منذ الصغر، تعلمنا في المدارس والمساجد، أن اليهودي ابن سبأ هو من أشعل الفتنة بين مسلمين من الرعيل الأول، تسببت، في نهاية المطاف، بمقتل سيدنا عثمان بن عفان، وأشعلت فتيل الصراعات بين الأجيال التالية من المسلمين إلى اليوم. وكأن جيل الصحابة الذي فتح الشرق والغرب، وهزم الروم والفرس، كان من السذاجة إلى حد استطاع فيه يهودي واحد أن يقلب دولة الخلافة الراشدة رأساً على عقب. ثم نتعلم في المدارس والجامعات أن يهود الدونمة كانوا وراء سقوط الخلافة العثمانية، وأن وعد بلفور سبب ضياع فلسطين، وأن أميركا وراء تفتيت العراق، وأن اسرائيل وراء انتكاسات الثورات العربية أيضاً، وأن الغرب والروس والكفار واليهود والشيوعيين هم دائما سبب تخلفنا وضعفنا وهزائمنا.
هذه سردياتنا للتاريخ. تنحو دائماً إلى البحث عن أسباب الهزيمة لدى الآخر الذي لا قدرة لنا على التأثير عليه. يتبناها النظام السياسي العربي الرسمي، لتبرير فشله في تحقيق الاستقرار والنمو في المجتمعات العربية، ويستبطنها خطباء المساجد، في كل يوم جمعة، في خطاب يدّعي الطهورية المطلقة والمظلومية التاريخية. يزرعها النظام التعليمي الرسمي، ويرعاها الإعلام العربي، حتى تنغرس في وعي الجيل الناشئ، وتصبح من المسلمات. ثم تعضدها التربية المنزلية اليومية التي تبحث عن المتهم لدى نشوب أي أزمة، وتتجاهل أسبابها.
تتعامل هذه العقلية السائدة مع التاريخ ومع الواقع، بمنطق المفعول به الذي لا حول له ولا قوة، وتنتظر ممن تعدهم أعداء الدين والأمة، أو أعداء الوطن، أن يقدموا لأصحابها الورود، ويمدوهم بأسباب النجاح. تتناسى هذه العقلية أنّ تقدم الأمم والمجتمعات والأفراد مبني على التدافع والتنافس، وأن الغرب الذي نتهمه بالتآمر علينا هو المنافس الحضاري الأول، الذي يشاركنا حدود الجغرافيا ووقائع التاريخ، ومن الطبيعي، إن لم نقل من حقه، أن يتصيّد عثراتنا ويستغل هفواتنا، لكي يحافظ على تفوقه وتميزه على من سينافسه الصدارة والحضارة فيما لو استقام حالنا.
لو قيض لمالك بن نبي أن يدرس هذه الظاهرة، لخرج علينا بنظرية جديدة، مشابهة لنظريته “قابلية الاستعمار”، حيث لا يمكن للمؤامرة أن تنجح من دون أن يكون لدينا من أسباب الفشل والوهن والضعف ما ييسر لها أسباب النجاح والتحقق.
ولعل أخطر تجليات هذه الذهنية في قراءة التاريخ ومحاكمة الواقع تكمن في حرمان الأجيال من التعامل معهما بحس نقدي، يمكن هذه الأجيال من التحليل الصحيح لأسباب الفشل. فطالما كانت أسباب فشلنا هي تآمر الآخر علينا، فليس أمامنا سوى الانتظار حتى يسمح لنا ذلك الآخر بأن ننتصر، وحتى ذلك الحين، سنشبعه شتماً ولعناً في خطاب لا يكف عن ادعاء الصلاح، ولا يكل عن شكوى المظلومية. أو ربما علينا أن نمحو هذا الآخر من الوجود، لكي يبقى هذا الوجود لنا وحدنا، وعندها، لن يتآمر علينا أحد. فخطباء الجمعة يرددون الأدعية المشهورة في كل أسبوع، فيلعنون هؤلاء “الآخرين”، ويدعون الله أن يفرق شملهم ويستأصل شوكتهم، إلا أن دوائر التعريف لهؤلاء “الآخرين” تضيق باستمرار، حتى أصبح الشريك في الوطن، أو الأخ في الدين والعقيدة هو ذاك الآخر. بل أثبت تنظيم الدولة الإسلامية أن إخوة البارحة أصبحوا، اليوم، هم ذاك الآخر الذي يجب أن يقطف رأسه، لكي يستطيع هذا التنظيم النجاح والتمدد وبناء دولة العدالة والإسلام، حسب فهمه.
