لم تتحمل الولايات المتحدة الأمريكية نحو خمسة أشهر من التشهير بالصين وإدراجها على قوائم المتلاعبين بالعملة، وتراجعت على الفور، ويبدو أن ترامب لم يعد أمامه المزيد من الحجج لإبقاء الصين في هذا الجانب المظلم، وقرر عبر وزارة الخزانة التراجع عن هذا التصنيف قبل أيام قليلة من توقيع البلدين على اتفاق تجاري جديد.
ماذا يعني التلاعب بالعملة؟
في أغسطس الماضي، أمر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وزارة الخزانة، بتصنيف الصين دولة متلاعبة بالعملة، ليدخل مربعًا جديدًا من التصعيد في الحرب التجارية بين أقوى اقتصادين في العالم، الأمر الذي أدى إلى اهتزاز الأسواق العالمية بشدة، حيث تسببت بكين بقرارها تخفيض قيمة عملتها “اليوان” أمام الدولار، في خسائر كبيرة للأخير الذي هبط إلى أدنى مستوياته خلال عقد تقريبًا، كرد مباشر وحاسم على رسوم فرضها ترامب على بضائع صينية تقدر قيمتها بـ300 مليار دولار.
لم تكن الرسوم الأمريكية الباهظة على الورادات الصينية، الأزمة الأولى من نوعها في هذه القضية، لكنها كانت حلقة من سلسلة فرضت بموجبها رسوم طائلة بلغت نسبة 25% كرسوم مستحقة على مبلغ 250 مليار دولار من البضائع، لتضرب الصين بقوة وتهبط هي الأخرى بسعر صرف اليوان الصيني في الأسواق الخارجية إلى 7.1 مقابل الدولار، الأمر الذي دمر معيار المنافسة بين منتجاتها ونظيرتها الأمريكية، ليس فقط في الأسواق العالمية بل وحتى في السوق الأمريكية.
اتخذ ترامب من بنية النظام الاقتصادي الصيني أداةً لتوثيق اتهاماته ضد بكين بالتلاعب في العملة، حيث تتخذ الحكومة جميع القرارات الاقتصادية بواسطة بنك الشعب الصيني “البنك المركزي” ومن خلاله تدير بوصلة الشركات الخاصة أيضًا، وليست الحكومية وحدها، مما يعني بوجهة نظر ترامب أن بكين تنتهك القوانين الدولية التي تضع لارتفاع سعر العملة أو انخفاضها، سببًا واحدًا، هو معايير العرض والطلب وقوة المعروض والصادرات، ما مكن ترامب من لي رقبة التنين الصيني ومنعه من ملاحقة عقوباته التجارية.
ويضع القانون الأمريكي ثلاثة معايير لتعريف معنى التلاعب بالعملة، أولها امتلاك فائض كبير في ميزان المعاملات الجارية العالمي، بجانب وجود فائض تجاري كبير مع الولايات المتحدة، نهاية بالتدخل المستمر من جانب واحد في أسواق الصرف الأجنبي، وهي اتهامات تصر الصين على نفيها وتؤكد أن الشروط لا تنطبق عليها.
تاريخيًا، يمكن القول إن هذا التصنيف ليس الأول من نوعه، بل لجأ الكونغرس الأمريكي بعد إصدار قانون مراجعة العملة عام 1988، إلى إعلان كل من تايوان وكوريا الجنوبية دولتين تتلاعبان بالعملة، كما صنفت الصين عام 1994 بالتصنيف ذاته، وبعد محادثات ومفاوضات شاقة تراجع مكتب المحاسبة التابع للبرلمان الأمريكي عن اتهام البلدان الثلاث بالتلاعب، بعد الضغط عليهم للقيام بإصلاحات، ولكن ما يختلف في هذا التوقيت عن الآن أن الولايات المتحدة لم يكن أمامها من يحاسبها أو يبحث خلفها، بعكس الكثير من المؤسسات المعنية الآن، التي لا تجعل القرار حكرًا على الولايات المتحدة وحدها، بل تتدخل وتعلن رأيها وفق أسباب موضوعية مدروسة.
كيف واجهت بكين الفخ الأمريكي؟
تعرف الصين أن كل دولة في العالم لها الحق في التحكم بسعر صرف عملتها الوطنية وفقًا لمصالحها الاقتصادية، وخاصة إن كانت مثلها على مقدرة كبيرة في التخفي والابتعاد عن شبهات انتهاك قواعد التجارة العالمية التي تجرم المنح والامتيازات التنافسية غير العادلة، ولهذا استطاعت الحكومة الصينية إقناع مراكز صنع القرار المعنية في العالم، أن التخفيض المسيس للعملة يساهم في ارتفاع الأسعار وزيادة معدلات التضخم النقدي، ما يعني أن المواطن الصيني وحده من سيدفع ثمن هذه السياسات، وينعكس في النهاية على الاستقرار والأمن.
