إن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” ما هو إلا منظمة تكفيرية متطرفة مسلحة ومدربة بصورة جيدة مخلفة ورائها مقصلة قضائية متحركة وفق تمدد نفوذها فهي (أعنف من محكمة الطائرة وأشد من المحكمة العسكرية) تقاضي على أساس شبهة لا على أساس اليقين، تحرص على أن تسبقها سمعتها الوحشية القاسية؛ الأمر الذي سمح لها بالاستيلاء على مدن كاملة دون أي مقاومة تذكر في مناطق واسعة من العراق وسوريا.
إن داعش بنسختها العراقية ليست وليدة اليوم ولا تمثل نهاية الفساد والظلم السائد في العراق تاريخيًا، وما هي إلا أن التاريخ يعيد نفسه لإعادة إنتاج الظلم وفساد وسفك الدم بواجهات دينية وعبر تحالف بعثي – تكفيري لغرض الاستفادة من قدراته اللاأخلاقية واللوجستية، وقدراته على التلون بلون ديني وارتداء العباءة الدينية والعمل في ظلها في لحظات التخريب والعنف الشامل الذي طال البلاد والعباد دون استثناء، إن داعش تضخمت كثيرًا عن حجمها الحقيقي، حيث وهـب هذا التنظيم مصادر القوة، إذ أن القوة العسكرية التي سيطر عليها إثر هزيمة الجيش العراقي تضاهي قيمتها مليارات الدولارات، ولكي تكون الصورة واضحة حول من وراء داعش يجب أن نعود إلى فترة ما بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 حيث شاع في هذه الفترة وبصورة مستمرة تنظيمات سياسية وميلشيات طائفية نمت نموًا مذهلاً وسريعًا وبتشجيع من الأطراف الإقليمية والدولية المستفيدة من حالة الإحباط التي عانى منها الشعب العراقي لعقود طويلة في ظل نظام عرف بالشمولية والدموية وجراء الكوارث الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية التي سببها له هذا النظام، وهي بمثابة استجابة انفعالية ـ سياسية في تصور غير عقلاني للخلاص من الظلم الاجتماعي دون معرفة قوانينه وأسبابه، والكثير من هذه التنظيمات الطائفية ـ السياسية تربى في جبال أفغانستان أو في سهول إيران والتي وجدت لها ذراعًا وترحيبًا من داخل العراق، ولكن الجميع حمل أجندة البلد الذي قدم منه لينفذها على أرض العراق ويتلقى إلى اليوم وباستمرار دعم تلك البلدان وشروطها السياسية، بما في ذلك شروط تشكيل الحكومات بما يوافق سياساتها ومصالحها؛ مما أدى إلى كارثة حقيقية تمثلت بفقدان البلد للاستقلالية في قراره السياسي وسيادته على أرضه، وعلى خلفية ذلك اشتد الاقتتال بين طوائف الدين الواحد ليتخذ طابع التصفيات الدموية والانتقام والتكفير المتبادل، بل امتد ليشمل أديان وطوائف أخرى لا ناقة لها ولا جمل في الصراع الدائر في عمل هستيري لا حصر لحدوده، وفي محاولات عبثية لحرق الأخضر واليابس إرضاءً لسياسات خارجية كان الغرض منها إنشاء هذه التنظيمات.
أما إيران لم تكن لتقف موقف المتفرج عليه، بل إن أغلب تحركات “داعش” كانت تتواءم مع المصالح الإيرانية؛ مما يثير شكوكًا بالجملة حول العلاقة التي تربط الطرفين وإلا لماذا توقفت داعش عند حدود “سامراء، ديالى، بغداد” في الوقت الذي كانت تستطيع التقدم مستغلة (الصدمة) التي أسقطت بعصفها “صلاح الدين وأجزاء من كركوك وديالى”، ولماذا خرج المتحدث باسم التنظيم “إبراهيم العدناني” ليحشد الشيعة خلف المالكي بتوعده بدخول كربلاء والنجف، ثم لماذا لم يقترب التنظيم عند دخوله الأنبار من قضاء النخيب المحادي لكربلاء، ولمصلحة من يتوجه التنظيم غربًا وشمالاً بعيدًا عن الجبهة الرئيسية المتمثلة شرقًا وجنوبًا – الحدود العراقية الإيرانية – (للعلم هذه التساؤلات تبرهن أن توجهات داعش إن لم تصب لصالح إيران فهي لا تمثل العكس).
