نستيقظ كل يوم على ظهور “أغنية مهرجان مصري” جديدة بكلمات غريبة كـ”شقلطوني في بحر بيرة” و”أنا مافيا” و”أنا شطة”، تجتاح مواقع التواصل الاجتماعي، بل وتتصدر قائمة البحث في محرك “جوجل” وقائمة “اليوتيوب”، وأصواتها تملأ الشوارع والمقاهي وحفلات الزفاف لفئات المجتمع بأكملها، ويسمعها المثقف وصاحب الثقافة المحدودة، في ظاهرة أصبحت محل دراسة حقيقية عن ماهية هذه الأغاني، وهل لها خلفية تاريخية وكيف تطورت، ولماذا تنتشر بين الناس.
ما بين الأغاني الشعبية وأغاني المهرجانات
إن تداخل المفاهيم ببعضها البعض، يحدث نوعًا من اللبس وفقدان المعنى لمغزاه، فاليوم يتم تداول مصطلحات كثيرة لتأطير هذا النوع من الأغاني، فهناك من يُصنفها تحت قائمة “الأغاني الشعبية” وهناك من يُطلق عليها “أغاني هابطة”، والأكثر رواجًا في الآونة الأخيرة هو مصطلح “المهرجانات”.
أما عن الأغنية الشعبية فهي تلك التي ترتبط بمكان وبيئة وجماعة ما من البشر، كأهل الريف أو الصحراء، التي تُغنى في مناسبات وأعياد ومواسم معبرة، وأصحبت موروثًا شعبيًا يتداوله الأجيال، أما الأغاني الهابطة فهي التي تحمل كلمات رديئة وبذيئة.
أما أغاني المهرجانات فهي تلك التي تعبر عن حالة المهرجان الغنائي، بسبب إمكانية مشاركة أكثر من مطرب في أغنية واحدة، يردون وينادون على بعضهم البعض بكلمات مختلفة على نفس الإيقاع الموسيقي الذي يكون صاخبًا بالعادة، يغنيها أشخاص بأسماء مستعارة لم يدرسوا الفن، وتحمل أغانيهم نفس نوع الموسيقى: خليطٌ من موسيقى الراب والتكنو أو موسيقى إلكترو-شعبي بصبغة محلية، ويصنفها البعض على أنها فرع من الأغاني الشعبية.
أنشأ هذا النوع من الغناء شباب ليسوا على درجة كافية من الوعي، أعقاب ثورة 25 يناير 2011، حيث كانت أغاني المهرجانات غالبًا تتحدث عن مشكلات الفقر والتهميش والمخدرات والصداقة وموضوعات سياسية، وبعد مدة تطورت هذه المهرجانات من حيث الموسيقى فأصبحت أكثر صخبًا وأسرع إيقاعًا، وتتحدث عن المشاكل لكن بشكل ذكوري وعدواني للغاية ويصنفه البعض بالـ”بلطجة”، لكن في الوقت نفسه أصبحت مكانًا للرقص والمرح عند الرجال والنساء والفقراء والأغنياء.
لماذا تنتشر أغاني المهرجانات بهذا الشكل؟
لا بد أن يدور هذا السؤال في بال الكثير من الناس، فكيف لك أن تنسجم مع أغنية كلماتها: “ينفع كده لأ لأ، يرضيكوا كده لأ لأ”، أو “مبخافش من حد ولا عمري بكش”، فهذا الأمر أصبح محلًا للدراسة لمعرفة الأسباب وراء ذلك، لأن أغاني المهرجانات أصبحت منتشرة عربيًا وعالميًا.
ذكرت دراسة فنية أشرفت عليها جامعة كاليفورنيا إرفاين الأمريكية البحثية، أن الأغاني “الأكثر تحفيزًا على الرقص” أكثر نجاحًا من غيرها، الأمر الذي قد يفسر نجاح ظاهرة أغاني المهرجانات التي تعتمد على الموسيقى الصاخبة الراقصة والكلمات الشعبية البسيطة، وغالبًا ما تلخص قصة إنسانية، لكن أنغامها الراقصة جعلتها تحقق انتشارًا كبيرًا في العالم العربي.
