شغل اللقاء الذي جمع بين رئيسي مخابرات نظام الأسد علي مملوك ونظيره التركي هاكان فيدان الرأي العام السوري، كونه أحد أندر اللقاءات على المستوى الرسمي منذ لقاء وزير الخارجية التركي السابق أحمد داوود أوغلو لبشار الأسد في دمشق في أغسطس/آب 2011، حينها كان اجتماع أوغلو مع الأسد بغية نقل رسالة للأخير بأن يوقف البطش الذي يواجه به الانتفاضة.
خلال السنوات التي تلت انطلاقة الثورة السورية، بدا واضحًا الموقف الرسمي التركي من قضية الشعب السوري وانحيازها إليه، ومقاطعتها لرئيس النظام بشار الأسد بالأشكال كافة، كما أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لطالما حذر الأسد من ارتكاب المجازر بشعبه، في الوقت الذي فتحت فيه تركيا أبوابها لملايين اللاجئين السوريين الفاريّن من جحيم الحرب التي يشنها الأسد، وما إن اقتربت نيران الحرب من الحدود التركية حتى بدأت إجراءاتها الأمنية المشددة تجاه خطها الحدودي، الذي تتنوع وجود القوى فيه فتارةً يسيطر عليه الأسد وأخرى يوجد تنظيم “داعش”، ليستقر الأمر لسنوات بوجود عناصر الوحدات الكردية العدو اللدود لأنقرة.
تأخر تدخل أنقرة في سوريا، إلى أن جاءت عملية درع الفرات التي بدأتها لدحر تنظيم “داعش” من بعض المدن والقرى الحدودية كان أهمها مدينتي الباب وجرابلس، وبهذا تم تشكيل منطقة شبه آمنة على مساحة صغيرة من ريف حلب الشمالي وحمته من القصف الجوي، فتحت هذه العملية الباب أمام معارك عديدة كان أهمها غصن الزيتون التي استولت بها على عفرين وبعدها عملية نبع السلام التي فتحت الباب لمرحلة جديدة من الوجود التركي في شماليّ سوريا بالاتفاق مع واشنطن وموسكو، وخلال كل هذه السنوات التي سبقت التدخل العسكري وتلته، كان النشاط المخابراتي التركي على الأرض السورية ذا فعالية كبيرة خصوصًا في الأماكن المشتعلة بالقرب من حدودها.
عمل جهاز الاستخبارات التركي منذ بداية الأزمة السورية على عدّة مهام في سوريا منها ما ظهر للعلن ومنها ما لم تتضح مهمته، إلا أن هذا النشاط المخابراتي لاقى الكثير من الأخذ والردّ والاتهامات، حتى إن بعض التقارير من المواقع والصحف الغربية دأبت على إصدار التقارير التي تروي حوادث دعم للجماعات الإسلامية المتشددة وتسهيل وصول السلاح والعناصر إليها في الحرب الدائرة، مثل “داعش” وغيرها. في هذا التقرير نسلط الضوء على بعض الأدوار التي نشطت بها عناصر المخابرات التركية في سوريا والعمليات التي تؤديها.
تواصل مع النظام
على هامش الاجتماعات من أجل ليبيا في روسيا عقد رئيس مكتب الأمن الوطني التابع للنظام السوري علي مملوك، ورئيس جهاز الاستخبارات التركي هاكان فيدان، اجتماعًا هو الأبرز من نوعه منذ سنوات، وبهذا الاجتماع طلب مملوك من فيدان أن تلتزم بلاده باتفاقية “سوتشي” الموقعة بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين، في سبتمبر/أيلول 2018، بشأن إدلب، من جهتها نقلت بعض الصحف التركية “أن الاتصالات بين أنقرة ودمشق استمرت طوال الفترة الماضية على صعيد مؤسسة المخابرات”، مشيرةً إلى أن الاتصالات بين الجانبين كانت تتم بشكل مباشر وبشكل غير مباشر عبر الوسيط الروسي.
