تشهد محافظة السويداء في الجنوب السوري أوضاعًا اقتصاديةً مترديةً منذ سنوات طويلة اشتدت وتيرتها في الفترة الأخيرة مع انخفاض الليرة السورية أمام العملات الأجنبية، إلا أنها أثرت بشكل رئيسي على المواطنين السوريين المقيمين في مناطق سيطرة النظام عامةً، مع استمرار الدخل المحدود أمام تأمين الحاجيات الأساسية التي ارتفعت أسعارها، في ظل التهميش الذي تمارسه حكومة النظام ضد أهالي المحافظة، مما دفع عشرات الشبان في المدينة للاحتجاج ضد الأوضاع المعيشية الصعبة، مطالبين بتحسين الواقع المعيشي.
تظاهر العشرات الأحد 19 من يناير/كانون الثاني في مدينة السويداء ضد الفساد المستشري بحكومة النظام السوري، مطالبين بتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية، وكانت قد خرجت تظاهرات مماثلة الجمعة 17 من يناير/كانون الثاني، في ساحة مدينة شهبا شمالي السويداء، طالب المتظاهرون فيها بتحسين الظروف المعيشية ومكافحة الفساد، كما شهد يوم الخميس 16 من يناير/كانون الثاني احتجاجات لأهالي السويداء، ونقلت صفحة “السويداء 24” تسجيلًا مصورًا للمتظاهرين يهتفون لطرطوس وحماة وحمص ودرعا واللاذقية وحلب ودمشق بهتافات تذكر ببدايات الثورة السورية عام 2011.
الأسباب والمطالب
تعيش محافظة السويداء على وقع الاغتيالات والفلتان الأمني مع استمرار حكومة النظام بالتضييق على المدنيين لا سيما انعدام الخدمات الصحية والماء والكهرباء، كما أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية والخضراوات في أسواق المحافظة ساهم بشكل كبير في نفور الأهالي من الواقع الاقتصادي المتردي، وهذا ما عكسه انخفاض قيمة الليرة السورية أمام العملات الأجنبية، وعلى الرغم من زيادة النظام لمرتبات موظفيه 20 ألف ليرة سورية، فإنه لا جدوى لها مع استمرار انهيار العملة السورية، وبهذا لم تحقق الزيادة أيًا من محاسنها.
الصحفي السوري من محافظة السويداء، نورس عزيز يرى أن السويداء “تعاني منذ عام 2012 شبه حصار اقتصادي نتيجة عدم إرسال شبابها للخدمة في الجيش، وهو ما شكل ردة فعل لدى سلطات النظام، حيث حاول جاهدًا إخضاع المحافظة من خلال عدة أوراق أبرزها الورقة الاقتصادية“، وأضاف في مداخلة مع “نون بوست” أن “الحالة العامة للاقتصاد السوري الهش وعجز الناس عن توفير مستلزماتها بشكل حقيقي نتيجة تبدل أسعار صرف الدولار مع بقاء الرواتب ضعيفة جدًا رغم رفعها ساهم بشكل كبير في انتفاض الأهالي ضد الغلاء”.
وطالب المتظاهرون في مدينة السويداء، بحق العيش تحت عنوان “بدنا نعيش“، وعن هذا الموضوع أوضح الصحفي نورس عزيز: “تتلخص طلبات المتظاهرين بتغيير الوضع الاقتصادي بشكل كامل وإقصاء حيتان المال والأعمال أمثال عائلات شاليش ومخلوف المقربين من رأس النظام إضافة إلى تأمين احتياجاتهم الأساسية والقضاء على مظاهر تلاعب التجار بالبضائع واستغلال المواطنين”.
رد حكومة النظام
لم ترد حكومة النظام السوري بشكل مباشر على مطالب المحتجين وإنما اتبعت أسلوب اللين قليلًا، وهذا ما لم نشهده خلال السنوات الماضية، محاولًا استخدام التظاهرات لصالحه في ظل نظرة المجتمع الدولي له بالإضافة إلى تحجيم مطالب المحتجين في أطر معينة، وكذلك تهديدهم بما حدث خلال السنوات الأولى من الثورة، ومنعهم من توسع مطالبهم كي لا تنال من رموز النظام.
ويرى الصحفي نورس عزيز أن النظام يسعى من خلال الإعلام الموالي له إلى تغطية أخبار التظاهرات وبأن الناس تنادي بتغيير الحكومة، ويستغل هذا الوضع من خلال إظهار المظاهرات للرأي العام العالمي بأنها مظاهرات حضارية لا تطال النظام إنما تقوم بها الأقليات ضد الحكومة وقد تصل الأمور لإقالة الحكومة الرمزية.
