أثار مقتل الشاب محمد إسماعيل أبازيد في مدينة درعا جنوبي سوريا سخطًا شعبيًا عارمًا الأمر الذي فتح فصلًا جديدًا في المدينة التي تعتبر مهد الثورة السورية التي انطلقت شرارتها من أطفال المدينة الذين خطوا عبارات الحرية الأولى على جدران مدارسهم، الشاب أبازيد كان مقاتلًا في صفوف المعارضة المسلحة وشارك في عدة معارك ضد قوات النظام أيام سيطرة الجيش الحر على المدينة حتى اتفاق التسوية الذي جرى بين قوات النظام وروسيا من جهة وقوات المعارضة من جهة أخرى.
هذه العملية التي اغتيل فيها الشاب على أيادي “عملاء النظام” في المدينة كما راج بين الأهالي، لم تكن الأولى، فالاغتيالات المتبادلة في درعا بين المعارضة والنظام في ازدياد واستمرارها يضع المدينة في حالة حرب باردة تجعلها بؤرة توتر للأطراف المختلفة، وبشكل رئيسي فإن الاغتيالات تطال رجالات النظام الذين كانوا في صفوف المعارضة في يوم من الأيام وأصبحوا بعد اتفاق التسوية مجندين في جيش النظام أو عملاء لبعض أفرعه الأمنية.
يتضح من دراسة الواقع في المدينة وضواحيها، وجود صراع بين عدة قوى أبرزها إيران وروسيا والنظام ومقاتلي المعارضة الذين رفضوا الخروج من مدينتهم بعد اتفاق التهجير، كما يمثل وجود مليشيات “حزب الله” في المنطقة تحديًا كبيرًا للمدينة القريبة من حدود الكيان الإسرائيلي الذي يرفض أي وجود إيراني أو أذرعه على حدوده، كما أن “إسرائيل” تحاول دائمًا العمل مع موسكو لكبح الجماح الإيراني في المنطقة.
كانت درعا مثالًا مغايرًا لكل اتفاقيات التهجير التي حصلت في باقي المدن والبلدات الكثيرة التي فُرض عليها تهجيرٌ قسري شامل، ليكون سيناريو المدينة مختلفًا، فما زالت أيادي مقاتلي المعارضة الذين بقوا مع أهلهم وفي بيوتهم على زناد أسلحتهم، لصد أي هجومٍ من النظام، إلا أن الأخير مرغمٌ من موسكو على تثبيت الاتفاق مع قوات المعارضة، كون جغرافيا حوران حساسة بشكل جلي وواضح لدول عدة وتحكمها مصالح شتى، والأهم من ذلك كله أن فيها من يحمل إلى الآن فكر الثورة ويرفض الظلم وطغيان النظام والعودة الكلية لنظام الأسد.
النفوذ الإيراني والروسي
تخضع مدينة درعا حاليًّا لصراع نفوذ بين عدة محاور، ولعل أهمه النزاع الدائر بين روسيا وإيران، إلا أنه لا يوجد ذلك الصدام المباشر بين الدولتين، إنما يتم عبر الوكلاء من قوات النظام بالنيابة، ففرع الأمن الجوي يتبع لإيران وفرع الأمن العسكري يتبع لروسيا، بحسب الناشط محمد علي وهو من أبناء المدينة الذي ذكر لـ”نون بوست” أنه لا يوجد مناطق خاضعة لسيطرة النظام إنما هي “موزعة على الأفرع التابعة بشكل مباشر إما لطهران أو لموسكو”، مدللًا على ذلك بمشكلةٍ حصلت في حي سجنة بالمدينة، حيث طالبت لجنة من وجهاء وأهالي درعا قوات النظام بالانسحاب، وكان التواصل مباشرةً مع ضابط روسي الذي بدوره وقع اتفاقًا بين قوات النظام وأهالي المدينة ومن ثم رفعه إلى موسكو التي صادقت على الاتفاق وأرسلته لدمشق وبدأت ميلشيات الأسد بالانسحاب من المنطقة فورًا وإعادة الانتشار في ثكناتها، هذه الحادثة تؤكد قوة الوجود الروسي في المنطقة.