سهولة العمل
لا يحتاج هذا النوع من العمل إلى تكلفة مادية ولا حتى إستوديو خاص لتسجيل هذه الأغاني التي يتم تسجيلها في البيت من خلال جهاز كمبيوتر، ومن ثم نشرها على “اليوتيوب” وتسويقها مجانًا ومن ثم الحصول على مجموعة واسعة من المعجبين في غضون ساعات، بعدها تنتشر في الأحياء الشعبية وتنطلق في كل مكان، حتى تحدث حالة ليظهر مغني المهرجان بعد ذلك في البرامج الحوارية والأفلام.
وتجدر الإشارة إلى أن كلمات معظم هذه الأغاني سهلة ومتداولة في الشارع، ومنها أيضًا ما أصبحت متداولة بعد سماعها في الأغنية، وبذلك فهي “Catchy”، أي أنها سهلة الالتقاط والتعلق في الأذهان.
الرقص الجديد
أسلوب رقص المهراجانات الشعبية جديد ودائمًا ما يتم تطويره على مدرسة الهيب هوب الآسيوي، وغالبية الشباب اليوم يحبون إجادة هذا النوع من الرقص، وبذلك تعمد هذه الأغاني إلى وضع الرقصة الحماسية في الفيديو الخاص بالأغنية.
ملابس الشارع
يحب الشباب أن يروا ما يطابق ذوقهم العام في الأزياء، وغالبًا ما تجد أن مغني المهرجان يرتدي ملابس الشاب العادي في أي شارع من الشوارع الشعبية التي تمثل شريحة عظمى في المجتمع المصري والعربي، وهي البنطال الجينز الضيق والتيشيرت أو السترة وحزام الكبير، وأحيانًا قبعة بيسبول.
البطل البلطجي
بعد الأحداث التي سادت أغلب المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة وفي مصر تحديدًا، أصبحت غالبية المسلسلات والأفلام تركز في قصصها على قصص الأحياء الشعبية والعشوائيات التي تنتشر بالقصص البطولية “البلطجية” والشهامة من هذا المنطلق، ونالت إعجاب جماهيري واسع، فأصبحت هذه الأغاني تُحاكي السينما في رؤيتها كنوع من استغلال للفرصة في الشهرة.
وضع المجتمع
يقول مصطفى خضري رئيس المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام، في حوار سابق له عن هذه الأغاني بأنه لا يمكن فصل انتشار الأغاني الهابطة عن الوضع النفسي والمجتمعي باعتبار أن الفنون المعبر الحقيقي عن حالة المجتمعات، والنظام السياسي يشجع مثل تلك الفنون من خلال أذرعه الإعلامية والإنتاجية، “وبعد أن كان الفن المصري أحد أهم القوى الناعمة في محيطنا الإقليمي أصبح أداة لإفساد الذوق العام وتشويه صورة المجتمع المصري بالخارج”.
وفي وجهة نظر أخرى، اعتبر بعض النقاد أن أغاني المهرجانات أيضًا ثورة لأنها متمردة على كل شيء، على النمطية الموجودة في الأغاني ومتمردة على الذوق العام الذي أصبح سائدًا وبالتالي لذلك فهي تعبر عن الذوق العام، وآخرون رأوا أنها مجرد تعبير عن ثقافة الطبقة التي خرجت منها هذه الأغاني ومن حق كل طبقة أن تعبر عن نفسها، فهذه الطبقة الفقيرة كانت مهمشة للغاية من الإعلام وتم ترويج ثقافة أنها خطيرة على المجتمع وغير سهل التعامل معها، إلى أن ظهرت أغاني المهرجانات الشعبية تعبيرًا عن ثقافة الفقراء.