تأثرت بعض دوائر صنع القرار الأمريكي بالبروباجندا الصينية التي روجت على نطاق واسع أن انخفاض قيمة اليوان الصيني، سلاح ذو حدين، صحيح أنه سيضعف من آثار العقوبات الأمريكية، ولكنه في الوقت نفسه سيدفع الأسواق المالية إلى صرف اليوان بأقل من سعره المخفض أصلًا، وهو ما قد يؤدي في النهاية إلى تقويض النظام المالي للصين.
على المستوى العملي، لجأت بكين إلى سياسات صلبة لمواجهة حرب ترامب وضرباته المتلاحقة ضدها، واتبعت سلسلة من الإجراءات، خاصة عبر شركاتها الخاصة، حيث ظلت تتحصل على الدولار مقابل صادراتها إلى الولايات المتحدة، وأودعته في البنوك المحلية، في الوقت الذي استمرت بدفع أجور عمالها باليوان، حتى تحتفط بأكبر قدر ممكن من الدولار للبنك المركزي وزيادة أرصدته من احتياطات العملات الأجنبية.
تخزين الدولار على هذا النحو، قلص من المتاح في الأسواق الصينية، ما وضع ضغوطًا تصاعدية على قيمة العملة الأمريكية، وقلل في المقابل من قيمة اليوان، وكما يتفنن ترامب في وضع الحجج لتبرير استهداف منافسيه، زعمت الصين أن احتفاظها بالدولار، خلفه رغبة قومية لاستمرار جاذبية الاقتصاد الصيني للاستثمارات المختلفة، وجعل السلع الصينية أكثر تنافسية مقارنة بنظيرتها الأمريكية.
أدارت بكين سياسة الصرف الأجنبي الخاصة بالطريقة التي تراها مناسبة ولم تحقق لترامب رغبته في التربح سياسيًا من دخول مزاد التعريفات الجمركية، بعدما تأثر الدولار واستمر في الارتفاع أمام جميع العملات بما فيها اليوان، الأمر الذي شكل تحديات قاسية للمنتجات الأمريكية أمام منافسة نظيرتها الصيينة، خاصة في ظل الصراعات الدائرة في الشرق الأوسط وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ما يؤثر على السوق وقدرة المستهلكين على شراء المنتجات الأمريكية باهظة الثمن.
استطاعت الصين في النهاية التحايل على القرار الأمريكي وإثبات أن ضعف اليوان لم يكن إلا بسبب النزاعات التجارية، فانخفاض قيمة عملة التننين الصيني، أثار العديد من المخاوف الكبيرة بشأن الاقتصاد العالمي في المستقبل، لا سيما أن بكين تدعم الجميع، بما فيهم المستهلكين الأمريكيين الذين تحملوا كلفة ارتفاع تكلفة السلع المستوردة الناجمة عن التعريفات.
يمكن القول إن بكين أدركت جيدًا أن اتهامها بالتلاعب ليس إلا مجرد هدف وورقة ضغط لاستمرار المفاوضات من مكان أفضل، حتى تخفض التعريفات الجمركية والحواجز التجارية على الصادرات الأمريكية، ومن ثم تشجيع وتعزيز الصادرات الأمريكية، ووفقًا للقانون الأمريكي نفسه، بمجرد إدراج بلد ما كمتلاعب في سعر الصرف، يتعين على وزارة الخزانة الأمريكية التفاوض مع الحكومة المعنية لمساعدتها على حل مشكلة أسعار الصرف وهو ما حدث بالضبط كما أسلفنا في مشكلة الصين وكوريا الجونبية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.
اتخذت الصين خطوات هادئة، لحل أزمة تصاعد التوترات التجارية، ولهذا لم تتوسع في تطبيق تعريفات انتقامية على المنتجات الأمريكية كرد فعل على استهداف منتجاتها، ولجأت لتخفيض قيمة اليوان بجانب بعض التعريفات التي تمنحها الهدف.
وهي آليات تمثل في النهاية أسلحة سياسية، ستقود البلدين لإعادة العلاقات إلى ما كانت عليه، بعد “جرجرة أمريكا” في صراع قانوني وسياسي واقتصادي مفتوح أمام العالم الذي يعرف جيدًا أن الولايات المتحدة تضع دائمًا سعر صرف اليوان الصيني مقابل الدولار في أولوياتها، بعدما أصبح يشكل رقمًا حاسمًا في معادلة الحرب الباردة بين واشنطن وبكين، ولهذا كانت الولايات المتحدة تطلب من الصين رفع قيمة اليوان أمام الدولار، وبكين ترفض، وبالتالي عندما تهدد الحكومة الأمريكية بفرض رسوم جمركية على جميع الواردات الصينية، فإن اتهامها بالتلاعب في سعر الصرف لن يكون له معنى.