لاسيما أصبحت إيران ورقة مكشوفة من خلال مجريات الأحداث في سوريا وما أثمرته داعش حيال الوقف بوجه (الجيش الحر) وإضعاف قوتها وشل حركتها، ولم يكن هذا الاتهام هو الوحيد لداعش؛ فمعارضو الأسد رأوا بأنه صنيعة النظام، وأن هناك علاقة خفية تجمعهما أظهرتها سير العمليات العسكرية والأهداف والمكاسب المشتركة، فهما لم يتواجها عسكريًا إلا مرات معدودة، بينما تفرغت داعش لمحاربة التنظيمات الأخرى؛ مما أسهم بشكل كبير في ترجيح كفة الأسد ونجاحه في استعادة المدن التي سيطرت عليها المعارضة، ولاشك أن ممارسات داعش في سوريا جعلت “بشار الأسد” يكسب تأييدًا دوليًا أوعلى الأقل تم تحجيم دعم قوات المعارضة المحاربة له؛ فأرادت إيران أن تستفيد من هذه التجربة وتوظفها في العراق من خلال دعم السيد “نوري المالكي” لولاية ثلاثة، وما هو معلوم وواضح أن السيد “المالكي” هو رسول إيران المبعوث ذلة ومهانة للعراق لتبليغ سياستها التي تقف وراء تمزيق وحدة الصف، ولنا أن نتأمل في أحداث 10 حزيران كيف أن إيران وغيرها من القوى الإقليمية والدولية أدارت دفة داعش نحو العراق لتحرق الأخضر واليابس، وليكون المشهد أكثر دراميًا جاء انسحاب جيش المالكي إثر أوامر عسكرية تاركًا ورائه العدة والعتاد لـ “داعش”، ولم تتأخر كثيرًا اتهامات الخيانة بين المسئولين العراقيين وإلقاء اللوم على بعضهم البعض؛ حيث اتهم “أثيل النجيفي” محافظ نينوى (المحافظة التي سقطت في أيدي داعش في غضون ساعات) ثلاثة أسماء عسكرية وهم قائد القوات البرية الفريق أول “علي غيدان”، وقائد العمليات المشتركة في الموصل الفريق أول “عبود قنبر”، وقائد الشرطة الاتحادية في الموصل اللواء “مهدي صبيح الغراوي” وحملهم مسئولية إسقاط المحافظة.
ولكي يقوم “السيد المالكي” بالشطر الثاني من الخطة المقيتة راح ليعلن عن حالة الطوارئ لكي ينعم بـ ولاية ثالثة، لكن الأحداث المتسارعة في المنطقة خلقت سياسات جديدة كانت أبعادها أكبر من “السيد المالكي” وحلمه البائس، فكان من شأن إيران أن توظف هذه السياسات لمصالحها الإقليمية لوضع خارطة توازن جديدة، أطرافها (إيران، السعودية، مصر) برعاية “الولايات المتحدة” فجاءت تبريكات إيران للسيد “حيدر العبادي” متخلية عن “المالكي” إرضاءً لأطراف المعادلة؛ فجاء ترشيح “حيدر العبادي” مرحبًا به داخليًا وإقليميًا ودوليًا.
