في بقعة مائية مترامية الأطراف بالمحيط الهندي على الساحل الشرقي لإفريقيا، وعلى بعد 35 كيلومترًا (25 ميلًا) عن ساحل تنجانيقا (تنزانيا) و118 ميلًا عن جنوب ممباسة (كينيا) و29 ميلًا عن شمالي دار السلام و750 ميلًا عن مدغشقر و500 ميل عن جزر القمر، تقع مجموعة من الجزر المتميزة تسمى “زنجبار” تتبع الدولة التنزانية وتتمتع بسلطة ذاتية واسعة.
تشكل تلك المجموعة ما يسمى بـ”أرخبيل زنجبار” الذي يتكون من قرابة 52 جزيرة أهمها أنغوجا وجزيرة بمبا وتومباتو وجزيرة مافيا، وتتمتع الأخيرة بشهرة فائقة كونها تعد قبلة البهارات في القارة الإفريقية وليس في تنزانيا فقط، وهو ما أضفى عليها مكانة كبيرة على المستوى القاري والعالمي.
وبعيدًا عما آلت إليه أوضاع تلك الجزر في الوقت الراهن، فإنها في الأصل كانت جزرًا عربية، خاضعة للحكم العربي على مدار عقود طويلة مضت، كما أن كلمة زنجبار في حد ذاتها كلمة عربية، تم تحريفها من الأصل “بر الزنج” أما في اللغة السواحلية فتعني أنغوجا، وهي مركبة من كلمتين أنغو ومعناها المنسف وجاء ومعناها امتلاء.
الوجود العربي في زنجبار
دخل الإسلام زنجبار نهاية القرن الأول الهجري في عهد الدولة الأموية، عن طريق الهجرات الإسلامية إلى شرق إفريقيا، أعقب ذلك محاولة الحجاج بن يوسف الثقفي في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان ضم سلطنة عمان إلى الدولة الأموية وكان يحكم عمان آنذاك الإخوان سليمان وسعيد ابنا الجلندى.
غير أنهما لم يستجيبا لطلب الحجاج، فأرسل لهما جيشًا كبيرًا، لكنهما لم يمتلكا المقومات العسكرية الضرورية لمواجهة هذا الجيش، فآثرا السلامة وخرجا بمن تبعهما من قومها إلى بر الزنج شرق إفريقيا، الذي تحول اسمها فيما بعد إلى زنجبار، وهنا يذهب بعض المؤرخين كما ذكرت العديد من الوثائق إلى أن الوجود العربي في زنجبار سبق ظهور الإسلام.
هذا الاستناد يقوم في صلبه على أن رحيل حاكمي عمان (سليمان وسعيد) إلى الجزيرة بعددهما وعتادهما لا بد أن يستند إلى وجود سابق لهما يأمنان فيه على حياتهما وأموالهما وذويهما وقبل ذلك على دينهما، وما إن استقرا في الجزيرة حتى بدأ الوجود العماني يستقر يومًا تلو الآخر، حتى أصبح ولاة زنجبار وجزرها تابعين لحكم أئمة عمان.
عام 1828 كان السلطان سعيد بن سلطان بن الإمام أحمد البوسعيدي في زيارة إلى الجزيرة، لكن ما إن وطأت أقدامه ثراها حتى استهواه جمالها ومناخها مقارنة بعمان، وكان نتاجًا لذلك أن جعل زنجبار مقرّه الرسمي وعاصمة لمملكة يحكم منها عُمان وساحل إفريقيا، وأصبحت زنجبار منذ ذلك التاريخ عاصمة لمملكة عُمان.
لم تستحوذ زنجبار على اهتمام السلطان العماني فحسب، بل كانت في هذا التوقيت تحت مجهر الاهتمام الغربي كذلك، نظرًا لما يمثله موقعها من أهمية إستراتيجية، فهي الواقعة في مواجهة ساحل إفريقيا الشرقي القريب من الهند ومن ساحل الخليج العربي، تزامن هذا مع تعاظم الشواطئ الإفريقية كعامل مهم في تعزيز القوات البحرية للقوى الغربية الطامحة إلى فرض الهيمنة على المناطق الحيوية في العالم.
ويعد عهد السلطان سعيد بن سلطان بن الإمام أحمد البوسعيدي أبرز حقب الجزيرة التاريخية نموًا وتطورًا، فقد أولى السلطان اهتمامًا غير مسبوق، وعمل على تعزيز الصلات الحضارية وتوحيدها مع ساحل شرقي إفريقيا فأصبحت الدولة العمانية في عهده (1804-1856) دولة ملاحية كبيرة يمتد نفوذها من سواحل عمان إلى جزيرة بمبا (الجزيرة الخضراء) وزنجبار على الساحل الشرقي لإفريقيا.
نهاية الحكم العربي
اعتمد الحكم العربي للجزيرة على عدد من المرتكزات السياسية التي ساهمت بشكل كبير في استقرار زنجبار والجزر المحيطة بها وتماسكها أمام معاول الهدم كافة، ورغم التعدد العرقي والديني والثقافي، نجح أبناء السلطان سعيد في فرض سيطرتهم وإحكام القبضة على الجزيرة وسكانها.
لكن الأمر لم يدم كثيرًا، فبعد ما يقرب من 160 عامًا من وقوع الجزيرة تحت قبضة سلاطين العرب، نجحت القوات الاستعمارية البريطانية آنذاك في تفرقة اللحمة الوطنية بين العرب والهنود والأفارقة، وساعدوا حزب أفروشيرازي الذي ساهم في تجريد العرب من الهيمنة على الجزيرة خلال ثورة زنجبار سنة 1964.