أنشأت تركيا اتصالات تنسيقية في المرحلة السابقة بحكم وجود نقاط عسكرية لها في إدلب وريفها لمراقبة منطقة خفض التصعيد، ويُعتقد أنه كان لزيارة بوتين إلى دمشق ومن ثم أنقرة في الأيام الماضية أثرًا في هذا اللقاء، ولفتت صحيفة تركية إلى أن موضوعات الاجتماع بين الطرفين لم تدخل في مواضيع سياسية البلدين إنما “استخدام المجال الجوي السوري كان من أهم المواضيع التي تم ويتم تناولها خلال المباحثات بين أجهزة الاستخبارات، إلى جانب موضوعات أخرى كمكافحة تنظيم الدولة، وأنشطة الوحدات الكردية المسلحة، وإنهاء الاضطهاد الذي يتعرض له الشعب السوري في إشارة إلى إدلب”.
وعلى الرغم من نعت أردوغان لرئيس النظام السوري بـ”الإرهابي” عدّة مرات، فإن حزب العدالة والتنمية دافع من خلال تصريحاتٍ سابقة في العام الماضي عن وجود اتصالات استخباراتية بين نظام الأسد وتركيا، وقال عمر جليك المتحدث باسم الحزب: “لا عيب في عقد اجتماعات بين وكالة المخابرات التركية ونظيرتها السورية لوقف القتال في سوريا”، مضيفًا “وكالات المخابرات التابعة لنا وعناصرنا في الميدان بإمكانها عقد أي اجتماع تريده في الوقت الذي تراه مناسبًا لتجنب وقوع أي مأساة إنسانية أو في ضوء بعض الاحتياجات”.
وصرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن حكومته أبقت اتصالات “على مستوى منخفض” مع النظام السوري عبر جهاز الاستخبارات، وقال في تصريحات سابقة: “السياسة الخارجية مع سوريا تتم على مستوى منخفض”، فاتحًا الباب أما التواصل مشيرًا إلى أن “أن أجهزة الاستخبارات بإمكانها البقاء على تواصل حتى إن كان التواصل مقطوعًا بين القادة”، مرجعًا ذلك إلى: “حتى مع عدوك، فإنك لا تقطع العلاقات بشكل نهائي، فقد تحتاج إليه”.
العلاقة مع المعارضة
بدأ رئيس المخابرات التركي هاكان فيدان بعد أغسطس 2011 في توجيه جهوده لتعزيز قدرات الثوار عن طريق السماح للسلاح والمال والدعم اللوجستي بالمرور لمعقلهم في شمالي سوريا التي تقع على الحدود مع بلاده، بالوقت الذي دعمت فيه تركيا الفصائل بالسلاح ضد التنظيمات الكردية، كما أن المخابرات التركية كانت على اجتماع دائم مع قيادات الصف الأول من المعارضة وقادة التشكيلات المسلحة في خطوة لعرقلة احتمالات قيام دولة كردية.
ويتضح من خلال الجولات العسكرية التي يجريها قادة الجيش التركي على الحدود السورية لمراقبة العمليات وجود قادة من المخابرات التركية لما للعمل الاستخباراتي من أهمية في الشأن السوري، وفي عام 2013 أعلنت صحيفة يني شفق أن جهاز الاستخبارات التركية تمكن من إحباط 20 هجومًا على رموز وقادة المعارضة السورية في تركيا، كما يتخذ جهاز المخابرات التركي إجراءات أمنية مشددة لضمان سلامة وحياة 50 من قادة المعارضة السورية في البلاد خوفًا من محاولات اغتيال وعمليات خطف محتملة من جانب أنصار النظام السوري.
