يتغنى التونسيون في العادة بميراث الزعيم الراحل حبيب بورقيبة في مجالي التعليم من حيث المجانية والانتشار، والصحة بصفته “مخلص” العباد من الأمراض المعدية والمتفشية زمن الاستعمار، وتطيب لهم المقارنة مع دول المنطقة (المغرب العربي) وخاصة ليبيا التي عانت من التهميش وغياب مؤسسات الدولة طيلة حكم القذافي، غير أن السنوات الأخيرة التي أعقبت ثورة 14 يناير أحدثت صدمة في صفوف المواطنين بعد أن كشفت وسائل الإعلام المحلية وشبكات التواصل الاجتماعي ضعف المنظومة الصحية وتقادمها.
يرى جزء من المواطنين أن تردي المرافق الصحية يُعد خسارةً لأحد أهم مكاسب دولة الاستقلال التي أولت القطاع منذ 1956 الاهتمام والرعاية المتواصلين، فيما يؤكد آخرون أن الرعاية والخدمات الطبية عرفت حالة من النكوص والتراجع منذ أن تسلم بن علي مقاليد الحكم واعتماده لمؤشرات التنمية المغلوطة وتقارير مفبركة قصد الدعاية وتلميع صورته في الخارج.
ويتهم التونسيون النظام السابق بالتعتيم على المعطيات وتزييف الأرقام والإحصاءات في العديد من المجالات الاقتصادية الاجتماعية، وساهمت مؤشرات التنمية التي أوردتها السلطة قبل ثورة الياسمين في تكريس الفساد وغياب الشفافية والمراقبة.
كانت صرحًا
أظهرت تقارير وبيانات أن منظومة الصحة (القطاع العام) أصبحت في طريقها إلى التآكل ولم تعد قادرة على تلبية حاجيات المواطنين بسبب تراجع مستوى الخدمات والاكتظاظ الذي تشهده المؤسسات الاستشفائية بالمركز، إضافة إلى غياب التجهيزات الحديثة واستشراء الفساد والمحسوبية (الصفقات العمومية)، وعزوف الأطباء المختصين عن العمل بالمناطق الداخلية.
وتعرف مستشفيات العاصمة التونسية (الرابطة وشارل نيكول والبشير حمزة لطب الأطفال) تدفقًا للمرضى القادمين من الشمال الغربي والجنوب إضافة إلى المناطق المتاخمة لها، حيث تعج القاعات بطالبي العلاج الذين أضناهم طول الانتظار لإجراء المعاينة والفحوصات، وفي كثير من الأحيان يخيب مسعاهم لفترات طويلة الأمد بسبب تعطل الأجهزة أو تأجيل المواعيد التي تصل إلى 6 أشهر، كما تشكو إدارة المستشفيات من بطء المعاملات والتخلف على مستوى تسيير الرقمنة.
وفي تصريح لـ”نون بوست” وصف الممرض بقسم الطوارئ سفيان الراجحي، الوضع في المستشفيات التونسية بالكارثي والقابل إلى الانهيار في أي لحظة في حال لم تتخذ سلطات الإشراف الإجراءات العاجلة والملحة، مضيفًا أن المرافق الصحية تشكو من قلة المعدات والتجهيزات والنقص الفادح في الكادر الطبي والمساعدين (ممرضون واختصاصيو التبنيج).
وأشار الراجحي إلى أن الاكتظاظ في المستشفيات خلف انعدام النظام وانتشار الفوضى التي تصل حد الاعتداء على الأطباء والممرضين، وهو ما يؤثر سلبًا على نوعية الخدمة المسداة ويُفضي في الغالب إلى تعطل مصالح المرضى، مرجعًا ذلك إلى نقص الوعي لدى المواطنين من جهة وغياب الإحاطة من مختصين في التوجيه والاستقبال.
وتتركز في تونس 166 مستشفى بينها 35 جهوية (محلية) و2100 مركز لتقديم الخدمات الصحية الأساسية، وفق إحصاءات وزارة الصحة.
