لا يعتقد “حزب الله” اللبناني وعلى رأسه أمينه العام حسن نصر الله، بوجوب الصمت وحل الخلاف في الغرف المغلقة عندما يتعلق الأمر بالعقيدة أو من يدافع عنها، ولا ينسى الرجل من قدم له العون يومًا ومن تركه وقت الشدائد، ولم يرد الحسنة بأفضل منها، لهذا كان فتح جبهة صراع مع كردستان العراق ومعايرة الإقليم ورئيسه السابق مسعود برزاني بالدعم الإيراني له، أقل رد اعتبار يمكن أن يقدمه لقاسم سليماني الذي لقي مصرعه ولم يحسن الأكراد التصرف بما يليق من وجهة نظره، فماذا حدث لكل ذلك!
هجوم كاسح
قبل أيام، شن أمين عام “حزب الله” اللبناني حسن نصر الله، هجومًا شرسًا على مسؤولي إقليم كردستان العراق، وخاصة رئيسه السابق وزعيمه التاريخي مسعود برزاني، وذكرّه أنه مدان بالكثير من الأفضال للجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الذي اغتيل رفقة نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس و8 أشخاص كانوا برفقتهما، إثر قصف صاروخي من طائرة مسيرة أمريكية، استهدفت سيارتين كانا يستقلانهما على طريق مطار بغداد.
الكلمة النارية التي وجهها نصر الله بمناسبة ذكرى “أسبوع شهداء محور المقاومة”، كشف فيها زيارة سليماني لمحافظة أربيل مع عدد من قيادات “حزب الله” للوقوف الميداني على حجم الضرر الذي أحدثه تنظيم داعش في المدنية، بعدما كاد أن يلتهم كل مدن العراق ويبني عليها خلافته المزعومة.
زعم حسن نصر الله أن مسعود بارزاني استقبلهم وهو يرتجف حينها، بسبب استشعاره بخطر داعش وما يمكن أن يحدث لهم إن سيطر أبو بكر البغدادي على الإقليم هو والمتوحشون التابعون له، وعلق للأكراد المشانق وساقهم إلى المذابح التي كانت تنتظرهم ولم تكن سترحمهم، بسبب الخلاف العقائدي بين التنظيم والأكراد.
كان واضحًا أن نصر الله يهدف إلى كسر كرامة مسعود برزاني والانتقاص من شأن ومكانة زعيم الأكراد، لا سيما أن برزاني معروف بين أتباعه بالشجاعة والبسالة، في ظل امتلاكه سمات شخصیة القائد، ودائمًا ما كان يظهر وهو على درجة عالية من الثقة بالنفس والاتزان الانفعالي والسیطرة والذکاء، وهي صفات حاول الأمين العام لـ”حزب الله” نزعها عنه، بإعادة ذاكرة الساعات الحرجة التي تعرض لها بعد اقتراب التنظيم من عقر داره وتدبير داعش محاولات اغتيال عدة بحقه، بأبشع الطرق المعروفة عنهم، سواء عن طریق القصف والمفخخات أم استهدافه بالقناصة خلال إشرافه على الهجوم لتحریر مدینة سنجار، ضمن قوات البیشمركة.
في المقابل لم ينتظر الكرد كثيرًا، وخرجت الأقلام المؤيدة لبرزاني لتفتح نيران مدفعيتها ضد حسن نصر الله ووصفوه بزعيم حزب الشيطان القابع في الأقبية تحت جنح الظلام متخفيًا، ورفضوا أي محاولة لنزع شرف النصر الذي حققوه على الدواعش ونسبه لأي شخص آخر، حتى لو كان قاسم سليماني الرجل المعروف بدعمه للجميع وإشرافه على محاربة التنظيم في الحزام المجاور لإيران على وجه التحديد، وخاصة العراق وسوريا.
اعتبر أنصار برزاني، أن تصريحات نصر الله التي تزدري قائدهم، تكتسي بالحقد الدفين علی الكرد، وقلبوا الكرة عليه، واتهموه بالعمل كدمية تتحرك بالريموت كونترول، لا تستخدم إلا في خدمات الاغتيال والدمار، وأعادوا تذكير “حزب الله” بقصة نشأته من فوضى الحرب الأهلية في لبنان، كما ذكروه بما أسموه “الإرث الدموي وتاريخە في التفجيرات الإرهابية والخطف والرهائن”، كما لم ينسوا الرد على معايرة نصر الله، وردوها بالسخرية من علاقة “حزب الله” بالإرهاب، الذي كان دافعًا لإدراج الأمين العام وحزبه من المجتمع الدولي على قائمة أبرز المنظمات الإرهابية في العالم.
ما سبب الانقلاب المفاجئ على برزاني؟
الحرقة والعبارات الملتهبة التي تحدث بها حسن نصر الله ضد مسعود برزاني، تكشف النقاب عن حنق إيران الشديد ومن خلفها أذرعها في المنطقة، على زعيم البيشمركة لعدة أسباب، بدايةً من رفضه تنظيم عزاء لقاسم سليماني في أربيل، ولعدم ذهابه أيضًا لمجلس العزاء الصغير الذي أقامته القنصلية الإيرانية في أربيل وتكليف فاضل ميراني سكرتير المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني، بالذهاب نيابة عنه وتأبين قائد فيلق القدس بالحرس الثوري.