أما الموقف الدولي لم يكن أكثر من مشاهد متقمص D3 لخروج داعش عن جميع القواعد والأطر والأخلاق والقوانين المحلية والإقليمية والدولية، ولم نر أي رد فعل دولي لما يحصل من جرائم، أما ردة الفعل الأمريكية والبدء بغارات جوية بعد توجه داعش نحو أربيل فهي مجرد تحرك ضمن إخراج هوليودي للظهور بمظهر المدافع عن الشعوب ولتحجيم قوة داعش التي تريد التمدد داخل إقليم الكوردستان، ولنكون على بينة من التآمر الدولي، فوفقًا لوثيقة صدرت مؤخرًا من قبل وكالة الأمن القومي الأمريكي (NSA) تنص الوثيقة على أن داعش تأسست من قبل الولايات المتحدة والمخابرات البريطانية والإسرائيلية كجزء من استراتيجية أطلق عليها اسم “عش الدبابير”؛ لجذب متشددين إسلاميين من مختلف أنحاء العالم إلى سوريا، وكما بيّن العميل السابق والهارب “إدوارد سنودن” أن أبو بكر البغدادي، خليفة داعش، هو أحد عملاء المخابرات الأمريكية.
ليظهر صنيع أمريكا الجديد تحت أضواء أكثر إثارة بدءًا بسفك الدم ومرورًا بانتهاك العرض وانتهاءً بسرقة أموال وممتلكات العامة والخاصة، لكن هذه المرة لم يكن ظهور نجم هوليود الجديد (أبوبكر البغدادي) من جبال أفغانستان ولا حتى من صحراء الأنبار كسابقيهم، بل كان أول إطلالته من الموصل حيث خرج على التلفاز بلحيته السوداء الكثّة وردائه العربي الكلاسيكي الأسود اللون وعمامته السوداء تيمنًا بالرسول – صلى الله عليه وسلم – ومن عامة المسلمين ليس بأشرفهم ولا أفقههم ولا أذكاهم وليس بقرشي المنبت ولا هاشمي الأصل ولا يمت لأهل بيت النبي – صلى الله عليه وسلم – بصلة، معلنًا نفسه وعلى الملأ كلّه وعلى جميع الوسائل المرئية والمسموعة أنه خليفة للمسلمين على أساس (إمارة الاستيلاء) لا (إمارة الاستكفاء) ودون أن يكون لرعيتة رأيًا أو وجهة نظر أو حتى شقّ كلمة، لكي يكون الدور المسرحي التراجيدي المحبوك جيدًا وكاملاً حتى إسدال الستارة المصنعة في الولايات المتحدة ومطابخ الموساد النتنة.
ما هي أسباب انسحاب الجيش العراقي وسيطرت داعش عن سواها؟
وفق التحليلات السياسية، إن هزيمة الجيش العراقي رغم انسحابه تكتيكًا، لكنه بعكس ماهو متوقع رحب بهذا الانسحاب ميدانيًا في المحافظات التي تخلو من سيطرة حكومة “السيد المالكي” وذلك لعدة أسباب منها:
- – استمرار حكومة السيد “المالكي” بسياسة الإقصاء والتهميش التي وجه بها المحافظات المنتفضة والصيد في الماء العكر والتنكيل برموز السنة دون النزول عند مطالبهم، وتبني مخرجات إيجابية من شأنها أن تعيد المياه إلى مجراها وتنقذ البلاد من مستنقع الطائفية والصراع المذهبي المقيت؛ فكانت نتيجة هذا الترحيب تواطؤ كبار ضباط الجيش السابق مع “داعش” والنظر إليه على أنه أفضل السيئين بعد فقدان الجيش الغطاء الشرعي من خلال المنظور المجتمع السني، فكان من المؤكد أن يحل داعش بديلاً عنها.
- – كان التآمر الخارجي الذي وجد له أذرعًا داخل العراق ودعمه لـ”داعش” عسكريًا ومعلوماتيًا، أدى إلى التخلص من جميع القوى المناوئة الوطنية منها والثورية المعبرة عن المجتمع السني وإضعافها مما عكست ذلك على توغل “داعش”.