رغم خروج العرب من الجزيرة، فإن الغالبية العظمى من السكان مسلمون
وبالفعل.. وتحديدًا في 12 من يناير 1964 أطاحت الثورة الشعبية المدعومة من الإنجليز وأذرعها في الجزيرة بآخر حاكم عماني لها وهو السلطان جمشيد بن سعيد أحد أبناء السلطان سعيد، لتدخل الجزيرة حقبة جديدة من تاريخها السياسي تحت الحكم البريطاني ومن بعده الحكم الذاتي.
ورغم خروج العرب من الجزيرة، فإن الغالبية العظمى من السكان مسلمون، فحسب آخر إحصاء يبلغ عدد سكان زنجبار نحو مليون شخص أغلبهم من المسلمين (98%) وبقية سكان زنجبار مسيحيون وهندوس وسيخ، فيما تعود أصول المسلمين هناك إلى عمان وإيران والهند وباكستان.
ظلت اللغة العربية اللغة الرسمية للجزيرة في العهد العماني، لكن مع سقوط آخر سلاطين عمان، أصبحت اللغة السواحلية هي لغة الزنجباريين الأولى، بجانب اللغة الإنجليزية التي فرضها الاحتلال البريطاني، هذا في الوقت الذي يتميز فيه الشارع الزنجباري بالثراء الثقافي والعرقي.
جزيرة البهارات
يتميز أرخبيل زنجبار بثراء الطبيعة وتنوع الموارد، إذ تسمى جزيرة أنغوجا أكبر الجزر وعاصمة زنجبار التابعة لتنزانيا “بستان إفريقيا الشرقية” وأهم ما يميز تلك الجزيرة التي يبلغ طولها ما يقارب 85 كيلومترًا، وعرضها 40 كيلومترًا، أرضها الحجرية التي تصلح لزراعة العديد من المحاصيل.
ويعتمد اقتصاد الجزيرة في المقام الأول على عائدات بيع محاصيل البهارات والتوابل، التي حققت فيها شهرة عالمية لم يسبقها إليها أي مكان في العالم، حتى الهند ذات الصيت الكبير في هذا المضمار، وتحتوي هذه الجزر على نحو ثلاثة ملايين شجرة قرنفل الذي يتميز بجودته العالية حتى بات محصوله قبلة لكل التجار من مختلف البلدان.
وتعد الزراعة الحرفة الأولى لسكان الجزيرة، وتشير الدراسات التاريخية إلى أن أشجار التوابل الأكثر شيوعًا هناك، ويُعتقد بأنّ أول من أدخل زراعتها سلاطين عمان، هذا بخلاف عدد من المحاصيل الأخرى من بينها جوز الهند والمانجا والذرة، كما أن أهالي هذه الجزيرة يعملون في عدد من الصناعات مثل صناعة الزيت والحلوى والدواء، بجانب حرفة الصيد.
“منذ الوهلة الأولى التي تطئ بأقدامك شوارع الجزيرة تستقبلك رائحة القرنفل الفواحة والتوابل التي تلهب الأنف والحلق معًا”، هكذا علق المرشد السياحي المصري أحمد سالم الذي عمل في الجزيرة عدة سنوات، لافتًا إلى أن هذه الرائحة باتت السمة الأبرز للجزر لا سيما العاصمة أنغوجا.
سالم في حديث أدلى به لـ”نون بوست” أشار إلى أن الجزء الأكبر من الاقتصاد الوطني للجزر يعتمد على عائدات بيع التوابل، حتى إن بعض خبراء الاقتصاد أطلقوا على الاقتصاد الزنجباري لقب “اقتصاد التوابل” الذي يتميز فيه شعب زنجبار بصورة جعلته متفوقًا على أباطرة هذه الصناعة في العالم.
مقصد سياحي جذاب
لم تقتصر أهمية الجزيرة على تاريخها العربي واقتصادها البهاراتي فحسب، بل تعد مقصدًا سياحيًا للمهتمين بالتراث، وواحدة من الوجهات الإفريقية المثيرة للدهشة، فهي حافلة بملامح الطبيعة الاستوائية والثقافات العرقية التي امتزجت مع مختلف الحضارات على رأسها العربية والهندية والأوروبية
رغم العقود الطويلة التي غيرت ملامح الجزيرة، فإنها نجحت في الاحتفاظ بطابعها الفريد
وتتميز جدران الجزيرة بالرسومات المميزة، كما أن أبوابها الخشبية المنقوشة والمزينة باتت علامة فارقة من حيث الجودة والإبداع الفني والهندسي في شرق إفريقيا، فذاع صيتها وشهدت انتشارًا على مستوى المنطقة وزينت منازل الميسورين في كينيا وإثيوبيا وتنزانيا وموزمبيق والعديد من بلدان العالم.
ورغم العقود الطويلة التي غيرت ملامح الجزيرة، فإنها نجحت في الاحتفاظ بطابعها الفريد، خاصة المدينة الحجرية “ستون تاون” التي أبقى سكانها على بناء منازلهم بالأحجار والصخور المرجانية منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم، الأمر الذي وضعها تحت مجهر منظمات الثقافة الأممية.
ونتيجة لهذا التميز تم إدراج المدينة على لائحة التراث العالمي بفضل ما تضمه من معالم تاريخية وأجواء تجمع بين ثقافات الشرق والغرب والأجواء الإفريقية الساحرة، وتحولت مع مرور الوقت إلى مزار سياحي لمئات الآلاف من السياح من مختلف دول العالم.
ويتضمن الأرخبيل العديد من المناطق السياحية الشهيرة منها: قلعة الحصن القديم والحمامات الفارسية ومزارع التوابل وجزيرة تشانجو ومتحف بيت العجائب ومتحف القصر وحدائق فوروضاني وسوق دراجاني والمستشفى الخيري القديم، بجانب الكاتدرائيات والكنائس المنتشرة في المدينة.