اختفاء برزاني عن العزاء وعدم تقديم أسباب مقنعة من الوفد للقنصلية، في توقيت كانت تبحث فيه إيران عن أكبر دعم ممكن ليزيح عن سمعة الرجل تهمة الإرهاب ويعطيه قدره الذي يستحق من وجهة نظرها بعد وفاته، كما يعطيها دفعة كبرى لمواجهة الولايات المتحدة بعزيمة قوية ترمم ذاتها الجريحة وتمكنها من الثأر لأحد أبرز قادتها العسكريين في التاريخ الحديث للبلاد، لا سيما أن استعراض أصدقائها على نحو يخيف أمريكا كان سيجعلها لا تفكر في الرد بتهور، خوفًا من حرب شاملة في المنطقة، تكبد قواتها ومصالحها المزيد والمزيد من الخسائر الفادحة.
كما شعر الإيرانيون بطعنة من الخلف بعدما أدانت رئاسة إقليم كردستان بشدة، أي تصفية حسابات دولية على أرض العراق بما ينتهك سيادته، في إشارة واضحة إلى رفضها رد إيران على استهداف سليماني بأرض العراق، ودعت كل الأطراف إلى الالتزام بأقصى درجات ضبط النفس وحل المشكلات بالحوار، ما أثار الغضب بشدة في الأوساط الإيرانية والموالين لها.
خسائر لبنان من الحرب بين “حزب الله” والأكراد
الحرب التي أشعلها حسن نصر الله ضد إقليم كردستان لن تنتهي بسهولة خاصة مع التقارب الكردي الأمريكي الذي يسير عكس الحسابات الأيدلوجية والسياسية الإيرانية، وقد تنعكس الأزمة على مصالح اللبنانيين أنفسهم الذين يبلغ عددهم في أربيل وسائر مناطق إقليم كردستان، نحو 15000 فرد، بحسب مسح أجري عام 2015، وتتضارب الأرقام الحاليّة التي لم يتم إحصاؤها بشكل رسمي لمعرفة تأثير ظهور تنظيم داعش والعمليات التي نفّذها في العراق على أعداد أبناء لبنان في كردستان.
مسعود برزاني
المخاوف التي انتشرت بسرعة بين أبناء الجالية اللبنانية من رد فعل سلطات الإقليم على عدوانية حسن نصر الله، استدعت إجراء اتصالات سيادية على أعلى مستوى بين الأطراف المعنية، ليخرج بعدها رئيس اتحاد المستثمرين اللبنانيين جاك صراف، ويستبعد أن يؤثّر كلام نصرالله على مصالح اللبنانيين في أربيل بعدما أثبتوا وجودهم في الإقليم منذ سنوات ونسجوا علاقات طيبة مع السلطات هناك، بجانب أنهم ليسوا أصحاب توجهات سياسية، ولم يكونوا يومًا طرفًا في الصراع القائم، سواء بين بغداد وأربيل أو بين نصر الله وبرزاني حاليًّا.
وتحتل الاستثمارات اللبنانية في أربيل المرتبة الثالثة بعد الاستثمار الكويتي الذي يحتل المرتبة الأولى ومن خلفه الاستثمارات التركية، وكانت حجم الاستثمارات في أربيل بنوعيها المحلي والأجنبي تتخطى حاجز الـ17 مليار دولار عام 2014، رغم ظهور تنظيم داعش وانقطاع الطرقات بين لبنان والعراق لايصال البضائع آنذاك وغلق الحدود العراقية السورية بالكامل.
المثير للدهشة أن أي حسابات اقتصادية بسيطة، لو كانت تشغل بال حسن نصر الله، لتراجع فورًا عن التصريح بأي طريقة تستفز الأكراد، خاصة أن المنطقة كلها على فوهة بركان، بدءًا من العراق وإيران مرورًا بسوريا وصولًا إلى لبنان، والاستثمارات تتضاءل نظرًا لارتفاع درجة المخاطر، وبالتالي أي رجل دولة يفكر في مصالح رعاياه كان عليه التصرف بحكمه وكياسة ومسؤولية.
يمكن القول إن التطورات الأمنية الأخيرة في العراق والصراع بين الولايات المتحدة وإيران على أرض بلاد الرافدين، ترفع أصلًا معدلات المخاطر التي أدت في النهاية إلى تقليص التدفقات المالية والاستثمارات، مما جعل الشركات الأجنبية التي لا تزال تصر على الاستمرار في أعمالها هناك، تضع حلولًا عاجلة لإنقاذ أموالها، بداية من طرد كبار الموظفين لديها نهاية بتقليص مشاريعها، وخاصة أن استعادة الثقة تتطلب وقتًا طويلًا قد يستغرق أشهر وسنوات دون مبالغة، مما يعني أن تصريحات بهذا المعنى قد تدمر أي فرص استثمارية جديدة لأبناء لبنان في إقليم كردستان ولن يتمكن “حزب الله” بالطبع في توفير البديل!