ترجمة وتحرير نون بوست
مشهد الختام
يوم 15 أيلول/ سبتمبر من سنة 2019، ألقى الدكتاتور المصري عبد الفتاح السيسي خطابا في أحد المؤتمرات الشبابية التي يستخدمها النظام في الحملات الدعائية المحلية، توجه فيه باللوم بشكل مباشر إلى الاحتجاجات الجماهيرية التي اندلعت في سنة 2010 وما بعدها على تصاعد العنف السياسي في المنطقة.
طلبت مني قناة التلفزيون العربي التعليق على خطابه، وهكذا سلطت الضوء على مغالطة منطق السيسي الذي يتجاهل دور عنف الدولة والنظم الاستبدادية في إشعال الحروب الأهلية التي دمرت المنطقة، والوضع المتفجر المحتمل في مصر، وذلك بسبب الإغلاق الكامل للأماكن العامة.
عندما وضعت رأسي على الوسادة، لم أستطع إلا أن أفكر في الكيفية التي أصبحت بها حياتي سريالية، وراودني شعور بالغربة والذنب. وعلى الرغم من أنني كنت في المنفى، إلا أنني كنت على الأقل في مأمن من أن أُزج في زنزانة مظلمة ومكتظة، حيث كان من المحتمل أن يُلحق سوء الصرف الصحي والإهمال الطبي والبرد في فصل الشتاء أضرارًا بصحتي وعقلي. مع ذلك، مثل العديد من المنفيين، عانيت من التهميش والعزلة الاجتماعية والحنين إلى الوطن الذي لا ينتهي. أغمضت عيني، وككل ليلة، راودتني أحلام حول هذا الأمر.
المشهد 1
يوم 20 تشرين الثاني/ نوفمبر من سنة 2018، هاجمني مقدم البرامج نشأت الديهي شخصيًا، وهاجم كذلك مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي في برنامجه التلفزيوني. تعود ملكية قناة “تن” التابعة لأجهزة الأمن، مما يجعلني أدرك تمام الإدراك أنني مستهدف من قبلهم.
مثلت المقالة التي أثارت غضب الأجهزة الأمنية تقييمًا لأداء الاقتصاد المصري. تدعي هذه المقالة أن السياسات الاقتصادية الحالية تغذي أزمة الديون المتصاعدة، والتي تفاقمت بسبب الإنفاق العسكري غير الخاضع للمراقبة، إلى جانب مشاريع البنية التحتية الضخمة ذات المنفعة الاقتصادية المشكوك فيها.
في الواقع، لم تحظ المقالات العديدة التي كتبتها حول عمليات القتل المنفذة خارج نطاق القضاء وانتهاكات حقوق الإنسان المختلفة برد فعل عنيف. وقبل شهر من ذلك، في 22 تشرين الأول/ أكتوبر، اعتُقل عبد الخالق فاروق، وهو مؤلف كتاب ينقد الاقتصاد المصري، وصودرت نسخ من كتابه. اتُهم فاروق بنشر أخبار كاذبة، وهي تهمة بسيطة تستخدم لإسكات المعارضة.
أثبت مقتل ريجيني أن لا أحد في مأمن، ولا حتى الأوروبيين نادرًا ما يُناقش مصير هؤلاء الرجال، كما لو أن حياتهم وعائلاتهم وما تلاه من موت لا أهمية لها
المشهد 2
بتاريخ 25 كانون الثاني/ يناير 2016، اختفى طالب الدكتوراه الإيطالي جوليو ريجيني في القاهرة. وكان وقتها بصدد إجراء عمل ميداني يخص بحثه للدكتوراه حول النقابات العمالية في مصر. عُثر على جثته في وقت لاحق في مصرف بجوار طريق القاهرة -الإسكندرية الصحراوي، وكانت على جسمه علامات تعذيب مروعة. وتقرر فيما بعد أنه بعد تحمل التعذيب لعدة أيام، تسببت ضربة على ظهر الرقبة في وفاته.
في الرابع من كانون الأول ديسمبر 2018، وضع المدعي العام لروما خمسة أعضاء منتمين للشرطة المصرية ووكالة الأمن القومي على قائمة المشتبه بهم فيما يتعلق باختطاف وتعذيب وقتل جوليو ريجيني. وفي آذار/ مارس 2016، في محاولة للتستر على تورطها، ذكرت قوات الأمن المصرية أنها تعرفت على عصابة متكونة من خمسة رجال متهمين بخطف وتعذيب ريجيني. لكن، اُجبرت قوات الأمن فيما بعد على سحب هذا التصريح، حيث أصبح من الواضح أنه محاولة واهية للتستر على الجريمة.
