عائلي أو مهني
بما أننا كائنات اجتماعية تتوق إلى التواصل نحتاج إلى علاقة عاطفية وما إلى ذلك لتعزيز صحتنا العقلية بطريقة إيجابية. أما إذا كنت لا تزال غير متحمس لاعتبار أن الوقت الاجتماعي يعتبر حقا ذو مغزى، ينبغي أن تدرك أنّ علاقات التواصل تؤثر بلا شك على نجاح الفرد في الحياة المهنية.
الترفيه والمرح والسفر
حاول تخصيص وقت للتفكير في الذكريات الإيجابية في حياتك حتى الآن، تلك الأوقات الممتعة التي ستخبر أحفادك بها. ربما كانت تتميز هذه التجارب بلحظات شاركت فيها سعادتك بالكامل، وكنت تشعر فيها بالحماس أو حتى استمتعت بوقتك بمفردك. من المحتمل أن تكون هذه اللحظات تلك التي شعرت فيها بالسعادة والحيوية.
لسوء الحظ، يشعر الكثيرون منا بالضيق أثناء المناسبات التي يتخللها “المرح” و “اللهو”، حيث نشأنا على فكرة الحصول على المكافأة بعد إنهاء واجباتنا المدرسية أو أعمالنا المنزلية. ومع ذلك، فإن قائمات مهامنا لا حصر لها، وانتظار الانتهاء منها قبل البدء بالاستمتاع بوقتنا هو أسرع طريق للشعور بالخذلان والاكتئاب. ينبغي عليك أن تدرك القيمة الموجودة في لحظات المرح واللهو وتخصيص وقت للحصول عليها.
التفكير والتأمل والتعرف على ذواتنا
تعدُّ العلاقة الأطول في الحياة تلك التي ستحظى بها هي علاقتك مع ذاتك، فنحن مع ذواتنا منذ الولادة وحتى الموت. مع ذلك، ونظرًا لأننا نميل إلى استيعاب الأصوات المخزية لمقدمي الرعاية والأقران ووسائل الإعلام، لا يحب الكثيرون منا أنفسهم. من خلال أشكال الملاحظة والتأمل والاستقصاء الذاتي، يمكننا تعلم كيف نتخلف عن التعاطف الذاتي بدلاً من النقد الذاتي.
إليك ملاحظة تحذيرية، إن الكمال ليس حقيقياً، فالمطالبة بالطريق إلى القيمة الذاتية تتسم بالإنجازات والمظهر. ولكن في الحقيقة، هذا هو حقا الطريق إلى التحقق الخارجي، والذي يمنح القوة للخزي الأساسي الذي يُفكك تقديرنا لذاتنا. إنه يكرس فكرة أن قيمتك بقيمة إنجازك الأخير. في النهاية، يؤثر على علاقاتنا مع أنفسنا وتحقيقنا لأهدافنا، وتنمية علاقات دائمة مع أشخاص يحبوننا من أجل شخصنا، وليس من أجل سيرتنا الذاتية التي تبني ثقتنا بأنفسنا.
الراحة والعناية الذاتية
هل أحتاج فعلاً إلى الإشارة إلى دراسة أخرى للتعبير عن أهمية الراحة والعناية الذاتية؟ تستمر الأبحاث في تأكيد أن “وقت الراحة” يزيد من الإنتاجية والإبداع والتركيز وتجديد الطاقة والتواصل الاجتماعي والصحة العقلية والبدنية. تتمثل الراحة والعناية الذاتية في كيفية إعادة شحن النفس، وشفائها، ومنع الاستياء والإرهاق من جعلنا نعامل أنفسنا كعبيد.
أحلام اليقظة / التخيل
يتمثل التخيل في إنتاج فيلم من وحي خيالنا. إن للكثير منا تصور سلبي عن أحلام اليقظة أو التخيل لأننا واجهنا مشكلة في ذلك عندما كنا صغاراً، أو قيل لنا أنه يجب علينا “التوقف عن الحلم والبدء في التحقيق الفعلي” أو شيء من هذا القبيل. وبالفعل، هناك أوقات لا نتقدم فيها على سبيل المثال، ويدفعنا ذلك إلى الشعور بعدم الرضا عن واقعنا الحالي، أو يصرف انتباهنا عن موقف يكون من الأفضل أن نكون حاضرين فيه. ولكن أخذ استراحة من الواقع يمكن أن تكون وسيلة مجانية لكل من الترفيه وتحقيق الأهداف والأحلام.