عمليات خاطفة
اعتقلت المخابرات التركية زوجة زعيم “داعش”، حيث قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على إثر مقتل البغدادي: “الولايات المتحدة قالت إن البغدادي قتل نفسه في نفق. لقد بدأوا حملة دعاية بشأن هذا، لكنني أعلن هنا للمرة الأولى: لقد اعتقلنا زوجته ولم نحدث جلبة بشأن الأمر مثلهم. وكذلك، اعتقلنا شقيقته وصهره في سوريا”، وبعملية خاطفة وفي العمق السوري وفي المدينة الأشد تحصينًا لأنصار النظام السوري، ألقى جهاز الاستخبارات التركي القبض على يوسف نازيك بمدينة اللاذقية، وهو مخطط تفجير قضاء الريحانية بولاية هاتاي جنوبي تركيا، الذي راح ضحيته 53 شخصًا عام 2013.
وفي عملية أخرى يبدو أنها تتكرر خاصةً أنها تستهدف المليشيات الكردية نفذت المخابرات داخل الأراضي السورية عملية، أدت إلى القبض على تسعة أشخاص مطلوبين لها في مدينة عفرين بريف حلب، وقال والي هاتاي التركية، أردال أطا: “الاستخبارات التركية ألقت القبض على تسعة إرهابيين في منطقة في بلدة راجو، شمال غربي عفرين، وجرى نقلهم إلى البلاد بهدف محاكمتهم”.
لم تقتصر العمليات التركية على إلقاء القبض على مطلوبيها، بل تعدتها لتحرير مختطفين وتأمين انشقاق عناصر من الوحدات الكردية، فأنقرة قالت إن إنقاذ الصحفي الياباني جومبي ياسودا جاء على يد أجهزتها الأمنية والاستخباراتية بعد نقله من محافظة إدلب في سوريا، وردًا على سؤال عن كيفية إنقاذه، قال والي منطقة هاتاي: “لم تُنفذ أي عملية عسكرية لإنقاذه، فالعثور عليه جرى بعد عمل دؤوب من الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التركية”.
إضافةً إلى ذلك عملت المخابرات التركية على تأمين انشقاق طلال سلو المتحدث السابق باسم “قوات سوريا الديمقراطية” المصنفة كفصيل إرهابي في أنقرة، وكان لانشقاق سلو أهمية كبيرة من خلال المعلومات العسكرية والأمنية التي يعرفها، والخاصة بالقوات الكردية، وفي السياق أعدت المخابرات التركية قائمة بـ400 شخص في إدلب ثبت ضلوعهم بأعمال “إرهابية” بهدف اعتقالهم، وتضم القائمة عناصر في مخابرات النظام ومن حزب العمال الكردستاني وعناصر من “داعش”، كما أن تركيا تستهدف شخصيات معادية لها مصنفة ضمن “قوائم الإرهاب”، وتضم القوائم في تركيا خمسة أقسام فرعية وهي الحمراء والزرقاء والخضراء والبرتقالية والرمادية.
في إدلب
قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إن المخابرات التركية تقوم بدور رئيسي لتنفيذ اتفاق إدلب، الموقع مع روسيا، وأضاف أردوغان: “منظمة الاستخبارات الوطنية التركية (MIT) تقوم بدور رئيسي لإنشاء منطقة منزوعة السلاح في إدلب”، مشيرًا إلى أن “معظم الأعباء في إدلب تقع على المخابرات التركية”، وتلعب المخابرات التركية دورًا كبيرًا في المنطقة المشتعلة، وبحسب جريدة “عنب بلدي” السورية، فإن “العقبة الأساسية التي تعيق أي تقدم في ملف إدلب هي جبهة النصرة وتستمر المخابرات التركية بالتفاوض معها لحل نفسها والاندماج مع باقي الفصائل العسكرية، لإبعاد ذريعة “الإرهاب” عن المحافظة التي تتمسك بها روسيا والنظام السوري”.
كانت أنشطة المخابرات رديفةً للفعاليات العسكرية والسياسية التركية المعنية بالشأن السوري، ومن خلال تصريحات أردوغان بأن المخابرات كانت في سوريا منذ اليوم الأول، يتبين أهمية الدور الذي اضطلعت به، حيث عاصرت التطورات الميدانية وشاركت بصناعة الأحداث من خلال تدخلها خاصةً في الشمال السوري المحاذي لها.