ترجمة وتحرير نون بوست
يلتقط أمير البنون خاتمًا فضيًا ثقيلًا مرصعًا بحجر يمني عقيق، ويقلبه في يده وينظر إليه بعناية، كانت شقته مزدحمة بالأشياء التي جمعها بنفسه وخزنها في كل زاوية وركن في المنزل، خواتم وأحجار كريمة ومجوهرات وزخارف على أسطح الأرفف والطاولات.
كان الخاتم الفضي واحدًا من مئات القطع الأثرية التي جمعها منذ انتقاله إلى منيسوتا في الولايات المتحدة الأمريكية قبل 20 عامًا، التي جعلته يشعر بأنه على بُعد خطوة من الوطن، ولد البنون في البصرة والآن يعيش في شقة صغيرة في كون رابيدز وهي ضاحية شمال مينوبوليس الشهيرة بمنتزهاتها وحياتها البرية.
تعد القطع المرتبطة بوطنه كنوزًا خاصة، يقول البنون: “لقد جمعت العديد من القطع التي جاءت بها السفن الراسية في ميناء الفاو بالبصرة مسقط رأسي، لقد كانت البصرة منذ القدم مركزًا تجاريًا كبيرًا”، إحدى هذه القطع نموذج لسفينة مصنوعة من البلوط وبالحبال والشراع التقليدية بخلاف القطع الحديثة التي تستخدم آلات حديثة، لعقود طويلة كان صيادو البصرة يستخدمون هذه السفن في الصيد.
يقول البنون: “لدي 3 سفن ملونة يعود تاريخها إلى 1929، عندما أراهم أشعر أنني عدت إلى البصرة حيث نشأت، إنهم جزء من ثقافتنا ويجب الحفاظ عليهم”، يقول البنون – 57 عامًا – إنه اكتشف هذا الشغف لديه عندما كان في الـ14، فقد اعتاد أن يرى والده وهو يجمع حبات السبح والخواتم القديمة.
في البصرة عمل البنون كعامل حيث كان يقبل بأي وظيفة تشغله، والآن لا يعمل البنون لكنه يقضي أيامه كجامع للقطع، فهو يستيقظ في ساعات الصباح الأولى ليتصفح الإنترنت بحثًا عن قطع جديدة للبيع.
ما بين القطع العملية والمزخرفة ينتقي البنون قطعه بشكلعشوائي، المهم أنها تذكره بالعراق، يقول البنون: “بالنسبة لي إنه عمل الحب، وظيفة بدوام كامل، إنني أحتفظ بهم من أجل الذكريات حيث أشعر دائمًا أنني في منزل أسرتي بالبصرة”.
الفرار من العراق
كان والد البنون يعمل محاسبًا في مجلس البصرة قبل إعدامه من نظام صدام عام 1986 بسبب انضمام أخيه إلى حزب الدعوة المعارض، لذا فر البنون من العراق عام 1991 خوفًا من اتهامه بسبب أفكاره السياسية، فقد أصبح معروفًا بمعارضته للنظام، يقول البنون: “لقد فررت إلى السعودية وبقيت هناك 6 سنوات في مخيم رفحاء للاجئين وسط الصحراء”.
بعد انتفاضة الشيعة جنوب العراق التي قمعها صدام حسين في أعقاب حرب الخليج عام 1991، انتهي الأمر بنحو 33 ألف عراقي لاجئ في مخيم الرفحاء بالسعودية، يقع المخيم على بعد 20 ميلًا جنوب الحدود العراقية بالقرب من قرية الرفحاء السعودية وكان محاطًا بسياج عالية وحراسة مشددة من الجنود السعوديين، وجد اللاجئون أنفسهم في عزلة فلم يكن هناك حياة داخل المخيم ولم يكن مصيرهم معروفًا.
يقول البنون إن ظروف الحياة في المخيم أثرت عليه جسديًا ونفسيًا، فما زال يعاني من أعراض الانزلاق الغضروفي الذي أصابه في تلك الفترة، ورغم وصف المخيم بأنه فخم ومزود بمكيفات هواء ورعاية طبية، فإن العديد من النزلاء ومن بينهم البنون أبلغوا عن سوء المعاملة، وفي النهاية تمكن من مغادرة المخيم بمساعدة مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، التي ساعدت على إعادة توطين آلاف العراقيين فيما لا يقل عن 12 دولة مختلفة.