تأثير أغاني المهرجانات على المجتمع
ما بين مدح وذم، تحدث الكثير من الاختصاصيين النفسيين عن تأثير أغاني المهرجانات على الفرد والسلوك العام من ناحية علمية، واتفق أغلبهم على أنها تؤدي إلى جعل المستمع ضحية للظروف وتواسيه ليرضى بالقليل وتلهيه عن أهدافه وتجعله يقلدهم في كل شيء وتهدم الثقة بين الناس وتُفسد الذوق العام.
أما الآثار الأكثر خطورة وتدميرًا تكمن في تأثيرها على السلوك العدواني والأخلاقي بحسب الاختصاصيين، فهي تحول المستمع لبلطجي، لأن كلماتها عنيفة وفرضية ويحملون الأسلحة البيضاء وتدعوا لتعاطي المخدرات، فرفقاء الدرب لأغاني المهرجانات هما زجاجة الخمر ومخدر الحشيش.
وعن الهدم الأخلاقي، فأغاني المهرجانات مليئة بالألفاظ الخارجة التي لا تناسب أي بيئة كانت فيما يخص الخمور والمخدرات والألفاظ الخادشة التي قد تقدمها النساء في بعض الأحيان والإيحاءات الجنسية المنفلتة، وهنا يكون الأطفال والمراهقون عُرضة لتعلم تلك الألفاظ والأفعال، وهذا ما أثبتته الكثير من الدراسات بتأثر الطفل بما يشاهده.
هل أغاني المهرجانات لها خلفية تاريخية؟
في واقع الأمر، فإن كل شيء له خلفية تاريخية أدت لظهوره، وبالرجوع للنقطة الأولى “ما بين الأغاني الشعبية وأغاني المهرجانات والأغاني الهابطة”، فيمكننا تتبع هذا النوع من خلال العودة إلى الأساس وهو الأغنية الشعبية في مصر، ويمكننا ملاحظة أنها كانت تظهر بالتزامن مع أحداث وظروف اقتصادية أو سياسية صعبة.
منذ مطلع القرن العشرين، ظهر في مصر والوطن العربي مطربون يصفهم النقاد بأنهم لن يتكرروا، بالنظر إلى ما قدموه من فن راقٍ وعذب وكلمات غنوها لأشهر الشعراء العرب وأعرقهم، وحتى المغنيين الشعبيين آنذاك الذين أعلوا من شأن الفن العربي ونالوا الاحترام والتقدير على مر الأجيال، كوكب الشرق أم كلثوم أو موسيقار الأجيال عبد الوهاب ومن عاصرهم.
ولكن هناك حقيقة صادمة بأن هؤلاء العظماء كأم كلثوم وعبد الوهاب – بقصد أو دونه -، ساهموا في وضع اللبنة الأولى في إدخال الكلمات الهابطة بالأغاني الشعبية منذ عشرات السنين، التي انبثقت عنها أغاني المهرجانات اليوم.
في عام 1953 اعترض الرئيس جمال عبد الناصر على الأغاني المُسفة المُنتشرة آنذاك
إسفاف أم كلثوم وعبد الوهاب!
أولى خطوات “الإسفاف” كما يصفه النقاد، كانت عام 1926، عندما غنت أم كلثوم “طقطوقة” بعنوان “الخلاعة والدلاعة مذهبي” وتُكمل “من زمان أهوى صفاها والنبي”، غنتها في بداية رحلتها الفنية، وتم تصنيفها على أنها من “الهنك والرنك”، وهذا يعني الأغاني الخارجة في ذلك الوقت.
يقول المؤرخون إنه في عام 1953، اعترض الرئيس جمال عبد الناصر على الأغاني المُسفة المُنتشرة آنذاك، وجعلها تسحب أسطوانات الأغنية من السوق، واقترح عليها أحمد رامي أن تستبدل كلمات الأغنية بأُخرى على نفس اللحن، لتصبح “أنا اللطافة والخفة مذهبي”.