أثبت مقتل ريجيني أن لا أحد في مأمن، ولا حتى الأوروبيين نادرًا ما يُناقش مصير هؤلاء الرجال، كما لو أن حياتهم وعائلاتهم وما تلاه من موت لا أهمية لها، ويُمثل ريجيني حياة أخرى سحقها الحكم الاستبدادي. ثبت أن مقتل ريجيني كان نقطة تحول شخصية، حيث أنه وجه رسالة إلى منتقدي النظام. وهو ما يعني أن الجميع في خطر، حتى الأوروبيون الذين لم يُسمح لهم بدخول مصر خلال سنوات حكم مبارك. وبالتالي، إن حيازة جواز سفر أوروبي لن يوفر الحماية أو الإعفاء المؤقت.
المشهد 3
بتاريخ 24 تموز/ يوليو 2013، طلب وزير الدفاع آنذاك، السيسي، من الحشد الشعبي والاحتجاجات الجماهيرية السماح له بمكافحة “الإرهاب”. أما الآن، يُعسكر أنصار الرئيس المخلوع، محمد مرسي، في ميدان رابعة والنهضة في القاهرة. مثّل ذلك مقدمة لأسوأ مذبحة للمتظاهرين في التاريخ المصري الحديث، ولحظة تأسيس للنظام العسكري الجديد، حيث قتل 817 متظاهر على الأقل. أدت هذه المذبحة إلى الاستقطاب الشديد للنظام السياسي المصري، فضلاً عن حلقة من العنف بين التمرد متزايد التطرف وقوات الأمن، التي أدت إلى مقتل المئات والتشجيع على الحرب بحجة الإرهاب، مما أدى إلى سجن الآلاف في ظروف سجن وحشية.
هذه هي الظروف التي أدت إلى وفاة محمد مرسي في 17 حزيران / يونيو 2019، في قاعة المحكمة في القاهرة. في آب/ أغسطس 2013، كتبت مقالتي الأولى لموقع أوبن ديموكراسي، حيث حاولت أن أوضح ما الذي كان على وشك أن يحصل، وحاولت بطريقتي الخاصة أن أُؤثر على مجرى الأحداث، أو على الأقل، هذا هو ما أخبرت نفسي به. إذا نظرنا إلى الوراء، أستطيع أن أقول بصراحة أنها كانت محاولة للتخفيف من الشعور بالذنب الذي كان يهدد بالسيطرة علي، لأنني كنت جالسًا خارج الحدود عندما وقعت المأساة. كان شعورا بالذنب لا يمكن تخفيفه إلا من خلال اتخاذ إجراءات من شأنها أن تؤدي إلى ما يبدو وكأنه حالة لا نهاية لها من النفي الاجتماعي والجسدي.
“يُعد التفكير في المنفى أمرا مثيرا للغاية، ولكنه أمر مروع عند تجربته. إنه شق غير قابل للشفاء ومفروض بين الإنسان ومسقط رأسه، وبين الذات وبيتها الحقيقي”
المشهد الافتتاحي
يوم الجمعة الموافق لـ 28 كانون الثاني/ يناير 2011، الذي عُرف لاحقًا باسم “جمعة الغضب”، كانت التوقعات عالية حيث نُشرت الدعوات للاحتجاج الرامية لإسقاط النظام، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك في محاولة لتقليد الانتفاضة التونسية. كنت جالسا في مكتبي الواقع في مدينة سويسرية صغيرة والمطل على الجبال، بينما كنت أتصفح صفحتي على الفيسبوك، محاولًا متابعة المستجدات من بدايتها.
زاد أملي في أن الوقت قد حان للعودة لإعادة بناء ما دمرته الديكتاتورية دخل مديري البريطاني للمكتب وحاول الدفاع عن ديكتاتورية مبارك باعتبارها “غير ضارة” وعلمانية، وعلى أنها بديل أفضل بكثير من الإخوان المسلمين. لم أهتم بما قاله، على الرغم من أنني سأتعرض لمحادثات مماثلة، ليس فقط مع الأوروبيين، ولكن مع زملائي المصريين أيضًا، وذلك أثناء دفاعي عن الانتفاضة الشعبية. على مدار الأسابيع الثلاثة التالية، لم أبتعد عن شاشة التلفزيون، حتى 11 شباط/ فبراير 2011، عندما تنحى مبارك عن منصبه. اتصلت بي والدتي في اللحظة التي تنحى فيها مبارك عن منصبه، وبدا أن فترة إقامتي في أوروبا انتهت. مرت سنتان فقط منذ أن غادرت مصر للدراسة، وازداد أملي حينها في أن الوقت قد حان للعودة إلى بلدي لإعادة بناء ما دمرته الديكتاتورية.
لم أكن أعرف أن كلمات إدوارد سعيد العظيمة سيتردد صداها بينما تمر السنوات، حيث يقول “يُعد التفكير في المنفى أمرا مثيرا للغاية، ولكنه أمر مروع عند تجربته. إنه شق غير قابل للشفاء ومفروض بين الإنسان ومسقط رأسه، وبين الذات وبيتها الحقيقي: إنه حزن أساسي لا يمكن التغلب عليه”. أما الآن، ما زلت أزور بلدي، في أحلامي.
المصدر: أوبن ديموكراسي