الاستنتاجات:
1- ما حدث في العراق في 10 حزيران 2014 هو في الأساس تنفيذ مراحل متقدمة من المشروع الأمريكي، مشروع “بايدن” لتقسيم العراق على أسس طائفية وعرقية، وهذا المشروع رفض بقوة من قبل المكونات العراقية الأساسية (الشيعة، السنة، الكورد) كان موقف المكون السني والشيعي رافضًا تمامًا لفكرة الأقاليم، وفي المقابل كان موقف البيت الكوردي واضحًا أيضًا منذ البداية في ما يخص الاتحاد الفدرالي وقد حسم أمره منذ 2005 عندما شارك الكورد في وضع الدستور العراقي، أما ما يخص الاستفتاء وحق تقرير المصير للشعب الكوردي الذي أعلنت عنه حكومة إقليم كوردستان جاء نتيجة جملة من الخروقات الدستورية من أجل أهداف آنية وضيقة لا تهدف إلى وحدة الصف فجاء هذا الاستفتاء أو العمل به تقيدًا بديباجة الدستور العراقي التي تقول في حالة خروج عن هذا الدستور يمنح الأطراف التي وقعت على هذا الدستور حرية الاختيار بين الاتحاد الفدرالي أو الكونفدرالي.
2 – إن أحداث 10 حزيران كانت تهدف إلى إشعال نار الفتنة المذهبية (السنية، الشيعية) والفتنة القومية (الكوردية، العربية) لولا احتواء الموقف من قبل بعض الوطنيين الشرفاء؛ لسارت البلاد إلى منزلق الطائفية والصراع المناطقي، وبالتالي النزول عند المخطط الأمريكي مشروع “بايدن” أي تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات (شيعة، سنة، كورد).
3 – أفرزت مجريات أحداث 10 حزيران إشكالية شرعية تمثيلية النواب السنة للمجتمع السني لأن هناك واقع سني جديد وقد يفرز هذا الحراك الحالي نخبة سياسية سنية جديدة غير التي في بغداد والتي أدارت العملية السياسية عبر “إحدى عشرة سنة” سواء على مستوى المحلي أو المركزي.
4 – أن سياسة داعش التي تنتهجها اليوم في تلك المناطق التي تخضع لسيطرتها والخناق الذي يعيشه أبناء هذه المناطق تحت غطاء الشريعة الإسلامية من شأنه أن يؤدي إلى غياب الأحزاب الإسلامية أو تحجيمها في المجتمع إذا ما أُعيدت هذه المناطق إلى حياتها الطبيعية، حيث إن هذه سياسات مستوحاة من العصور الوسطى أو فترة ما يعرف بهيمنة الكنيسة وسيطرتها على سلطتين “الإلهية والدنيوية” الأمر الذي أدى إلى زيادة الفقر والعوز والمرض؛ مما ساعد الحال المتردي إلى انتشار حركات مناهضة للكنيسة فشاعت الماركسية واللادينية والعلمانية وغيرها من الحركات المناهضة للكنيسة؛ فكانت نتيجتها عزل الكنيسة عن الحياة السياسية وتحديد دورها في المجتمع، وبرأيي أن سياسة “إعلان التوبة” لهي مشتقة من سابقتها “صكوك الغفران” في محاولة لها توظيف هذه التجربة للاستفادة منها في العصر الحديث والمعاصر.
ختامًا .. إن الأحداث الدموية الأخيرة أعادت العراق إلى بؤرة الأحداث مرة أخرى كاشفة بما لا يدع مجالاً للشك أن الاستمرار بالسياسة الفردية وتهميش الشركاء الحقيقين في العملية السياسية من شأنه جر البلاد إلى نفق مظلم، على الحكومة القادمة أن تتبنى سياسات جديدة مجردة من التهميش والإقصاء، وبناء حكومة وطنية قائمة على أساس الكفاءة وشراكة من قبل جميع المكونات السياسية وتبني مخرجات إيجابية من شأنها إنقاذ البلاد من تداعيات خطيرة.