بدورها أكدت فاطمة المطماطي التي تُرافق ابنها المريض (الثقبة البيضاوية) في رحلته العلاجية بمستشفى الرابطة الجامعي، في حديث لـ”نون بوست” أنها وفدت إلى العاصمة تونس قادمة من أطراف محافظة قابس (جنوب) وقطعت أكثر من 450 كيلومترًا لإجراء الفحوصات والكشف بالأشعة، مضيفة أنها تتردد على قسم القلب والشرايين مرتين في الشهر وفي غالب الأحيان تقطع تلك المسافة دون أن تجد ضالتها أو أن تقابل الطبيب المشرف.
تقول فاطمة إن الصحة في تونس هي الأخرى بحاجة إلى علاج عاجل والمواطنون سئموا من الأوضاع المتردية واللاإنسانية، مضيفةً “تعبنا فدينا إللي عندو فلوس يداوي في الخاص والزوالي ليه ربي وإلا يداوي بالشيح والزعتر”.
شمال جنوب.. عقدة التنمية
من جهة أخرى، لا يزال العديد من التونسيين (المناطق الداخلية) محرومون من أبسط حقوقهم في الحصول على رعاية صحية تستجيب لتطلعاتهم وتلبي حاجياتهم، حيث سجلت محافظات القصرين وقفصة وتطاوين ومدنين نقصًا حادًا على مستوى أطباء الاختصاص والتجهيزات (Scanner Irm)، إضافة عسر وصول مواطني تلك المناطق إلى المستشفيات الجامعية.
من جانبه قال النائب بالبرلمان التونسي حاتم البوبكري في تصريح لـ”نون بوست”: “قطاع الصحة في تونس يُعاني الكثير من المشاكل والنقائص، وعدم التوازن في توزيع المرافق بين الجهات والمحافظات”، مضيفًا: “مستشفيات الشمال الغربي وخاصة المستشفى الجهوي بالكاف يفتقر إلى أطباء الاختصاص وتجهيزات حديثة وضرورية، كما يشكو من النقص المتواصل للأدوية، ما أدى إلى تردي الخدمات الصحية المقدمة للمواطن”.
وأشار النائب التونسي إلى أن غياب مستشفى جامعي في الشمال الغربي للبلاد يُثير أكثر من تساؤل، والحال أن الجهة بحاجة ملحة وضرورية لمثل هذه المرافق والمؤسسات، مذكرًا بحادثة حافلة “عمدون” التي أودت بحياة 28 شابًا، قائلًا: “هذا دليل واضح وصريح يكشف واقع قطاع الصحة ومؤسساته العمومية، كان بالإمكان إنقاذ الأرواح لو توافرت التجهيزات والكوادر الطبية المختصة بالمستشفى الجهوي بباجة”.
وتُعاني تونس من هجرة أطباء الاختصاص إلى أوروبا وخاصة فرنسا التي استقطبت وحدها 300 طبيبًا سنة 2017، و650 طبيبًا خلال سنة 2018، وتحتل المرتبة الثانية بعد سوريا التي تُعاني من ويلات الحرب، بتسجيلها هجرة 94 ألف كفاءة بين 2011 و2017.
وأرجع البوبكري أزمة قطاع الصحة إلى غياب الحوكمة الرشيدة وحسن الإدارة وغياب المراقبة الجدية لمستشفيات الدولة، إضافة إلى انتشار الفساد في تلك المؤسسات (رشوة وسرقة الأدوية).
وفي سياقٍ ذي صلة، يُؤكد خبراء في الصحة أن أكثر الناس عرضة إلى المخاطر هم سكان المناطق الداخلية في غرب البلاد وجنوبها الذين يُعانون من الفقر والبطالة ويفتقدون إلى السكن اللائق والمياه الصالحة للشراب والصرف الصحي، ويفتقدون إلى أبسط الحاجيات الأساسية.
وتتجلى الفوارق بين الجهات بصورة أوضح من خلال معدل أمل الحياة في تونس وفقًا لدراسة أجراها البنك الإفريقي للتنمية، حيث لا يتجاوز 70 سنة في المدن الداخلية والمهمشة مثل القصرين وقفصة وسيدي بوزيد وتطاوين وجندوبة والقيروان، في حين يتجاوز 77 سنة في تونس العاصمة وصفاقس وسوسة والمنستير (الساحل) أين تتركز كبرى المستشفيات الجامعية.