وعي الوقت الراهن
قبل عدة سنوات، كنت في حلقة عمل حول الوعي التام مع بعض الزملاء الذين اعتبروا المفهوم جديدًا. عندما استخلصنا تجاربنا في نهاية الحلقة، همست إحدى النساء، في أواخر الستينيات من عمرها، بصوت خافت وهي تبكي، “لقد فقدت حياتي بأكملها، طوال هذا الوقت كنت أتطلع إلى الأمام ولم أتوقف أبدًا للاهتمام بالحياة”. أتذكر أنني شعرت بالحزن والارتياح في الوقت ذاته، مع العلم أنني كنت في العشرينات من عمري، كنت أقيم لحظات من الوجود داخل حياتي. كلما كنا على درجة أكبر من “الوعي”، لم نكن “أنفسنا”، وحين نكون “أنفسنا”، فإننا نولي اهتمامًا فعليًا باللحظة الراهنة، حيث نعيش هنا والآن.
الأخطاء والأحداث غير المرغوب فيها
على الرغم من أن العديد منا يعيشون حياتهم كما لو أنهم خبراء، فلا أحد منا يعرف حقيقة ما نفعله، إذ نطلع على الكتب والأفلام ووسائل التواصل الاجتماعي وأولياء الأمور والموجهين. ولكن في نهاية اليوم، يكون مسار حياة كل شخص فريد من نوعه. ولا مفر من الأمور اللاأخلاقية. لحسن الحظ، يعد التعلم بفضل التجربة من أكثر الاحتمالات التي من المرجح تطبيقها، لذلك إذا كنت قد تعلمت بطريقة صعبة، حتى بعد كل هذه القروض الطلابية، أو أنه من الصعب للغاية الحفاظ على علاقة بالكيمياء الجنسية وحدها، فالأخطاء هي فرص تَعلُم قوية للحصول على حياة أفضل وذو قيمة.
من المنطلق ذاته، إذا كنا نريد أن نكون أقل تفاعلًا وأكثر نشاطًا في إدارة أعمالنا، فنحن بحاجة إلى تعلم كيفية الاستجابة، بدلاً من التعامل مع مضايقات الحياة اليومية. إن الأحداث غير المرغوب فيها تؤدي إلى ظهور مشاعر صعبة، وتوفر ممارسة تأملية عضوية مستمرة.
مع ذلك، من خلال عرض الأحداث غير المرغوب فيها مع المشاعر غير المريحة كفرص للممارسة الذهنية والرحمة والتواصل، يمكننا حتى تفسير التجارب غير المرغوب فيها على أنها ذات معنى. وعلى الرغم من الكمال وثقافة عصر “السرعة” الذي تعيشه، فأنت لست آلة للإنتاج والعمل حتى تنهار أو تموت. أنت إنسان، مثله مثل الثدييات الأخرى، أسعد وأكثر صحة يقضي وقتًا في الراحة والتواصل واللعب.
ضع في اعتبارك أنه لا وجود لشخص يهمس قبل أنفاسه الأخيرة، “يا إلهي، أتمنى لو قضيت وقتًا أقل مع الأصدقاء والعائلة، وفي الاهتمام بمحيطي، وفهم ذاتي. بدلاً من ذلك، أتمنى أن أُبقي منزلي أكثر نظافة وأعمل لساعات أطول”. كما أخبرني صديق بوضوح ذات مرة، الحياة عبارة عن سلسلة من التجارب المتشابكة فيما بينها. في نهاية اليوم المثالي، يمكنك تحديد أي من هذه التجارب تعد ذات قيمة بالنسبة لك. لذا فكر في تحويل إدراكك للحظات القيمة من “الإنتاجية” إلى “ذات معنى”، وإذا كانت تجربتك في هذا المجال تشبه تجربتي، سوف تتمكن من التخلص من الكثير من مشاعر الذنب والقلق.
المصدر: فوربس