وافق البرلمان المصري (مجلس النواب) في يوليو 2018 على تأسيس صندوق للثروة السيادية تحت مسمى “صندوق مصر“، برأسمال 200 مليار جنيه (11.2 مليار دولار تقريبًا)، هذا القانون أعطى رئيس الجمهورية الحق المطلق في نقل ملكية أي من الأصول “غير المُستغلة”، المملوكة ملكية خاصة للدولة أو للصندوق أو لأي من الصناديق التي يؤسسها.
في النصف الأول من 2019، كشفت حكومة القاهرة التشكيل الرسمي لأعضاء مجلس إدارة هذا الصندوق، وأصدرت نظام العمل الأساسي به، وتعيين مدير له من ذوي الخبرة في إدارة الأصول، في خطوة هي الأولى عمليًا لدخول الصندوق حيز التنفيذ العملي.
حالة من الجدل أثارها إعلان هذا الصندوق الذي يرى البعض أنه محاولة لاستنساخ التجربة الخليجية العربية، التي أثبتت نجاحها في أكثر من مسار، فيما ذهب آخرون إلى أنها خطوة لا تتناسب مع الظروف المصرية الحاليّة، لتبقى حزمة من الأسئلة تداعب خيال الشارع المصري، باحثةً عن إجابة في محاولة لإزالة الغموض عن هذا التحرك، حديث العهد على المصريين.
هل يسمح المناخ المصري بصندوق سيادي؟
السؤال الأول الذي طرح نفسه على ألسنة المتخصصين يتعلق بمدى ملاءمة الظروف الاقتصادية المصرية بتدشين صندوق كهذا، لكن قبل الإجابة لا بد من إطلالة سريعة على مفهوم الصندوق السيادي بصفة عامة، حتى يتسنى لنا معرفة الأضلاع المكتملة لهذا الكيان الذي يشير منذ الوهلة الأولى إلى قوة اقتصاد الدولة التي تدشنه.
تشير التعريفات المتباينة إلى أن الصندوق السيادي أو صندوق الثروة السيادية عبارة عن كيان قانوني يتم إنشاؤه لإدارة أصول الدولة الكبيرة بغرض استثمارها للمستقبل، وعليه فإن الدافع الرئيسي لإقامته يتمثل في وجود فوائض مالية للدولة تسعى للحفاظ عليها ومضاعفتها للأجيال القادمة.
عربيًا.. يعد صندوق أبو ظبي الأكبر والثالث عالميًا بإجمالي أصول 683 مليار دولار
ومن ثم يُلاحظ أن أغلب الصناديق السيادية في العالم توجد في دول غنية، إذ تشكل إيرادات النفط والغاز نحو 65% من إجمالي أموال الصناديق السيادية في العالم، وغالبًا ما تكون استثماراتها في أمور منخفضة المخاطرة على شاكلة الاستثمار في أدوات الدين والسندات الحكومية أو أسهم شركات ناجحة في البورصة أو عقارات وغيرها.
كما تشير الإحصاءات إلى أن حجم الصناديق السيادية في العالم يتجاوز 7 تريليونات دولار في بعض التقديرات، فيما يعد صندوق معاشات التقاعد النرويجي أكبرها على الإطلاق، إذ يبلغ حجمة نحو تريليون دولار، أما عربيًا فيعد صندوق أبو ظبي الأكبر والثالث عالميًا بإجمالي أصول 683 مليار دولار، يليه صندوق النقد السعودي في المركز الخامس عالميًا بأصول 494 مليار دولار.
الهرولة نحو القروض الخارجية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه داخليًا يؤكد أن الدولة لم تكن في وضعية اقتصادية تسمح لها بتدشين مثل هذا الصندوق
السؤال هنا: هل لدى الاقتصاد المصري فائض يسمح له بتدشين صندوق سيادي لإدارة الثروات؟، بالطبع لا تحتاج الإجابة إلى عناء شديد، إذا علمنا أن الحكومة المصرية مدينة بعشرات المليارات من الدولارات للخارج والداخل على حد سواء، وتعاني من نسب عجز مرتفعة حتى إن انخفضت نسبيًا في السنوات الأخيرة، وفق الإحصاءات الرسمية.
تؤكد الهرولة نحو القروض الخارجية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه داخليًا على مشروعات التعليم والصحة والبنية الأساسية أن الدولة لم تكن في وضعية اقتصادية تسمح لها بتدشين مثل هذا الصندوق، ويبدو أن القائمين عليه تناسوا أن تلك الصناديق تُخلق عندما يتاح للحكومات ثروات تتجاوز قدرة الاقتصاد المحلي على استيعابها، فيتم توجيهها للخارج بغرض تعظيم العائد عليها.