وفي أول رد حكومي على الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد أطلق رأس النظام السوري مرسومًا شدد فيه العقوبات على الأشخاص الذين يتعاملون بالقطع الأجنبي، وبحسب ما قالت وكالة “سانا” للأنباء الناطقة باسم النظام: “المرسوم قضى بالسجن 7 سنوات والأشغال الشاقة المؤقتة وغرامة مالية بما يعادل ضعف قيمة المدفوعات لأي نوع من أنواع التداول التجاري أو التسديدات النقدية وسواء كان ذلك بالقطع الأجنبية أم بالمعادن الثمينة”، بينما كانت العقوبة قبل إصدار المرسوم الرئاسي السجن لمدة ستة أشهر حتى الثلاث سنوات فقط.
وقال نورس عزيز خلال حديثه لـ”نون بوست”: “هذا مرسوم غير مدروس لتعلق الكثير من الملفات بموضوع الدولار، وأبرزها بدل الجيش وعملية الاستيراد، وحتى اللحظة المبادرات فردية ومن ضمن المجتمع المحلي لمحاولة التخفيف عن الوضع الاقتصادي السيء الذي وصلت له أغلب الناس في المحافظة”.
وعبر الاحتجاجات والواقع المعيشي المتردي حاولت حكومة النظام استغلالها من خلال إطلاق حملة تحمل عنوان “الليرة عزتنا” دعمًا لليرة السورية إلا أنها لا تستطيع إنقاذ ما انهار منها خلال الفترة السابقة، واقتصرت هذه الحملة على مبادرات فردية صغيرة غير مجدية فعليًا، لأن مختلف مؤسسات الدولة تأخذ قطعًا أجنبيًا في غالب الأحيان، ولم تشمل كبار التجار فعليًا.
المظاهرات هتفت ضد رجال أعمال وشخصيات ثرية من عائلة الأسد
هل تتوسع الاحتجاجات في مناطق سيطرة النظام؟
المعطيات الأولية للمظاهرات أوضحت الأبعاد التي يمكن أن تصل إليها، فيما إذا كانت ستصل إلى أهالي باقي المحافظات السورية التي تعيش الموت مرات عديدة خلال اليوم الواحد، أم أنها ستبقى في أطر محددة لا يمكن أن تخرج عنها، فرقعة الاحتجاجات لا يمكن أن تمتد إلا في حال الفراغ الأمني الذي ستفتحه حكومة النظام أمام المحتجين لكنها عمليًا سيطرت على الشارع الموالي بطريقة “وطنية” بحتة عبر مختلف الأساليب الدعائية والترويجية لإزالة الغضب الموجه ضد الحكومة التي فشلت في تأمين حاجيات المواطنين، وتبرير الأزمة الاقتصادية بأن سوريا تواجه العالم بأكمله.
وعن موضوع توسع رقعة الاحتجاجات يقول الصحفي السوري فادي الأصمعي لـ”نون بوست”: “هذه الاحتجاجات لا تخرج عن النظام أبدًا ولا يمكنها أن تكون مستقلة، في حين أن إمكانية توسعها مستحيلة جدًا لأنها تخدم النظام أولًا وآخرًا”، وأضاف “السويداء لم تشهد تظاهرات إلا بين عامي 2011 و2012 وكانت كمشاركة فعلية لأهالي الجبل في الثورة السورية إلا أن تهديدات النظام أوقفت التظاهرات وانتهت باعتقال ناشطين وثوار كثر، ولا يمكن أن تكون هذه التحركات من الأهالي خارجة عن تصورات مشايخ الجبل الموالين للنظام السوري”.
ويرى الصحفي نورس عزيز: “أن التظاهرات ستكون عبارة عن هبات صغيرة سرعان ما ستخبو إن لم يكن هناك توحد بالموقف والتظاهر في عموم الأراضي السورية”، وأوضح “لهذه التظاهرات أهمية كبيرة، حيث إنها تحدث ضمن البيئة الحاضنة للنظام وإن امتدت لباقي المحافظات سيسارع هذا في انتهاء عصر عائلة الأسد في حكم سوريا”.
ولا يمكن أن تحدث التظاهرات تغييرًا إلا في حال استمراريتها وتوسعها إلى مختلف المحافظات مع توسع المطالب التي ستستهدف الحكومة الضعيفة التي لا تملك زمام البادرة فعليًا لتلبية احتياجات المواطنين الخدمية والمعيشية على أقل تقدير.
أخيرًاً، من الواضح أن النظام السوري أضعف من أن يكون قادرًا على تأمين متطلبات المواطنين في مناطق سيطرته، لا سيما بعد العقوبات التي تواجهه على خلفية قانون قيصر ووصول النظام المصرفي لشفير الهاوية إضافة إلى المشاكل الداخلية التي عصفت بإيران (الدولة الداعمة للأسد)، والأزمة المصرفة القاسية في لبنان، الأمر الذي قد يضع حكومة النظام في موت سريري حتى حين.
دعونا نلقي نظرة على هذا الرسم البياني الذي أعده الزميل تمام أبو الخير ويوضح انهيار الليرة السورية المفزع خلال العقد المنصرم منذ 2011 حتى يناير 2020 الذي شهد وصول الليرة السورية إلى أدنى مستوىً لها في تاريخها.