شكّل خروج المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي في خطبة يوم الجمعة الماضي بجامعة طهران، أحد أبرز التحولات المثيرة في الظروف السياسية التي تعيشها إيران اليوم، إذ اعتكف عن هذا المنبر منذ 3 من مارس 2012، ليعود مرة أخرى ليؤسس لمرحلة جديدة في تاريخ الحياة السياسية الإيرانية، فخروجه يعتبر حدثًا مهمًا يؤشر لأمرين رئيسيين: أحدهما أن هناك تطورًا خطيرًا لا يحتمل الانتظار في إيران، وثانيهما هو إعلان بدء مرحلة جديدة من تاريح إيران، إذ عادةً ما تكون الرسائل التي يطلقها في خطبة الجمعة، بمثابة إعلان سياسة أمن قومي جديدة لإيران، وهي شبيهة إلى حد كبير بخطابات الرؤساء الأمريكين في أثناء إعلانهم سياسات الأمن القومي لبلدانهم.
يمكن القول إن العنوان العريض الذي يمكن به وصف خطبة خامنئي يوم الجمعة الماضي، أنها إعلان صريح لمرحلة جديدة هي “إيران ما بعد سليماني”، وهي ممارسة التزم بها خامنئي بصورة مهمة، إذ خرج قبل ذلك بمناسبتين لا تقلان أهمية عن الجمعة الماضية: بعد احتلال العراق عام 2003، التي كان شعارها الرسمي “التمكين السياسي للمجمتعات الشيعية في الشرق الأوسط”، وبعد اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2010، وكان شعارها الرسمي “الصحوة الإسلامية في الشرق الأوسط”، ليأتي خامنئي اليوم ليطلق شعارًا رسميًا آخر هو “إخراج القوات الأمريكية من منطقة الشرق الأوسط”، وهو ما أعلنه صراحة عندما قال: “إننا مستعدون للتفاوض مع الجميع باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية”، وليس هذا فحسب وإنما أراد تأكيد استمرار سياسة “اللاحرب واللاسلم” التي أعلنها سابقًا، ووصفها رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقري بأنها مقاومة فاعلة.
إن الإستراتيجية السياسية الإيرانية في مرحلة ما بعد سليماني، أصبحت أكثر نضجًا وذكاءً في التعاطي مع الضغوط الأمريكية، فنجاح الولايات المتحدة في خلق صدقية الردع في ذهنية القيادة العسكرية الإيرانية، جعل إيران تسقط خيار المواجهة العسكرية مع الإدارة الأمريكية، فضلًا عن أن المرشد الأعلى بدأ يدرك أن الذهاب بعيدًا بخيار القوة العسكرية قد يكلف إيران الكثير من قوتها وهيبتها، ويبدو أيضًا أنه يراجع الدرس العراقي جيدًا قبل عام 2003، وذلك انطلاقًا من اعتبارات عديدة أهمها:
-
التظاهرات الشعبية المستمرة في العراق ولبنان.
-
حالة التضييق السياسي والعسكري والاقتصادي الذي يحيط بحلفائها في المنطقة.
-
حادثة إسقاط الطائرة الأوكرانية وإمكانية أن تصعد أوكرانيا بملف الضحايا، خصوصًا أن هناك سابقة لإيران مع أوكرانيا، عندما دعمت موقف روسيا في اقتطاع شبه جزيرة القرم من أوكرانيا عام 2014.
-
التظاهرات الشعبية المتصاعدة في مدن طهران وتبريز وأصفهان وغيرها من المدن الإيرانية.
وعلى هذا الأساس لم تعد إيران اليوم وفي أكثر الاحتمالات ذاهبة باتجاه التصعيد العسكري مع الولايات المتحدة، حتى لو أقدمت الإدارة الأمريكية على تصفية المزيد من القادة والحلفاء في إيران أو المنطقة!