الموارد.. ما مصادرها؟
رغم الإعلان ابتداءً أن الصندوق سيتم تدشينه برأسمال قدره 200 مليار جنيه (11.2 مليار دولار تقريبًا)، فإن الحديث عن مصادر التمويل والموارد الخاصة بهذا الكيان كان تساؤلًا حاضرًا على ألسنة الكثيرين، تعزز القلق بشأن هذا السؤال مع إشارة وزارة التخطيط إلى أن موارد الصندوق تشمل، بخلاف رأس المال المصدر، الأصول التي تنتقل ملكيتها للصندوق (دون تحديد ماهيتها)، كما تشمل عائدات وإيرادات استثمار أموال الصندوق واستغلال أصوله (دون تحديد كذلك)، إضافة إلى العائدات المرتقبة من إسهامه في أي من الصناديق الاستثمارية أو الشركات الأخرى.
الغريب أن الحكومة حددت رأس المال المصرح به بالجنيه المصري، فيما أعلن مدير الصندوق نيته رفع رأسماله إلى أضعاف القيم الحاليّة، وحدد هدفه بالجنيه المصري، ما يعني أن استثمار ما يتاح للصندوق سيكون داخل البلاد لا خارجها، وهو ما يتعارض مع تصريحات المسؤولين ومع طبيعة الصناديق السيادية في مختلف دول العالم التي تتعامل بالعملات الدولية في محاولة لفتح آفاق الاستثمارات الخارجية.
المدير التنفيذي لصندوق مصر السيادي أيمن سليمان قال في تعليقه على سؤال الموارد أنه يتوقع زيادة رأسمال الصندوق المرخص به إلى تريليون جنيه (62.15 مليار دولار)، من 200 مليار جنيه حاليًّا خلال ثلاث سنوات أو أقل حسب الشهية الاستثمارية واستجابة المستثمرين، مضيفًا “القطاعات التي سنعمل بها هي الصناعة والطاقة التقليدية والمتجددة والسياحة والمناطق الأثرية”.
وأضاف في رده على سؤال لـ“رويترز” “رأسمالنا المدفوع خمسة مليارات جنيه منها مليار جنيه دفعته الحكومة والأربعة مليارات الأخرى سيتم سحبها وفقًا لاحتياجاتنا والمشروعات المتاحة. نتوقع رفع رأسمالنا المرخص به إلى تريليون جنيه خلال ثلاث سنوات أو أقل.. كل ذلك يتوقف على استجابة المستثمرين والشهية الاستثمارية”.
ما معايير نقل أصول الدولة للصندوق؟
في المادة الخامسة من قانون تدشين الصندوق، فإن من حق رئيس الجمهورية نقل ملكية أي من أصول الدولة غير المستغلة للصندوق، وهو ما دفع البعض للتساؤل بشأن مستقبل المباني والأراضي الحكومة التي تمتكلها الحكومة في القاهرة بعد نقل مقار الوزارات والهيئات الحكومة للعاصمة الإدارية الجديدة.
وكان اللواء أحمد زكي عابدين رئيس شركة العاصمة الإدارية، قد ألمح إلى إمكانية إنشاء شركة لاستغلال مقار الوزارات القديمة للإنفاق على الجديدة، ما يعني احتمالية نقل تلك الأصول للصندوق السيادي والتصرف فيها بالبيع أو الاستثمار، علمًا بأن القانون يسمح بالشراكة مع صناديق سيادية أخرى وعلى رأسها صناديق الإمارات والسعودية.
وقبل أيام بسيطة، أُعلن تأسيس منصة استثمارية إستراتيجية مشتركة بين مصر والإمارات، قيمتها 20 مليار دولار، للاستثمار المشترك، عبر شركة أبو ظبي التنموية القابضة وصندوق مصر السيادي، مع الأخذ في الاعتبار ضعف المساهمة المادية من الجانب المصري الذي من المتوقع أن يعوض ذلك بارتهان أصوله وممتلكاته ذات الموقع الإستراتيجي والقيمة التاريخية الكبيرة.
مسألة نقل أصول الدولة للصندوق السيادي أثارت القلق حتى لدى بعض البرلمانيين، إذ تقدّم عضو مجلس النواب المصري محمد فؤاد، في أكتوبر 2018 بسؤال برلماني إلى رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي، بشأن استيضاح المعايير التي على أساسها ستؤول ملكية أصول بالدولة إلى “صندوق مصر” السيادي، على ضوء إعلان العديد من الوزارات طرح بعض أصولها للبيع أمام القطاع الخاص.
وقال فؤاد في سؤاله: “هناك معلومات مؤكدة عن اعتزام بعض الوزارات والجهات الحكومية، ومنها على سبيل المثال – لا الحصر – وزارتا الصحة والسكان، البدء في عملية حصر لأصولها غير المستغلة الواقعة تحت ولايتها، تمهيدًا لطرحها في شراكة من القطاع الخاص، ومن ضمنها مستشفى العباسية للصحة النفسية بمحافظة القاهرة، وبعض القصور بمحافظة المنيا بصعيد مصر، ومجموعة من المباني بمحافظة المنوفية”.
وأضاف فؤاد “توجد تساؤلات تُثار بشأن الإجراءات والقرارات المتعلقة ببيع تلك الأصول، خاصةً مع إقرار مجلس النواب إنشاء صندوق مصر السيادي الذي تؤول إليه كل الأصول المستغلة وغير المستغلة بالدولة، وما يُدرج بها من أصول، وكونه صاحب الحق الأصيل في التصرف، وإدارة تلك الأصول، وفقًا لما تقتضيه المنفعة العامة والمصلحة العليا للدولة، حسب أحكام القانون”.
