دأب الاحتلال الإسرائيلي على سرقة وثائق مهمة من الأرشيف الفلسطيني، لا سيما الوثائق التي تتعلق بأملاك وأوقاف وعقارات المدن الفلسطينية وقراها، حتى يضع يده بسهولة على تلك الممتلكات دون أن يبقى للفلسطينيين أي حجة قانونية أو إثبات تاريخي في وجه الرواية الإسرائيلية أو أوامر الإخلاء، وكما هو متوقع، تتخلص “إسرائيل” من هذا الأرشيف بشكل كامل، لكي لا يكون عائقًا أمام روايتها المزيفة، وفي حالات أخرى، قد تزوه وتتلاعب بالمعلومات التي تشير إلى حقوق الفلسطينيين، وبذلك تمنح نفسها الشرعية في مصادرة الأصول وتهويدها.
شكلت هذه المحاولات معركة جديدة مع الاحتلال، وبالتالي ظهرت العديد من المشاريع والمبادرات الفردية والشبابية لحفظ مئات الوثائق التي توثق تاريخ فلسطين ما وراء الكواليس في مختلف الحقول الاجتماعية والسياسية والثقافية والقانونية والاقتصادية، ليس ترفًا أو رفاهيةً ثقافيةً وتاريخيةً وإنما كخطوة احتجاجية في إطار المقاومة والصمود أمام جميع المتغيرات والصراعات التي تحاول التشكيك في سردية الرواية الفلسطينية، ومن أبرزها مؤسسة “أرشيف خزائن”.
مقاومة الاحتلال والنسيان
انطلقت مؤسسة “خزائن” عام 2016، سعيًا لتوثيق الحياة العربية اليومية وقصص الناس، من خلال جمع أرشيفات الصحف والمجلات والأفلام والصور، والمثير للاهتمام، أن “خزائن” لم تكتف بجمع الوثائق الحكومية أو الرسمية، وإنما أرشفت أيضًا الملصقات والمطويات والمنشورات والإعلانات التجارية الثقافية وبطاقات العمل ودعوات الفرح والشهادات والبطاقات البريدية، على اعتبار أنها تحتوي على تفاصيل لمناطق وأشخاص قد لا نجدها في أي مكان آخر لاحقًا.
يقول مؤسس مبادرة “خزائن” فادي عاصلة في أحد اللقاءات التعريفية بالمبادرة: إن “كل قصاصة ورق هي مدخل لحكاية ملهمة”، وبحسب تعريف المؤسسة فإن “هذه المواد الشاهد الأخير على حقبة مهمة من تاريخنا، تحفظ إرثًا كاملًا بتفاصيله اليومية، وتشكل ذاكرة للمجتمع بأكمله، لتكشف الكثير من الحقائق التاريخية والتحولات والتبدلات الدقيقة من خلال التاريخ الاجتماعي. كما أنها توفر فرصة ثمينة لدراسة التجربة الاجتماعية”.
اختارت المؤسسة اسم “خزائن”، استلاهمًا من المصطلحات التاريخية التي كانت تستخدم عادةً للإشارة إلى المكتبات في التاريخ الإسلامي، مثل خزائن بيت الحكمة في بغداد وخزائن القيروان وخزائن قرطبة، كما تعمل تحت شعار “نبني الحاضر ونحفظ ذاكرة المستقبل”، وإلى الآن، استطاعت جمع أكثر من 60 ألف مادة، إلا أنها تسعى إلى ضم أكثر من 10 آلاف ملف، إضافة إلى الإنتاجات الورقية، تجتهد “خزائن” في تعزيز الثقافة الأرشيفية لدى الأجيال الصغيرة وتوعيتها بالكنز التاريخي الذي يمكن أن تبنيه من قصاصات الورق التي قد يعتقد البعض أنها عديمة الأهمية.
تفحصت مؤسسة “خزائن” الأرضية التاريخية لجميع البلدان العربية ولم تقتصر جهودها فقط على فلسطين، وكان تعليق مدير المؤسسة، عاصلة، في هذا الشأن، كالتالي: “لا يوجد إمكانية لفصل فلسطين عن الوطن العربي، فإن فلسطين جزء لا يتجزأ عن المنطقة، تتأثر بما تتأثر، وبالتالي هي امتداد لثقافته وإرثه وتفاعلاته بشكل مباشر، ولذلك كانت خزائن جزءًا من المؤسسات الفاعلة العربية، وليس مؤسسة معزولة عن امتدادها”.
ولذلك، فتحت المؤسسة الباب أمام الجميع ليبنوا الخزانة الخاصة بهم، من خلال وضع المواد التي يرغبون في حفظها، سواء كان مضمونها يحكي عن التاريخ الفلسطيني أم تاريخ المنطقة العربية، المهم ألا تتجاوز الحقوق الفكرية والأخلاقية والقانونية لمعايير النشر والخصوصية، ولكن تجنبًا للفوضى، نسقت المؤسسة الوثائق حسب عدة تصنيفات، مثل الحقبة الزمنية (بدايةً من عام 1890) ولغة الوثيقة (عربي، إنجليزي، فرنسي، أمازيغي وغيرها) ونوع المادة (تذكرة، بطاقة بريدية، إعلان تجاري وغيرها) والناشر والمؤلف والمكان (مصر، الأردن، لبنان، سوريا، قطر..)، وغيرها من التقسيمات التي من شأنها تسهيل عملية البحث والوصول للوثيقة المطلوبة.