مآسٍ وتجاوزات
أزمة الرعاية الصحية في تونس كما في قطاعات أخرى طالتها يد الفساد واللامبالاة، حيث انعدمت المراقبة الجدية للمؤسسات الاستشفائية بعد الثورة، وساهمت حالة التواكل والتقاعس التي تنخر القطاع العام في تقهقر الرعاية الصحية وارتفاع التجاوزات المهنية (الإهمال والتقصير) وصلت حد تهديد حياة المواطنين.
ولم ينس التونسيون الحوادث المأساوية التي أودت بحياة المرضى طيلة التسع سنوات الماضية بداية من أزمة اللوالب (الدعامات) القلبية منتهية الصلاحية إلى البنج الفاسد مرورًا بحادثة “الكراتين” التي قضى فيها 14 رضيعًا بسبب تعفن جرثومي وقع في أثناء تحضير غذاء الأطفال.
مآسي القطاع الطبي التونسي التي عادةً ما تحصد العديد من الأرواح لم تنته، حيث اهتز الرأي العام مؤخرًا على وقع قضية جديدة تتمثل في شبهة تجارة الأعضاء وبيع الكلى، كشفت تفاصيلها متفقد مركز المراقبة الصحية للحدود نوال المحمودي، ويضم الملف المودع لدى هيئة مكافحة الفساد 120 وثيقة وشهادات حية لمواطنين متضررين إضافة إلى مقاطع فيديو ووثائق لمسؤولين كبار في الدولة متهمين بالتستر على 3 جراحين متورطين.
نوال المحمودي تفجر ملف فساد جديد:”عندي دوسي خطير يهم بيع “الكلاوي”في تونس ومسؤولين كبار في الدولة و جراحين مورطين” https://t.co/tY1Kb4d7mO
— jalel (@jalel_boukeri) January 14, 2020
الأدوية.. سوق سوداء وفساد
وفي الإطار ذاته، تعاني المستشفيات ومراكز الرعايا الأساسية من نفاد مخزون الأدوية وفقدانها بسبب غياب سياسة صحية جدية للدولة وسوء الاستخدام الرشيد للمخزون ونقص التمويل، إضافة إلى العوامل الخارجية المتمثلة في الجهات التي تعمل مع الداخل لاستهداف المنظومة وتغييرها من أجل تحرير السوق.
تتواصل أزمة فقدان العديد من الأدوية في تونس وسط صمت مقرف( وزارة الصحة و ما تبعها و الصحافة الخ الخ ) . و لكن الأدهى و الأمر هو محاولة تعطيل كل المبادارات المواطنية التي تسعى لايجاد حلول وقتية لانقاذ ما يمكن انقاذه من الحياوات البشرية من خلال قوانين بالية و بيروقراطية خانقة .
— lina ben mhenni (@benmhennilina) October 1, 2019
ويبقى الفساد والتهريب أصل الداء، حيث كشفت تقارير تهريب بعض العاملين بقطاع الصحة (أطباء وممرضين) لعقاقير الإنسولين وعلاج الغدة الدرقية والسرطان (حقنة بـ337 دولارًا) وأدوية علاج ضغط الدم وأمراض القلب والشرايين والكوليسترول المدعمة، إلى بعض دول الجوار (ليبيا).
وفي تقرير سابق لـ”نون بوست” أوردت فرق وزارة الصحة أنها كشفت العديد من عمليات السرقة التي استهدفت المستودعات والمستشفيات ومراكز الصحة الأساسية، فيما كشفت مصادر محاولة بعض رجال الأعمال المتهمين بالفساد للضغط على وزارة الصحة حتى تتنازل لهم عن مهمة توريد الأدوية، وهو ما سيثقل كاهل المواطن باعتبار أن الصيدلية المركزية تدعم هذه الأدوية الموردة سنويًا بقيمة 142 مليون دينار (54 مليون دولار).
بات من المؤكد أن قطاع الصحة في تونس بحاجة إلى إصلاحات عاجلة وعميقة تشمل إعادة هيكلة منظومة الرعاية وتطوير البنى التحتية وتوزيعها بشكل عادل على كامل تراب الجمهورية، إضافة إلى إصلاح التشريعات والقوانين والتراتيب المنظمة لمهنة الطب من أجل إنقاذ منظومة الرعاية ومنع تسرب الكفاءات إلى الخارج، خاصة أن الدولة تُنفق على تعليم الطالب الواحد نحو 35 ألف دولار.