غياب أم ضعف الحلفاء الدوليين؟
إن من أكثر المواقف المثيرة للاهتمام، التي على ما يبدو كانت أسبابًا رئيسية في دفع المرشد الأعلى علي خامنئي بإجراء تحولات إستراتيجية في طريقة التعامل الإيراني مع الضغوط الإقليمية والدولية المحيطة بإيران، هو غياب الفاعلية الإستراتيجية لحلفاء إيران التقليديين، والحديث هنا عن روسيا والصين وآخرين.
إذ يبدو أن هناك الكثير من الأسباب التي جعلت روسيا تقلل من تدخلها في الشأن الإيراني الحاليّ، مع التأكيد بأنه يمكن الافتراض بأن القيادة الروسية قد تكون على دراية مسبقة بأنه لا حرب تلوح بالأفق، ومن ثم فإن هذا الأمر يتطلب تصريحًا صحفيًا بسيطًا من وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، يندد بالممارسات الأمريكية لا أكثر، هذا إذا افترضنا ذلك.
لكن بالمقابل هنا أيضًا العديد من التطورات التي بدأت تعتري الموقف الروسي اليوم، الذي بدأ يدرك أن الأمر قد يحتاج هامشًا من البراغماتية التي قد تعود على روسيا بفوائد كبيرة مستقبلًا، فإلى جانب الرغبة الروسية في إزاحة إيران عن المشهد السوري اليوم، وهو ما ظهر للعلن منذ انحسار نفوذ تنظيم داعش في سوريا بدايات عام 2018، إذ ظهرت العديد من الصراعات والخلافات بين روسيا وإيران في سوريا، من أجل الفوز بكعكة إعادة إعمار سوريا بعد الحرب، هو موقف ظهر جليًا للعيان اليوم، وهو ما قد يبرر الزيارة السريعة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين لسوريا في اليوم التالي لمقتل سليماني.
أما الأمر الآخر الذي يجعل روسيا أقل تحمسًا في الدفاع عن الحليف الإيراني هو التدخل الروسي في الشأن الليبي، وهو مسرح آخر للأحداث لا تريد روسيا تفويته طالما لا يوجد هناك وجود أو حتى نفوذ أمريكي، وعلى هذا الأساس تنظر القيادة الروسية اليوم بنظرة جيوسياسية شاملة، بأن الشرق الأوسط أكبر من مجرد الاهتمام أو حتى الدفاع عن إيران، ولها سوابق في ذلك عندما تخلت عن نظام صدام حسين ومعمر القذافي، مقابل تطمينات أمريكية بعقود ومنافع نفطية في منطقة الشرق الأوسط.
لم تفلح إيران في إزالة حالة عدم الثقة عنها، وهو ما توضح في مقاطعة العديد من الدول العربية المهمة لهذه القمة
أما الحليف الآخر، الصين، فيبدو أنه غير متحمس لدعم المواقف الإيرانية هذه المرة، فالجانب الصيني ضغط منذ البداية من أجل عدم رد إيران على مقتل سليماني، انطلاقًا من مصالح صينية عديدة أهمها: الحفاظ على حيوية مبادرة الحزام والطريق الصينية التي تشكل إيران بوابتها نحو الغرب، ومن ثم فإن أي تأثير قد يتعرض له النظام السياسي في إيران، قد يؤثر بالنهاية على الإستراتيجية الصينية في المنطقة، أما السبب الآخر فهو الاتفاق التجاري الذي عقد بين الصين والولايات المتحدة، وعلى هذا الأساس لم تصدر تلك التصريحات المثيرة من الجانب الصيني على خلفية كل التوترات التي شهدتها العلاقات الأمريكية الإيرانية.
أما الجانب الآخر من المشهد فيتحدد بما أفرزته قمة كوالالمبور الإسلامية من تصدع كبير يشهده العالم الإسلامي، فعلى الرغم من سعي دول كتركيا وماليزيا لإعادة إدماج إيران في العالم الإسلامي، ككيان عضوي طبيعي، فإن هذه الجهود لم تنجح، إذ سعت إيران ومن خلال هذه القمة، إلى استثمار كل طاقاتها الدبلوماسية والسياسية لإنجاح مسعاها، كما مررت العديد من الرسائل للمملكة العربية السعودية وغيرها من دول الممطقة، بسعيها الجاد نحو إقامة علاقات طبيعية على أساس المصالح المشتركة، إلا أنها لم تفلح في إزالة حالة عدم الثقة عنها، وهو ما توضح في مقاطعة العديد من الدول العربية المهمة لهذه القمة.
