بعد مجموعته القصصية الأولى “فن التخلي“، يتحفنا عبد الله ناصر القاص السعودي بمجموعة قصصية رائعة أخرى، وهي “العالق في يوم أحد” الصادرة عن “دار التنوير”، يجمع المجموعتين، القصص القصيرة جدًا، شديدة التكثيف، كثيرة الأفكار، الأسئلة المطروحة، التفاصيل الصغيرة، التي تصنع منها قصصًا جميلة ومختلفة، وما وراء الجمل، السرد المحكم، واللغة التي تدعوك للانتباه أكثر لما يقال.
فن الدهشة
“أمروا بإعدام الأمل، فانطلق الحرس يتسابقون في القبض عليه”.
نحو 49 قصة قصيرة جدًا، يصنع عبد الله ناصر، مجموعةً قصصيةً يمكننا أن نعتبرها فن الدهشة أو كيف تكتب فنًا يدهش من يقرأه أو يسمعه أو يشاهده، فتنبهر به وتود أن تستزيد منه، رغبةً ألا ينقطع هذا الحبل الممدود لك من كتابةٍ جميلة، تخبرك أن القصة القصيرة ما زال لها زمنًا وكُتابًا، قادرين على صنع الدهشة مرة أخرى.
في مجموعته هنا “العالق في يوم أحد”، يؤكد عبد الله ناصر أنه ما زال هناك أوفياء لفن كتابة القصة القصيرة، ففي الحقيقة نادرًا ما نجد كاتبًا وفيًا للقصة بهذا الشكل أو بما صنعه عبد الله في قصصه في هذه المجموعة والمجموعة السابقة له.
قصيرة جدًا وجميلة جدًا
“فبعض الأبواب لا تطرق أكثر من مرةٍ واحدة”.
ربما بعض الأبواب لا تطرق أكثر من مرة بالفعل، لكن في هذه المجموعة، تطرق الأبواب مئات المرات، فمثل هذه الكتابة يعاد قراءتها أكثر من مرة، ولا تمل أبدًا.
عبد الله ناصر القاص والمترجم، قبل أن يكون كاتبًا، فهو قارئ مخيف، مثقف، عاشق للأدب وللكتابة بكل ما تحمله داخلها، مترجم يعرف كيف يوفق بين لغتين فيخرج لنا تحفةً جديدة، ويعي ما تمثله الكلمة، فهو قادر على صنع قصص مثيرة وجميلة، لا تتعدى الصفحة أو الصفحتين.
اختياره كذلك للعناوين مثير وجذاب، فهل يمكن أن يكون للتخلي فنٌ، كما في مجموعته الأولى؟ أو كيف تعلق في يوم الأحد؟
بجوار كونه قارئًا ومثقفًا له ثقله، فهو أيضًا كاتب يمتاز بخفة ظله وسرعة بديهته، وقصصه رغم أنها قصيرة جدًا، تود ألا تنتهي، فهي جميلة جدًا.
يشبّه عبد الله ناصر، القرن الحاليّ الذي نعيش فيه بالقرن النووي الواحد والعشرين، قرن مجنون، ممتلئ بالكوارث، متمنيًا لو بقينا مجرد كروموسومات منسية وسعيدة، على غرار ما تمناه الفيلسوف “سيوران”.
“لطالما استيقظ قبلها فقط ليتأملها وهي نائمة”.
ما خلف السطر
“كبر قليلًا فاكتظ فمه بعشرات الكلمات، ثم بالمئات ثم بالآلاف حتى بات يشبه مخيمات اللاجئين”.
في قصته الأولى هنا في هذه المجموعة المسماة “متواليات”، يناقش عبد الله ناصر، ما أصبحت عليه حياة الطبقة الساكنة في فيلل متشابهة في كل شيء، من طريقة البناء واللون وانتظامها في صفوف متتالية بأبوابها المتشابهة والساكنين فيها، المجتمع الذي نطلق عليه الآن “الكومبوند” الذي ينشد ساكنوه الحياة المثالية والابتعاد عن كل شيءٍ قبيح والعيش في عالم منفصل تمامًا، وبلغة وسرد ناصر، يصف لنا في صفحتين فقط أو أقل، كحال بقية القصص، إلى أي حد هذه الطبقة طريقة عيشها مرعبة.
