عند مدخل حي القصبة العتيق بأعالي العاصمة الجزائرية، تصادفك ساحة صغيرة المساحة السكون إطلاقًا، ففي الليل تتحول إلى مأوى للمتشردين التائهين، وفي النهار تتحول إلى أكبر سوق سوداء للعملة الصعبة.
ومن مفارقات هذه السوق، أنها تحتل موقعًا إستراتيجيًا مهمًا، فهي تقع غير بعيد عن أكبر المؤسسات الرسمية للدولة الجزائرية على غرار المجلس الشعبي الوطني (الغرفة الأولى) ومجلس الأمة (الغرفة العليا) إضافة إلى مقر محكمة سيدي أمحمد ومحافظة العاصمة.
سكوار .. بورصة موازية
فهي ساحة يلتئم فيها كل صباح انطلاقًا من الساعة الثامنة، شباب من مختلف الأعمار، يصطفون على أرصفة الساحة المطلة على الواجهة البحرية، لاصطياد فرائسهم القادمين من مختلف محافظات الوطن لاقتناء العملة الصعبة من هذه السوق التي تكتنز موازنة كبيرة تفوق 4 مليارات دولار، وما تخفيه ممراتها الضيقة أعظم، فهي وبكل بساطة “بورصة موازية” تسببت خسائر كبيرة للاقتصاد الجزائري.
يساوي الدولار الأمريكي الواحد في البنك الجزائري نحو 110 دينارات جزائرية، فيما يساوي في سوق السكوار 175 دينارًا، ويصل اليورو الواحد في البنك إلى 130 دينارًا، فيما يساوي في السّوق السوداء 193 دينارًا.
فهنا تجد السياح الأجانب وأصحاب المال والأعمال الذين خرجوا لتوههم من مقر البنك الذي لا يبعد عن السوق إلا أمتار معدودة لاقتناء ما لزمهم، فيختارون زاوية بعيدة عن الأنظار للتفاوض مع شباب يقتاتون من الفارق المحصل خلال عملية التدوير، بعضهم يحملون بين أيديهم كتلة نقدية بالعملة الصعبة قد تكون في غالب الأحيان عملة الدولار الأمريكي أو اليورو، بينما ينصب آخرون طاولات لبيع نظارات وعطور ومنتجات حرفية وتقليدية، ومن ورائها يبرمون مختلف أنواع الصفقات بينها تبديل الملايين من العملات في العلن وبأمان، فلا نشاط هنا للصوص رغم انتشارهم المكثف في الساحة وكأن بريق العملة لا يغري عيونهم، ومن بين الممنوعات داخل السوق السوداء للعملة الصعبة، وجود الصحفيين، فهم منبوذون واختراقهم لها خطًا أحمر لا ينبغي تجاوزه.
عادت هذه السوق إلى الواجهة لتطرح بقوة في النقاشات السياسية المرتبطة ببرنامج الحكومة الجزائرية الجديدة، ووفقًا لمتتبعين للمشهد الاقتصادي في البلاد ستظل السوق السوداء قائمة بنفس آليتها السوداء بالنظر إلى الأسرار الكبيرة التي تخفيها.
القضاء عليها أمر صعب
يقول في هذا السياق الإعلامي الجزائري والمحلل السياسي أحسن خلاص، لـ”نون بوست” إن القضاء على هذه السوق جملة واحدة وبضربة واحدة أمر صعب للغاية، والحل الوحيد المطروح أمام حكومة جراد إنشاء مكاتب صرف معتمدة وبهوامش ربح مقننة وسن قوانين وتعديل أخرى كتعديل قانون القرض والنقد والقضاء على الاقتصاد الموازي بشكل عام وتطوير عمل البنوك وترقية سلاسة التعاملات المصرفية لضمان جاذبية البنوك للمتعاملين.
وأسقطت هذه السوق جميع الخطط الحكومية التي طرحها العشرات من الوزراء في فترة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، لأسباب يربطها خبراء في الاقتصاد، أهمها أن هذه السوق تستمد قوتها من نفوذ من يقفون خلفها، وهم من أباطرة التصدير والاستيراد الذين يستنزفون العملة الصعبة من البنوك بمبرر الاستيراد.
يقول في هذا السياق الخبير الاقتصادي كمال رزيق لـ”نون بوست”: “هناك فرق كبير بين ما يقال وما يفعل، فالتصريحات التي أدلى بها وزراء في 11 حكومة بفترة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة تتناقض مع ما هو موجود في الواقع”، ويشير إلى أن عدم توافر الإرادة السياسية يعد من أبرز الأسباب التي تقف وراء عدم سقوط هذه السوق، ويعتقد الخبير الاقتصادي أن الحكومات السابقة تعمدت عدم سن إجراءات قانونية تحفيزية للمتعاملين الاقتصاديين حتى تبقى هذه السوق قائمة.
فضاء لتبييض الأموال وتضخيم الفواتير
لم يتطرق الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، بإسهاب في برنامجه الانتخابي، للحديث عن الحلول المقترحة للقضاء على هذه السوق التي شوهت سمعة الاقتصاد الجزائري، واكتفى بتقديم وعد يتعلق بـ”رفع قيمة المنحة السياحية إلى حدود 1500 يورو بآلية جديدة قد تكون مرة كل ثلاث سنوات مثلًا”، ويندرج هذا في إطار تنفيذ سياسية جديدة للتنمية خارج المحروقات واستبدال المنتجات المستوردة بالمنتجات المحلية لتوفير احتياطي الصرف وخلق ومضاعفة الشركات الناشئة، إضافة إلى تعزيز الدور الاقتصادي للجماعات المحلية في تطوير وتنويع اقتصاد البلاد وتحسين مناخ الأعمال وتشجيع الاستثمار بما في ذلك الاستثمار الأجنبي المباشر.
ووصف وزير المالية السابق محمد لوكال، هذه السوق بفضاء لتبييض الأموال وتضخيم الفواتير وتعهد بالقضاء على هذه الظواهر، حيث قال لدى نزوله إلى مبنى البرلمان الجزائري، للرد على أسئلة النواب، شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إن نشاط مكاتب الصرف وفي حال استحداثه لن يتضمن بيع العملة الصعبة مقابل الدينار للجزائريين المقيمين في الداخل، لكنه اعتبر بالمقابل أن هذه المكاتب لا فائدة ترجى منها في ظل وجود السوق الموازية.
يقول في هذا السياق الخبير الاقتصادي الجزائري سليمان ناصر، لـ”نون بوست” إن الجزائر تصنف في خانة البلدان القليلة في العالم التي ما زالت تعاني من وجود سوقين للصرف (سوق موازية وأخرى رسمية)، وبينهما فارق كبير في السعر يصل إلى نحو 50%، رغم توافر الآليات القانونية التي تسمح بإنشاء مكاتب الصرف المعتمدة التي تتطلب هي الأخرى إعادة النظر في ظروف عملها من طرف السلطات.
ويؤكد أن هذه السوق كانت تسير من طرف الرؤوس الكبيرة خلال حقبة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، التي كانت تجني من ورائها الملايين، ولذلك يقول إنها كانت توفر الحماية لبقائها وإلا كيف نفسر وجودها لسنوات طويلة وإلى يومنا هذا وعلى بعد أمتار من بنك الجزائر ومجلس الأمة والمجلس الشعبي الوطني (المؤسسات السيادية للدولة)، ويشير إلى أنهم يتحكمون في أسعارها من خلال تخزين كميات كبيرة من العملة الصعبة فيخرجونها متى يريدون.