من نصوص صماء إلى روايات ناطقة
تعددت الجهود الفلسطينية الساعية إلى حفظ التاريخ الفلسطيني وموروثاته الثقافية، وتنوعت بين مبادرة “خزائن” ومؤسسة “وثق” الافتراضية وأرشيف المتحف الفلسطيني الرقمي ومشروع “هوية” وموقع “ذاكرات” والفيلم الوثائقي “المنهوب والمخفي: الأرشيف الفلسطيني في إسرائيل”، وغيرها من الاجتهادات التي رأت أن “إسرائيل” لم تسرق أرض الفلسطينيين وتنكل بهم فقط، بل أفرغت أيضًا التاريخ الفلسطيني من وثائقة وسجلاته الثقافية، ودمرت الإرث الذي يدلل على وجود المدارس والمستشفيات والمراكز الثقافية والمكتبات العامة والأراضي والقرى على أرض فلسطين التاريخية، منذ عهد الحكم العثماني والانتداب البريطاني، مثل أرشيفات المحاكم الشرعية والمحاكم المدنية والبلديات والأوراق الخاصة بالعائلات والقيادات الفلسطينية المهمة.
وحفاظًا على الذاكرة الجماعية والموروث التاريخي الذي يشكل الهوية والوجود الفلسطيني ويحارب الدعاية السوداء والبروباغندا الإسرائيلية السياسية والاجتماعية الساعية للسيطرة والتطهير العرقي للفلسطينيين، اجتمع هؤلاء المساهمون والمتطوعون من حول العالم لتأريخ الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وتعزيز الموروث البصري والمكتوب لدى الأجيال القادمة، لا سيما أن الاحتلال الإسرائيلي في المقابل صنع لنفسه أرشيفًا خاصًا وبنى عليه رواية تاريخية تطعن في رواية فلسطين الصحيحة.
تأسس الأرشيف الصهيوني عام 1919 في العاصمة الألمانية، برلين، باقتراح من عضو الإدارة الصهيونية آرثر هنتكي وبجهد من المؤرخ جورج هارليتش، وعمل هارليتش لسنوات على المواد الأرشيفية ثم نقل إنتاجه إلى القدس عام 1933. يحتوي الأرشيف على أكثر من مليون صورة لمدن وقرى فلسطين، وأكثر من 4 آلاف و500 إعلان لمؤسسات صهيونية ويهودية، و140 ألف كتاب عن الحركة الصهيونية وتاريخ البلاد و13 ألف صحيفة و2500 قطعة متحفية و130 ألف خريطة.
الأرشيفات الصهيونية عملت وما زالت تعمل على تعزيز المشروع الصهيوني، حيث إنه لا يوجد أي فرق بين وحدة عسكرية تعمل على الأرض وأرشيف يدعي بأنه يشكل مصدر معلومات لأغراض علمية لأنه بكلا الحالتين، يُُغيب الفلسطيني ويُُعامل على أنه عينة للدراسة
في هذا السياق، يقول عاصلة في إحدى المحاضرات التي ألقاها إن الأرشيف الصهيوني ليس مشروعًا فارغًا، فقد شكل هذا المنتج البنية الأساسية للخطاب الصهيوني ومستودع لإعادة بناء الموقع وتدمير مجتمع بأكمله، ومنح نفسه أرضية لبدء مشروعهم وعملهم، وبذلك نستنتج العلاقة القوية بين الأرشيف والمؤسسة الأمنية الصهيونية وكيف كونت فكرتها وأدوات استعمارنا.
يكمل حديثه في نفس المحور، قائلًا: “المشروع الصهيوني يعمل بشكل تكاملي، بمعنى أن كل مؤسسة تمد غيرها من المؤسسات بالقوة وتكمل نشاطها”، ويستخلص بالمحصلة أن الأرشيفات الصهيونية عملت وما زالت تعمل على تعزيز المشروع الصهيوني، حيث إنه لا يوجد أي فرق بين وحدة عسكرية تعمل على الأرض وأرشيف يدعي بأنه يشكل مصدر معلومات لأغراض علمية أو أكاديمية أو الموضوعية، لأنه بكلا الحالتين، يُُغيب الفلسطيني ويُُعامل على أنه عينة للدراسة والبحث عن كيفية السيطرة عليه أو استبداله بعنصر آخر.
بالنهاية، لا بد من التعامل مع الأرشيف والتاريخ الفلسطيني كأولوية في دعم القضية الفلسطينية ونضالاتها، على اعتبار أنه أحد الأدوات التي تساعد الأجيال الحاليّة والقادمة في تشكل سردية تاريخية صحيحة وقوية في معركة البقاء التي بدأتها “إسرائيل” من خلال الاستيلاء على الأراضي وتهجير سكانها من جهة، وتزوير تاريخها لضمان شرعية وجودها وبقائها من جهة أخرى.