على مدار القصص، يناقش عبد الله الكثير من الأسئلة العالقة داخلنا، لا نعرف كيف ننتزعها، نعثر لها على إجابة تسكنها ولو قليلًا، فهو يستحضر سؤالين مخيفين هما الذات والزمن، لا يبحث لهما عن إجابة ناهية، لكن طرحهما فقط يثير أسئلة أخرى ويترك قصصًا عظيمة في تكوينها وطريقة حكيها.
مع كل قصة نقرأها في هذه المجموعة، بعد كل سطرٍ، ربما نعيد قراءته ثانيةً ونتفكر فيه قليلًا، نجد أن خلف هذا السطر شيئًا آخر مختلفًا، يود أن يقفز بك لقصة أخرى جديدة.
“كانا مثل سائر الأزواج يتخاصمانِ على الأمور الصغيرة أكثر من الكبيرة، والخصام أمرٌ صحي بل ضرورةٌ حياتية”.
عبد الله ناصر
فن الكتابة المكثفة
“لم تنجبه الأمثال لكنها ربته صغيرًا فأحسنتْ تربيته، وحين يدعو لوالديهِ بالرحمة لا ينسى أن يدعو للأمثال أيضًا لأنها الأم التي لا تغضب، والأب الذي لا يضرب”.
مع تتابع القصص التي تزداد في كل مرة خيالًا وغرابة، حتى نصل لقصة يسميها المؤلف باسمه “عبد الله ناصر”، مقتحمًا النص ومتحدثًا عن نفسه بعض الشيء، جاعلًا منه نصًا واعيًا بذاته، يدور في سؤال من ضمن سؤالي المجموعة، وهو الذات، ومفهومًا، بجانب قصص أخرى تتناول نفس السؤال وهم: “التوائم” و”كيف تلعب ظلالنا الشطرنج” و”غيب” و”الآخر” و”ما تفعله أجسادنا أثناء النوم”، بجانب أن هذه القصص تدور عن سؤال واحد، فهي تبدو قريبة من بعضها بالنسبة لأماكنها في المجموعة، وهو ذكاء من المؤلف وقدرة على الربط بين القصص.
يحترف عبد الله ناصر، فن الكتابة المكثفة، يعرف كيف يصيغ قصةً من بضع كلماتٍ وجمل قصيرة، قصص شديدة الغرابة، كثيرة الأسئلة، شديدة التكثيف، في سردها ولغتها، فتمنح القارئ جرعة عالية من المتعة والاندهاش، فلا نجد كل يوم كاتبًا يعرف كيف يصيغ أفكاره وكلامه بهذا التكثيف.
القصة التي يسميها المؤلف باسمه، جعلتني أرى الكاتب متوحدًا مع نصه وما يكتبه، فلا تنفصل القصص عنه ولا هو ينفصل عنها، مما يؤكد ذاتية بعض النصوص التي يكتبها.
العالق في الزمن
“لا يزال عالقًا في الأحد، بينما انتقل العالم كله إلى يوم الإثنين. يخشى أكثر أن تختلط عليه الآحاد فلا يعود قادرًا على تمييز الأحد الذي يعقبه الإثنين، فتدوم الآحاد الملعونة أسبوعًا آخر”.
القصص التي تتناول سؤال الزمن ومفهومه، وهي: “العالق في يوم أحد” – عنوان المجموعة – و”المعجم” و”ساعات مفقودة” و”حتى ساعات دالي” و”قصة حب” و”السجينة” و”الصوت العجوز”، تناقش كل هذه القصص مفهوم الزمن، بكل ما يحمله داخله من رعبٍ وغرابة، وما سوف يحدث لو بقينا عالقين فيه؟
لدى عبد الله ناصر، مهارة كبيرة في صنع المتواليات القصصية، فداخل المجموعة هناك بعض المتواليات التي تؤكد مدى روعته، مثلًا هناك متتالية من ثلاث قصص، هم بالترتيب: “الأبوان” و”الجدتان” و”ألبوم العائلة”، أيضًا متتالية أخرى وهم: “الذي لا يستطيع الدخول” و”اللذان لا يستطيعان الخروج”.