يعمل الروس في درعا بالوقت الحاليّ على تسيير دوريات بكل مناطق وقرى وبلدات المحافظة ويعملون على الاطلاع على واقع الناس كونهم يعدون المدينة تحت رعايتهم الكاملة، وفي بعض الأحيان تحدث مشاكل بين الحواجز التابعة للنظام والأهالي مما يستدعي تدخل الجنود الروس وحل المشاكل بحسب ما قاله الناشط أبو ريان المتواجد في المدينة لـ”نون بوست”، أما بالنسبة للوجود الروسي على الأرض فيمتلك الروس قاعدة عسكرية كبيرة في درعا بالإضافة إلى مركز التسويات في مدينة ازرع، إضافة إلى مقر رئيسي في مدينة نوى واللواء الثامن التابع للفيلق الخامس بقيادة أحمد العودة الذي كان أحد قيادات الجيش الحر قبل اتفاقية التسوية والمصالحة في المدينة.
حتى قبل اتفاق التسوية الذي حصل في يونيو/تموز من عام 2018 بين قوات المعارضة والنظام، أعلنت روسيا “التوصل إلى اتفاق مع “إسرائيل” بشأن وجود القوات الإيرانية جنوبي سوريا”، وطلبت تل أبيب حينها من موسكو انسحاب إيران إلى مسافة 60 إلى 70 كيلومترًا، في منطقة تمتد من مجدل شمس إلى ما بعد دمشق، ومن جهة الجنوب من الحدود المشتركة مع الأردن إلى السويداء، واتفق الطرفان الروسي والإسرائيلي بحسب صحف عبرية “على تحجيم دور إيران وإخراج قواتها من سوريا، لكن روسيا ترى أن مسألة الخروج تحتاج إلى وقت وترتيبات، وتقترح طردًا جزئيًا من الجنوب فقط”.
لم تفد التفاهمات الروسية الإسرائيلية بلجم الوجود الإيراني في المنطقة، إنما أصبحت المنطقة قبلةً للقادة الإيرانيين ليستعرضوا وجودهم فيها، فبعد اتفاق التسوية بشهور زار أبو الفضل الطباطبائي، ممثل مرشد الثورة الإيرانية، علي خامنئي، بمدينة درعا في سوريا، وجاءت زيارته بعد الحديث عن العمل على تشكيلات مرتبطة عسكريًا بإيران و”حزب الله”، في المنطقة والعمل على إغراءات تقدم لشباب المدينة للانضمام والانتساب لها، وبهذا الصدد يتحدث الصحفي السوري باسل أبو يوسف لـ”نون بوست” عن وجود الحزب والمليشيات الإيرانية الأخرى، ويقول إن وجودهما يندرج تحت أجسام محسوبة على إيران في منطقة اللجاة بقواعد عسكرية إيرانية.
وبحسب أبو يوسف فإن الوجود في هذه المنطقة جاء بحسب اتفاق التسوية الذي يقضي بابتعاد المليشيات الإيرانية عن الحدود مع “إسرائيل” بمسافة 40 كيلومترًا، ولكن توجد الميليشيات في المناطق الأخرى من المدينة تحت راية مؤسسات النظام، على سبيل المثال الفرقة الرابعة التي تحسب بولائها لإيران، وتحديدًا الفصائل التي تم تشكيلها بعد التسوية وتبعت للفرقة الرابعة وكان انخراطهم بقيادة الضابط في الفرقة غياث الدلة المعروف بولائه المطلق لإيران، وهو الكلام الذي يوافقه الناشط السوري أبو ريان أيضًا.