ولذلك يمكن القول إن الخطوط العامة التي أعلنها المرشد الأعلى في خطبة الجمعة الأخيرة، كانت في كثير من جوانبها سببًا أو ردة فعل على ما ظهر من مواقف وتصريحات وحتى سياسات من حلفائها في المنطقة والعالم، جعلت علي خامنئي يدرك حجم التغيير الذي بدأ يعتري النظام الإقليمي والدولي اليوم.
حلفاء الاتفاق النووي يتخلون عن إيران
قررت فرنسا وبريطانيا وألمانيا تفعيل آلية حل الخلافات المتعلقة بالاتفاق النووي مع إيران، بسبب عدم احترام طهران التزاماتها بموجب الاتفاق النووي بحسب بيان مشترك للدول الثلاثة، وقد ثمن المبعوث الأمريكي لإيران براين هوك القرار، وقال إنه يمثل توافقًا أمريكيًا بريطانيًا في هذا الملف، بينما وصفت الخارجية الإيرانية القرار بالخطوة الانفعالية والخطأ الإستراتيجي، وقالت إنه ليس له أساس قانوني، وأضافت الدول الثلاثة في البيان “لم يعد أمامنا خيار، بالنظر إلى الإجراءات الإيرانية، إلا تسجيل مخاوفنا اليوم من أن إيران لا تفي بالتزاماتها بموجب الاتفاق، وأن نحيل الأمر إلى اللجنة المشتركة التابعة لآلية فض النزاعات”، وذكرت الدول الثلاثة أيضًا أنها لا تقبل مقولة أن إيران لها الحق في تقليص التزاماتها بموجب الاتفاق النووي، وجددت التزامها بالحفاظ عليه، إذ يمكن أن يتيح تفعيل هذه الآلية متعددة المراحل بالنهاية للدول الأطراف في الاتفاق على الالتزام به، مما سيعني إعادة فرض العقوبات على طهران وإخطار مجلس الأمن الدولي بذلك.
المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية عباس موسوي: ما يهمنا من الأوروبيين هو الفعل وليس الأقوال
ومن المواقف الإيرانية الأخرى أفاد مجلس الشورى الإيراني الأحد أن بلاده ستوقف تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إذا لم تتراجع الأطراف الأوروبية عن تفعيل آلية فض النزاع بموجب الاتفاق النووي، بما قد يعيد فرض عقوبات الأمم المتحدة على الاقتصاد الإيراني، وقال علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى الإيراني إن بلاده ستعيد النظر في تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة إذا واجهت طهران أي إجراءات “غير عادلة”، وذلك بعدما قررت دول في الاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي تفعيل آلية تسوية النزاع بموجب الاتفاق النووي المبرم عام 2015.
وعلى الرغم من خطوات تقليص الالتزامات التي اتخذتها إيران، فإن المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية عباس موسوي قال في مؤتمر صحافي تليفزيوني أسبوعي: “طهران ما زالت ملتزمة بالاتفاق النووي”، معتبرًا أن “مزاعم القوى الأوروبية بشأن انتهاك إيران للاتفاق لا أساس لها من الصحة”، كما اعتبر أن إيران عدلت التزاماتها النووية في إطار الاتفاق النووي، نظرًا لعدم التزام الأطراف الأخرى بتعهداتها، ووصف إعلان الأوروبيين تفعيل آلية فض النزاع في الاتفاق النووي بـ”غير المقبول على الإطلاق”، مضيفًا “ما يهمنا من الأوروبيين هو الفعل وليس الأقوال”.