أحيت الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) الهستيريا حول زوال اتفاقية سايكس-بيكو، من خلال الإعلان عن نيتها في إحياء الخلافة، على الأقل في مواقعها الآن في الأراضي العراقية والسورية.
وبعد بداية الربيع العربي، تغير كل شيء بشكل مقلق، وأصبح يُخشى من أن تفكّك سوريا سيؤدي إلى تفكّك كل العمل الشاق الذي قام به السير مارك سايكس، ومعه فرانسوا جورج بيكو، بين عامي 1916 و1917، من أجل ترسيم الحدود في الشرق الأوسط. الحرب الأهلية في سوريا بدت وكأنها تنذر بتفكك الدولة والحدود، وهو ما كان سيخدم أغراضًا سنية عراقية، إسرائيلية، لبنانية شيعية، كردية، وتركية.
أنقرة، على سبيل المثال، هددت بالاستيلاء على مدينة إدلب السورية، إذا ما تجاوز تدفق اللاجئين إليها عتبة منخفضة جدًا، وهي العتبة التي عبرت بالفعل منذ وقت طويل. الأكراد في سوريا، في الوقت نفسه، كان يتوقع بأن يستقلوا بجانبهم من سوريا عن بقية البلاد، ومن ثم ينضموا لكردستان العراق. وعلى طول الحدود اللبنانية السورية، كان من المتوقع أن يقوم حزب الله بتوسيع أراضيه على حساب سوريا، للحفاظ على خطوط الاتصال مع الجيب العلوي الساحلي، إذا ما خسر الأسد السيطرة على بقية البلاد.
وكان من المتوقع أيضًا أنه، وإذا ما شعرت إسرائيل بالتهديد، فإنها سوف تفكر في دفع الحدود القائمة عند مرتفعات الجولان شرقًا، من أجل إقامة نوع من المنطقة العازلة بين المدن الإسرائيلية وسوريا. وقبل كلّ هذا، كان هناك خوف من أن الحدود العراقية السورية سوف تنهار، وهو ما تم بالفعل في نهاية المطاف. لكن، لا بدّ من الملاحظة هنا، بأن هذه الحدود العراقية السورية كانت مخترقة وهشّة لأجيال، نظرًا لطبيعة التضاريس والاتحادات القبلية الكبيرة على جانبي الحدود.
باختصار، وعلى الرغم من كل هذا الهرج الإقليمي، يبدو بأن سايكس-بيكو ما زالت على قيد الحياة، وتتمتع بصحة جيدة. وهذا لا ينبغي أن يكون أمرًا مفاجئًا، حيث إن الحدود البرية التي تستقر عبر التفاوض، وخصوصًا عندما تكون موثقة في معاهدة رسمية، تميل عادةً إلى أن تكون مستقرة، حتى حينما تكون العلاقات بين الدول المتجاورة متقلبة أو عدائية. والسبب هو أن تجاوز اتفاقيات الحدود سوف يدعو حتمًا إلى ردود فعل مزعجة، وخاصّةً في مناطق تقيم فيها جماعات عرقية أو قبلية لم تراعِ هذه الحدود مصالحها عندما تمّ الانتهاء من وضع الخرائط.
من الواضح أن حدوث تشققات في معاهدة سايكس-بيكو يتطلّب ما هو أكثر من حرب أهلية مدمرة في سوريا، أو حتى قبل ذلك، تحرير الأكراد نتيجة الغزو الأمريكي للعراق. المتشائمون، رغم ذلك، قد حددوا الآن تهديدًا جديدًا للخريطة القديمة، وهو الجهاديون الممثلون بداعش.
لا يمكن إنكار أن الجهاد العابر للحدود هو الحركة السياسية الأكثر ديناميكية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وبأنه أحد أشكال التعبير السياسي عن الذات التي يمكن أن يقال بأنّها انبثقت عن الانتفاضات العربية في 2010 و2011. ولكن فكرة أن داعش يمكنها محو كلّ الحدود الإقليمية هي فكرة ليست معقولة جدًّا، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى حقيقة أن المجموعة محشورة في الصندوق الذي بناه سايكس-بيكو.
على الرغم من أن الحدود بين العراق وسوريا قد تكون بالقرب من نقطة التلاشي، إلا أن هناك حدودًا أخرى لا تزال تعني شيئًا. في النهاية، أين تستطيع داعش أن تذهب بعد ذلك؟ أنقرة قادرة تمامًا على إبقاء المجموعة خارج حدود الأناضول. وفي الواقع، يبدو أنّها قد بدأت بالفعل بإغلاق بواباتها الحدودية. كردستان، أيضًا، سوف تبقي داعش خارج حدودها بفضل مساعدة الولايات المتحدة وفرنسا، وربما غيرها من الدول. السعوديون، وبمساعدة الولايات المتحدة كذلك، يمكنهم بالتأكيد إبقاء داعش خارج مملكتهم. الكويت، والتي لا تزال قاعدة انطلاق للجيش الأمريكي، هي أيضًا هدف مستحيل للمجموعة. وحتى للوصول إلى أي من هاتين الدولتين، فإن داعش عليها القتال في معقل الشيعة في بغداد، وهذا أيضًا يبدو غير قابل للتصديق. قد يقوم التنظيم بمحاولة غزو الأردن، ولكن الجيش الأردني هو أكثر قدرة من معظم الجيوش في الشرق الأوسط، ويمكنه الاعتماد على دعم الولايات المتحدة، وربما المساعدة العسكرية الإسرائيلية، لمواجهة أي تقدم لداعش. لبنان، وفي ضوء سياستها المتقلبة على الدوام، عرضة للتخريب من قبل داعش، ولكنها بلد صغيرة ينتشر فيها جهاز الأمن الداخلي بكثافة.
وبالنظر إلى الشرق، تبدو فكرة أن إيران، والتي تحملت سقوط مئات الآلاف من الضحايا لصد هجوم القوة الماحقة العراقية في الثمانينيات، سوف تذوب في مواجهة عدة آلاف من عناصر داعش، تبدو فكرة سخيفة أيضًا.
كواقع جيوسياسي، من الصعب أن نتصور أن داعش سوف تصبح فيضانًا يغمر جميع أنحاء المنطقة، مثلما فعلت الجيوش النازية في أوروبا في افتتاحية الفيلم الشهير “كازبلانكا” أو “الدار البيضاء”.
وهناك أيضًا مسألة القدرات. تراكمت لدى داعش بعض الخبرة العسكرية في ساحة المعركة، وهو ما يظهر في عملياتها. كان بإمكان التنظيم أن يقوم بتشغيل وصيانة الأسلحة الثقيلة التي استولى عليها من المخزونات السورية. ولكن الجماعة ربما لن تكون قادرة على أن تفعل الشيء نفسه مع العتاد الأمريكي الأكثر تعقيدًا، والذي استولت عليه من القوات العراقية. كما إن تراجع داعش السريع عن سد الموصل، أوضح أن الطائرات الأمريكية تستطيع تمزيق داعش عندما يخرج مقاتلوها للهجوم أو عندما يتوقفون لإقامة مدافع الهاون أو المدفعية.
ظهور داعش كقوة لا يستهان بها في الشرق الأوسط، وهو أمر مؤسف بشكل كبير، وهناك القليل نسبيًا مما تستطيع الولايات المتحدة وحدها القيام به حيال ذلك. لكن، ورغم هذا، من غير المحتمل أن تحدد هذه المجموعة إرث سايكس-بيكو، ناهيك عن المستقبل بعيد المدى للشرق الأوسط.
المصدر: فورين آفيرز / ترجمة موقع التقرير