يعمل الحزب جاهدًا على “تشييع أبناء الجنوب السوري وتشكيل خلايا اغتيالات تم من خلالها اغتيال بعض الشخصيات الفاعلة ومحاولة اغتيال آخرين”
عودًا إلى زيارة ممثل خامنئي في سوريا لدرعا، يذكر الصحفي أبو يوسف أن هذه الزيارة كانت تميهدًا للوجود الإيراني وزرع النفوذ في المنطقة، إلا أن طهران حذرة هناك، إذ إن مقراتها يرفع عليها علم النظام السوري وحتى العناصر المحسوبة عليها تلبس البزات العسكرية لجيش الأسد، على سبيل المثال توجد فرقة 313 وهي فصيل بقيادة وسيم العمر المسالمة، موجود في مدينة درعا بمحيط دوار البانوراما وهم يتبعون لإيران، وفقًا لأبو يوسف، ويذكر أن المسالمة هو أحد أعضاء اللجان المحلية والدفاع الوطني التابع للنظام منذ بدايات الثورة و”يداه ملطختان بكثير من دماء أهل بلده” وفقًا للناشط محمد علي.
وجود الميلشيات الإيرانية في المنطقة يأتي تحت غطاء الفرقة الرابعة، إضافة إلى وجود “حزب الله” ومقرات إيرانية في التلال الإستراتيجية بما يسمى عند السوريين بمثلث الموت وهي منطقة التقاء ريف درعا بريف دمشق بريف القنيطرة، مثلًا بتل بزاق وتل الجابية وتل الحارة من خلال منظومة رادارات ومقرات عسكرية، بحسب أبو ريان.
عمل “حزب الله” منذ بدء تطبيق اتفاق التسوية في درعا على القضاء على الشخصيات الفاعلة في الجنوب السوري، لأنه وبسبب ما أفاد الناشط أبو ريان أن الحزب لا “يريد للناس أن يكون لديهم الوعي بما يحصل وبما يفعله “حزب الله” من زيادة نفوذ وبسط أيدي في المنطقة”، فيما يعمل الحزب جاهدًا على “تشييع أبناء الجنوب السوري وتشكيل خلايا اغتيالات تم من خلالها اغتيال بعض الشخصيات الفاعلة ومحاولة اغتيال آخرين”، هذا الأمر الذي أدى للفت انتباه بعض النخب الثورية التي من الجيش الحر والثوار الذين لم يسلموا أنفسهم للنظام ولم ينخرطوا بمشاريعه ضمن اتفاقيات المصالحة والتسوية، بل ظلت الثورة قائمة في نفوسهم وبدأوا بالعمل على قطع أذرع إيران المتغلغلة في المدينة بعد الاتفاق، هذه المجموعات شكلت قوة عسكرية ترد على الأفعال الإيرانية في المنطقة، فكل عملية اغتيال يقوم بها “حزب الله” ترد عليها هذه المجاميع غير المعروفة، باغتيال أحد أذرع “حزب الله” وإيران في المنطقة، مما عرقل بعض مشاريعهما وأصبح هنالك قوة مواجهة لهما، الأمر الذي أعطى وعيًا للناس بمخاطر النفوذ الإيراني في المنطقة.
الوجود الإسرائيلي
تصمم “إسرائيل” على منع إيران من ترسيخ وجودها العسكري في سوريا وتصر على أحقيتها في مواصلة استهداف المواقع التي تحتلها كل من إيران و”حزب الله” في سوريا، ولطالما استهدف الاحتلال الإسرائيلي المليشيات الإيرانية والإمدادات العسكرية للحزب اللبناني الموالي لطهران في سوريا موقعًا خسائر فادحة في صفوفهم، ومن بين الأهداف كان تل الحارة الذي تكلمنا أنه يحوي مقرات عسكرية تابعة لطهران، ويرى أبو ريان أن تركيز “إسرائيل” ينصب على عدم امتلاك طهران لمنصات إطلاق صواريخ وقواعد عسكرية وتجسسية في الجنوب السوري، عدا ذلك لا يعني كيان الاحتلال أي أمر آخر.