ومع مرور الوقت، بدأت الأمور تتضح شيئًا فشيئًا، فمن الواضح أن الحكومة لا تنوي أو قد لا تقدر على ضخ “سيولة فائضة” لديها، ببساطة لأنها لا تمتلك أي سيولة فائضة، لكن الحل المتاح حاليًّا تحويل ما تصل قيمته إلى عشرات المليارات من الجنيهات من الأصول إلى الصندوق، لتكون تلك القيم هي مساهمة الدولة في الصندوق، على أن تتم دعوة الاستثمارات الأجنبية للدخول فيه، وتوفير موارد أخرى له.
هل يخضع الصندوق للرقابة؟
السؤال الأكثر حرجًا وقلقًا في حزمة التساؤلات المتعلقة بالصندوق هو: من يراقبه؟ وهل يخضع الصندوق والقائمون عليه للمحاسبة؟، بحسب المادة 11 من القانون، فإن الدور الرقابي الوحيد سيكون رقابة حسابية من شخصين كمراقبين حسابات، أحدهما من الجهاز المركزي للمحاسبات والثاني من الرقابة الإدارية، ثم يرفعون تقريرهم للجنة العمومية (يرأسها رئيس الوزراء، وبعضوية وزيرين وممثل عن البنك المركزي، ويختار رئيس الوزراء 7 آخرين) ثم يرفع لرئيس الجمهورية فقط لا غير.
الغريب أنه في خلال صياغة القانون، كان هناك مقترح بأن يقوم البرلمان بالدور الرقابي على الصندوق، لكن المفاجأة أن المادة حُذِفت، وبرر رئيس المجلس هذا الإجراء بأن الصندوق عمل تنفيذي ومجلس النواب لا يتدخل في الأعمال التنفيذية، وهي الخطوة التي زادت من شكوك بعض النواب.
في الـ2 من ديسمبر الماضي، تساءل البرلماني السابق محمد أنور السادات، رئيس حزب الإصلاح والتنمية، قائلًا: الصندوق السيادي إلى أين؟ مشيرًا إلى أن البعض يتساءل عن خلو القانون من أي دور رقابى لمجلس النواب أو حتى المشاركة في تشكيل جمعيته العمومية ومجلس إدارته باعتبار أنه ستئول إليه أموال عامة ملك للشعب وما يحققه من فائض أو عجز سيكون مرجعه للموازنة العامة للدولة، وكذلك القروض التي يحصل عليها ستكون التزامًا على الدولة باكملها.
في تصريحات صحفية للسادات قال إن الصندوق سيخضع لنص المادة 124 من الدستور وهو في جميع الأحوال لن يكون (الصندوق) وإدارته أعلى قدرًا وشأنًا من ميزانية الجيش التي أكدت المادة 203 من الدستور في حديثها عن تشكيل مجلس الدفاع الوطنى بتمثيل ومشاركة رئيس مجلس النواب عند مناقشة موازنة القوات المسلحة.
حالة من القلق تخيم على الشارع المصري بشأن مستقبل أصول وممتلكات بلاده التي تقدر بنحو ما يقرب من 90% من أراضي الدولة
طرح البرلماني السابق عددًا من التساؤلات المسكوت عنها منها، هل من حق مجلس النواب مناقشة ومراجعة تقرير مراجعى الحسابات الخاص به ( الجهاز المركزى للمحاسبات) وغيره؟ وهل هناك علاقة عما تردد مؤخرًا عن اعتزام إحدى الدول العربية الشقيقة على خلق منصة للاستثمار مع مصر في حدود 20 مليار دولار، مستخدمةً أصول هذا الصندوق والدخول في عمليات شراء وبيع أو مشاركة أو اقتراض؟، منهيًا تساؤلاته بسؤالٍ آخر، هل من مجيب؟
وكانت قد تناقلت بعض المواقع الإخبارية أنباءً عن إقرار الحكومة بعض التعديلات على قانون إنشاء الصندوق من شأنها تحصينه ضد الرقابة والمساءلة من أي جهة، وهو ما نفاه المركزالإعلامي لمجلس الوزراء، الذي أوضح أن الصندوق والصناديق الفرعية التابعة له تخضع للرقابة بشقيها المالي والقانوني، وذلك لمراقبة أعماله، كما يراجع مراقبو حسابات حساباته، كما ذكر سابقًا.
تخيم على الشارع المصري حالة من القلق بشأن مستقبل أصول وممتلكات بلاده التي تقدر بنحو ما يقرب من 90% من أراضي الدولة، وسط حالة من الغموض المخيم على الأجواء المحيطة بإنشاء هذا الصندوق الذي لم تتضح بعد طبيعة تلك الأصول ولا قيم أو حتى توقيت نقلها، كما أنه لم يحدد دور السلطة التشريعية في عملية النقل تلك، وهو ما يجعل السيناريوهات كافة مباحة.