عام 1927، غنى عبد الوهاب “عشرة كوتشينة”، وكانت مُغايرة تمامًا عن الذوق العام السائد في هذه الفترة مما دفع البعض لوصفها بالهابطة، كما غنى سيد درويش أغنية “وأنا مالي ما هي إللي قالتلي” التي تحمل الكثير من الإيحاءات الجنسية، مما دفع درويش لإسنادها إلى المُطربة أمينة القبانية، ومن الإيحاءات الجنسية إلى التغزل في الخمر، حيث غنى “شمبانيا يا سُلطانة الخمرة” عام 1918، ضمن أغاني مسرحيات فرقة جورج أبيض.
وتوالى ظهور المغنيين الذين تغنوا في حب الخمر أو الجنس، حتى لمع نجم ملكة “الكُخة والدحة” كما أطلق عليها الجمهور، وهي رتيبة أحمد، وذلك بعدما غنت “أنا لسه في الحب نونو” التي تقول فيها “الحب دح دح والهجر كُخ كُخ”، وأغانٍ كثيرة خارجة عن الآداب العامة، ويمكن ملاحظة أن في تلك الفترة كانت مصر والوطن العربي يعانون من مشاكل الاحتلال والانحلال الأخلاقي والسياسي.
الانحدار بعد نكسة 67
تحدث المؤرخون والكتاب باستفاضة عن حالة المجتمع المصري والعربي التي سادها السخط والحزن والكفر بالمبادئ، وتأثيرها على الأفلام والأغاني التي أصبحت لا تحمل معانٍ، وكان الكثير منها مبتذلًا وأُطلق عليها “أغاني الهلس”، ولجأ الناس إليها ليبتعدوا عن الواقع وخيبة الأمل.
بعد النكسة ظهر المطرب الشعبي أحمد عدوية الذي يعتبره بعض النقاد “أبو الأغاني الشعبية”، ويعتبره البعض الآخر السبب التاريخي الرئيسي لظهور أغاني المهرجانات، وصنف آخرون فئة أغانيه بـ”أغاني الهلس”، نظرًا لأغانيه التي كانت تحمل كلمات غربية مثل: “السح الدح إمبو”.
ثم تبعه فرقة تقول “العتبة جزاز” وظهرت المغنية عايدة الشاعر صاحبة أشهر أغنية “هلس” في بداية السبيعنيات، وهي “الطشت قالي”، واستمرت هذه الأغاني بالتزامن مع ما سمي بـ”الأفلام التجارية” التي تخلو من الفكرة المهمة، حتى نهاية الثمانينيات.
بداية الألفية
يعتبر شعبان عبد الرحيم ثاني أهم شخصية في هذا المجال، وأول من استخدم الكلمات المتشابهة واللحن الواحد في أغلب أغانيه التي رأى أنه يعبر فيها عن طبقة الفقراء الشعبيين، ورغم عدم رضا نقابة الفنانين عن فنه، فإنه استمر خلال فترة أول الألفية.
خرج على نهج عبد الرحيم الكثير من المغنيين مثل سعد الصغير الذي غنى “بحبك يا حمار”، وغيره من المغنيين الذين نشروا أغانٍ إما تحتوي على كلمات بذيئة أو على كلمات ليس لها معنى حقيقي، حتى ظهرت المهرجانات في مصر بين 2005 و2007 وكان أول معرفة للمصريين بهذا النوع عبر “مهرجان السلام” بواسطة فنان يدعى عمرو حاحا، لتتوالى أعمال كثيرة جدًا لأغاني المهرجانات.
في ملخص ما ذكرناه، يمكن ملاحظة أن هذه الأنواع من الأغاني الهابطة أو المهرجانات أو مهما كان المسمى، تظهر بالتزامن مع آلام الشعب وظروفه الصعبة، ويرى أنه يعبر عن نفسه وشريحته الضخمة عبر هذه الكلمات التي قد يراها البعض لا تعني شيئًا.
المثير في الأمر أن الكثير من هؤلاء المغنيين أصبحوا مطلوبين لإحياء حفلات دولية وأغانيهم تغنى في دول أوروبية، وهذا دليل على نجاح هذا اللون، حتى إن بعض فناني المهرجانات يحاولون اقتحام الثقافة الأمريكية عن طريق خلط الكلمات العربية والإنجليزية لتصبح مسموعة من الجميع.