وصل البنون إلى الولايات المتحدة عام 1997 وحصل على منحة رسمية بسبب إعاقته ونُقل إلى منيسوتا التي تضم 5 آلاف مهاجر عراقي، قام المجلس المحلي للمدينة بتغطية إيجار شقته الشهري ومنحه 700 دولار شهريًا لمصروفاته، عندها بدأ البنون في العودة إلى شغفه القديم بجمع التذكارات الذي استلهمه من والده الراحل.
يقول البنون: “أول ما اشتريته في فترة المراهقة بالعراق كان مجموعة من سبح الصلاة وخواتم قيمة مثلما كان يجمع أبي، لكن أول ما جمعته في أمريكا كان لوحة مرسومة للسيد المسيح”.
الحفاظ على الذكريات حية
سافر البنون إلى عدة ولايات من تكساس وحتى أريزونا حيث مناطق البيع وتصاريح المنازل بحثًا عن قطع أخرى ليجمعها، وفي أثناء قيادته إلى أحد مراكز التبرعات أو المتاجر الخيرية التي تبيع قطعًا مستعملة كان البنون يستمع إلى الموسيقى العراقية التي يحتفظ بنسخة لها في سيارته، يقول البنون: “عندما أستمع إلى الأغاني العراقية القديمة أشعر أنني أقود في شوارع البصرة، أتمنى أن أعود يومًا ما عندما يصبح وطني آمنًا وبلا فساد”.
لكن العودة إلى العراق ليست خيارًا الآن، فقد خلفت الاحتجاجات التي انضم إليها عشرات الآلاف أكثر من 500 قتيل وآلاف المصابين، يطالب المتظاهرون بإنهاء الفساد والبطالة ونقص الخدمات العامة، يقول البنون: “أشعر باليأس لما يحدث في وطني إنني أبكي عندما أشاهد منظر الدم في كل مكان، أتمنى لو أستطيع العودة للوطن لكن عندما أفكر فيمن يحكم العراق الآن أخشى الفكرة، فحياتي تستحق أكثر من رصاصة، تلك الرصاصة التي لا تكلف أكثر من دولار يمكنها أن تنهي حياتي”.
كنوز خالدة
من بين مقتنيات البنون وعاء القهوة المسمى الدلة، كانت الدلة لقرون الوعاء التقليدي لإعداد وتقديم القهوة في العالم العربي، وحسب التقاليد يُقدم فنجان القهوة للترحيب بالضيوف، من بين المقتنيات الأخرى مصباح الزيت أو الفانوس، وهو يشبه المصباح الذي كانوا يستخدمونه في العراق عند انقطاع الكهرباء.
لكن شغفه يتجاوز الآثار العراقية، يقول البنون: “إنني أحب جمع الأشياء، حتى إنني أعتني بها أكثر مما أعتني بنفسي”، بحتفظ البنون كذلك بمراجع كثيرة مثل كتاب “The Book of Stones” الذي يرجع إليه دائمًا في دراسته للأحجار الكريمة التي تكتسب مكانة خاصة في التاريخ الإسلامي، وهناك أيضًا كتاب “Gemstones of the World” الذي يضم ملاحظات بشأن أكثر من 1800 حجر كريم، وكتاب “The Crystal Bible” الذي يحكي عن تفاصيل أكثر من 200 بلورة.
يقول البنون: “من المهم أن أعلم العمر الحقيقي لكل قطعة أجمعها، يقول أصدقائي عند زيارتي إن شقتي عبارة عن متحف صغير”، هذه التعليقات هي التي تحفزه وتمنحه الفرح، لكنه يصر على أن أمنتيه الحقيقة أن يعيش كل ما جمعه طوال حياته خارج حدود الوطن.
يضيف البنون: “عندما أموت سوف يحصل شخص ما على مقتنياتي الأثرية، جمع الآثار شغف ويمنح الإنسان نظرة ثاقبة على ثقافته بدرجة لا يتعلمها حتى في المدرسة، يجب أن يعلم العراقيون المولودون في أمريكا بشأن تراثهم الفخور”، وعنده سؤاله إذا ما كان سيشارك هذه المقتنيات مع أي شخص في حياته يقول بوضوح: “ربما أبيع نفسي لكنني لن أبيع أيًا من مقتنياتي”.
المصدر: ميدل إيست آي