الاغتيالات
استمرت محاولات الاغتيالات في درعا رغم انتهاء المعارك فيها بشكل كلي، إلا أنه وكما ذكرنا فإن التدخل الإيراني أثر بشكل كبير في التصعيد المترتب على الحالة الأمنية، وبحسب الإحصاءات فإن المدينة شهدت 331 عملية اغتيال قتل خلالها 198 شخصًا في عموم المحافظة، وفي آخر عمليات الاغتيال قُتل الطبيب مأمون محمد الحريري من بلدة بصر الحرير في ريف درعا الشرقي جنوبي سوريا، إثر انفجار عبوة لاصقة أصابته في رأسه وصدره، والطبيب الحريري يعتبر ذا مكانة اجتماعية مرموقة إضافةً إلى أنه أحد العاملين في المجال الإنساني خلال سيطرة المعارضة على درعا وعمل طبيبًا مسعفًا في معظم المناطق التي كانت تتعرض لقصف النظام.
يقول الكاتب والباحث السوري أحمد أبازيد: “اغتيال الدكتور مأمون الحريري في مدينته بصر الحرير في محافظة درعا، وهو شقيق الدكتور حسن الحريري الذي استشهد في الحملة الروسية على الجنوب ولحق بزوجته وأبنائه السبع، الاغتيال يأتي بعد سلسلة اغتيالات وخطف في درعا، وهو من الشخصيات الثورية والمحلية المعروفة هناك”.
الدكتور مأمون الحريري
المقاومة الشعبية
لم يرتض الكثير من أبناء درعا الذين شاركوا في الثورة أن يكونوا جنودًا لدى النظام أو تشكيلاته أو أن يعملوا معه كما فعل آخرون، كما أنهم لم يرتضوا الظلم الواقع واليد التخريبية والنفوذ الأجنبي المتمثل بالوجود الإيراني والروسي في منطقتهم، وكانت ما يعرف بـ”المقاومة الشعبية” قد نشرت بيانًا أعلنت فيه “انطلاق عملياتها ردًا على غدر نظام الأسد بالعهود وقيامه باعتقالات وعمليات سوق للشبان إلى الخدمة الإلزامية والاحتياطية”، وتنفذ هذه الحركة المقاومة عمليات الاغتيال التي تطال النظام ورجالات إيران في المنطقة.
ويتوقع الناشط محمد علي، أن تبقى الأمور في درعا على ما هي عليه في إطار “حرب باردة”، بين النظام ومن يواجهه من شباب المدينة، مع وجود لجنة من أهالي المنطقة تسعى دائمًا للتواصل مع كل الأطراف لتثبيت الهدنة وغالبًا ما يتم تواصلهم مع الجانب الروسي بحكم أن أغلب الاستفزازات التي تأتي للأهالي هي من “فرع الجوية” المرتبط بإيران، ويذكر محمد علي أنه لا يوجد أي تنظيم أو أي فصيل معارض حاليًّا يسعى لبسط نفوذه أو إعادة سيطرة، إنما يتم التعامل مع الظروف والرد على الخروقات والانتهاكات.
ازدادت التوترات في الفترة الأخيرة حتى أدت الاستفزازات التي يفتعلها النظام في المدينة إلى ارتفاع وتيرة الاحتجاجات في درعا إثر استفزازات، وكان نتيجة التوتر اعتقال 15-20 عنصرًا من النظام في منطقة ناحتة، فيما قُتل 3 من فرع الأمن العسكري على حاجز في مدينة صيدا، والهجوم على المجمع الحكومي في مدينة المسيفرة، وأسر 8 عناصر في الكرك الشرقي، وكل ذلك جاء ردًا من شباب مسلحين كانوا في صفوف المعارضة سابقًا على الانتهاكات وخروقات النظام ضد المدينة وأهلها.
في نهاية المطاف، تحاول مدينة درعا الحفاظ على التسوية بالرعاية الروسية قدر الإمكان في محاولة من أهاليها لتجنب سفك دماء أبنائها قدر الإمكان، كونه أفضل الخيارات المتاحة ولو أنه “كالمستجير من الرمضاء بالنار”، وصحيح أن قسمًا من مقاتلي الثورة وجد نفسه يقاتل في صفوف النظام إلا أن قسمًا لا يستهان به ما زال مؤمنًا بسيرة الثورة الأولى، محاولًا قطع يد إيران والنظام عن المدينة بكل السبل والوسائل، ولعل المظاهرات التي تخرج في كل حين وكتابة الشعارات على الجدران أكبر دليل على ذلك.