لا تخرج تحليلات مختصينا، اليوم، في غالبها عن هذا السياق، فالمعارضون للنظامين السوري والعراقي يعتقدون أن إيران والنظام السوري يقفان وراء ظهور تنظيم الدولة الإسلامية وتمويله وتوجيهه، فقد حقق لهم مكاسب ما كان لهم أن يحققوا معشارها بدونه، ووضع العالم أمام خيارين: الإرهاب أو الاستبداد.
وفي الوقت نفسه، تعتقد إيران، ومعها النظام السوري وأتباعهما، أن السعوديّة وأميركا وقطر يقفون وراء نشوء هذا التنظيم وتضخمه. من النادر أن نجد تحليلاتٍ، تحاول فهم الأسباب الذاتية التي أدت إلى ظهور هذا التنظيم، والتي تكمن، أساساً، في الثقافة العامة التي ساهم الاستبداد في تخلفها، وتكمن في التعليم وفي الخطاب الديني السائد في بلداننا. في حين تجد محللين عديدين يرجعون أسباب ظهور هذا التنظيم وتمدده إلى السياسات الأميركية المقصودة، أو غير المقصودة، وإلى التخاذل الدولي وفشل الأمم المتحدة، ونقص المدد والسلاح لدى الثوار في سورية. مع العلم أن هذه العوامل الأخيرة لم يكن لها لتنجح، لولا وجود الأسباب الذاتية التي تولدت منها مصائب التطرف والغلو الذي لم يبدأ مع تنظيم الدولة، وإنما ساقه هذا التنظيم إلى أقصى أشكاله وأبشعها.
لا نسعى، هنا، إلى نفي وجود المؤامرات في التاريخ وفي السياسة الدولية المعاصرة، إلا أن الاعتقاد المطلق بنظرية المؤامرة مع الغياب الكامل لأي عملية نقد ذاتي حقيقي، هو النتاج المباشر لغياب روح المبادرة، ولضعف الثقة في النفس، الناجمة عن عقود الاستبداد، والناجمة، قبل ذلك، عن حالة إنكار واقع الانكسار أمام ذاك الغرب، المتفوق علمياً وعسكرياً.
نظرية المؤامرة هي الناتج العملي للخوف من تحمل المسؤولية تجاه الحاضر والمستقبل. فهي تمنح أصحابها شعوراً براحة الضمير، ويخفف عنهم ثقل الشعور بالذنب، إذ إنهم ليسوا مسؤولين عما آلت له الأوضاع، الأمر الذي يحرمهم بالضرورة من فرصة المراجعة والتصحيح، فالشعور بالألم الناتج عن تحمل المسؤولية عن الفشل يعد شرطاً لإدراك ضرورة التغيير وتوليد الدوافع للعمل من أجله.
كل قصة نجاح تسبقها حتما تجارب عديدة فاشلة. ولكن الاعتراف بالفشل حين وقوعه، ثم البحث عن أسبابه الحقيقية، من خلال تقييم التجربة والتعلم منها يعد شرطاً أساسياً للوصول إلى النجاح. وهذا لن يتحقق، قبل أن نمتلك روح المسؤولية عن واقعنا وعن مستقبلنا.
نُشر المقال لأول مرة في موقع العربي الجديد