الكتابة للطفل هي مهارة ولغة تشكل تحديًا كبيرًا أمام الكاتب العربي لتقديم محتوى متميز وهادف، يتسم بالعمق والبساطة في آن واحد، سعيًا للوصول لبناء شخصية الطفل وتطوير قدرته العقلية وتشكيل وجدانه وحتى سلوكه، إذ إنها تعرض موضوعات أخلاقية معقَّدة في جوهرها، بأسلوب فني روائي ينجو من الوعظ والإرشاد، وربما يقترب من الفكاهة التي تقي الطفل آفة الملل وتجذبه إلى حب القراءة وتصحيح المفاهيم الخاطئة لديه.
وللتعريج على واقع الكتابة للأطفال واليافعين في العالم العربي، وعلى بعض الفجوات والتحديات التي يوجهها الأدباء الذين اختاروا مغامرة العمل في هذا المجال الذي يمكن أن يطلق عليه فن السهل الممتنع، التقى “نون بوست” مع ثلاث كاتبات من ثلاث دول عربية مختلفة في مجال أدب الأطفال يؤمنّ أن نجاح الكاتب مرهون بجمعه بين المعرفة والموهبة، فقدمن قصصهن المنشورة بطريقة مشوقة ومبدعة، تتناسب مع ذهنية الأطفال، وتحدثن عن واقع أدب الأطفال في العالم العربي.
السورية بنان الشماط
الكتابة السورية بنان الشماط المتخصصة بكتابة قصص الأطفال ومشرفة التحرير بمجلة “غراس” الموجهة للطفل، بكلماتها وأسلوبها البسيط تكتب بنان للطفولة المبكرة وإلى أعمار يافعة متقدمة، وعن حسها الإبداعي تقول: “منذ صغري وأنا أحب القراءة في كل المجالات الدينية والأدبية والنفسية وكانت هديتي المفضلة كتابًا، ولطالما اختبأت في مكان لا يراه أحد لأنفرد بكتاب أو مجلة أو رواية، كنت أسرح بخيالي مع المسرحيات العالمية وتخيلت أبطالها يقفون على المسرح، كان أبي يشتري لنا المجالات، حتى كنت أقرأ عند الأقارب والجيران، وأحاول أن أكتب قصة ثم أرسم لوحاتها وألونها وكتبت العديد من المسرحيات الخاصة بالأطفال”.
تضيف بنان أن أبرز أنواع قصص الأطفال التي تستهويها تلك التي تعزز القيم الأخلاقية مع إمتاع خيال الطفل، وتقدم الدعم النفسي الذي يتم من خلاله تعديل سلوكيات الطفل بطريقة غير مباشرة والقصص الدينية والقصص التي تحوي صورًا فقط دون كتابة، وتتابع: “الصورة في القصة مكون أساسي ويمكننا عندها حكاية ما نريده بالصور من دون كتابة حرف واحد تعتمد على حقيقة علمية والقصص التي تسرح بخيال الطفل وترافقه حين نومه”، مشيرةً إلى ابتعادها عن الأسلوب التلقيني، وكتابتها للقصص التي تعمل على تنمية المخزون اللغوي العربي للطفل بلغة سليمة دون تعقيد.
وتلفت بنان إلى شح الإنتاج المعرفي المقدم للطفل العربي، وعدم مراعاة أو تحديد الفئة العمرية للكتابة القصصية، وتضيف: “هناك قصص لا تؤدي الهدف المطلوب، مثلًا الفئة الأولى ما دون عمر المدرسة التي يضطر الأهل معها لشراء قصص ليست عربية، والفئة الثانية فئة اليافعين التي تعاني من شح القصص والروايات التي تشعر دائمًا أن حقها مغبون في الأدب العربي فيلجأون إلى القصص المترجمة التي لا تتفق مع معاييرنا المجتمعية، وتلجأ بعض الأمهات إلى كتابة قصص لأطفالهن لسد هذا الثغر الموجود، وما أسعى إليه إضاءة هذه الفئة العمرية واستهدافها بالقصص والروايات التي تحترم عقولهم”.
توضح بنان أن اختيار كتابة القصة للطفل ربما أصعب بكثير من الكتابة للكبار “في الأعمار ما بين السادسة والتاسعة يجب أن يكون بطل القصة مثل عمر الطفل وتكون الكتابة سطر أو سطرين فقط لا أكثر وبخط عربي واضح وكبير وبلون مميز يستطيع الطفل تمييزه والرسومات في كل صفحة وذات طابع طفولي محبب وتلفت نظره القصص التي يكون أبطالها من الحيوانات حيث يسقط عليها صفات البشر كالكلام والطعام وغيرها، أما في العمر ما بين العاشرة والثالثة عشر فيميل اليافع حينها إلى قصص المغامرات والألغاز واكتشاف الحلول ذات الحبكة القوية التي تكون من عدة مراحل وعدة جولات ينتصر فيها البطل والخير في النهاية على الشر، وفيما أكبر من ذلك تبدأ مرحلة الإعجاب بقصص البطل الخارق والخيال العلمي”.
العمانية عائشة الحارثي
الكاتبة العمانية عائشة الحارثي مؤلفة ورسامة لقصص الأطفال ومصورة، لها العديد من الإصدارات في دور عربية مختلفة، وتؤمن بأن القصة أسلوب تربوي يتعلم منه الطفل عند حدوث المشكلات أو المواقف.
وعن أهم عناصر قوة القصة من حيث الأسلوب وعمر الطفل، تقول عائشة: “أدب الطفل ليس بالبسيط فهو يعتمد على عمق الموضوع المطروح ويجب على كل كاتب عربي أن يراعي قربه للواقع الذي يعيشه الطفل واختيار اللغة والأسلوب السهل عند سرد القصص، فهنا تحدث الفكر والعاطفة تكون قريبة من الطفل لذلك أسعى لخدمة وتطوير قصص الأطفال في السنوات الأولى من عمر الطفل، فالمواهب والمهارات التي تكتسب في هذا السن تبقى مع الطفل حتى يكبر، واختيار القصة للطفل يعتمد على مدى إدراكه وتقبله وفهمه للقصة”.
وأشارت عائشة إلى الصعوبات التي تواجه القصصيون بشكل عام بعدم تقبل دور النشر للأفكار الجديدة وترددها المستمر في إصدار أي فكرة مختلفة.
كما حازت عائشة في قصتها “الحنين” الصادرة عن دار أشجار على جائزة اتصالات عام 2018 عن فئة كتاب العام للطفل، وكتاب “بو” الذي رُشح ضمن قائمة القصص القصيرة لجائزة “كتابي”، وعن قصة “بو” تقول: “هي قصة خيالية لطيفة وليست مرعبة، والحقيقة أنني لم أتوقع أن تترشح لغرابة فكرتها الجديدة، وقد تم ترشيح القصة للقائمة القصيرة لجائزة “كتابي” لأدب الطفل العربي في دورتها الرابعة عن فئة الكتاب الخيالي للمرحلة العمرية من 7 إلى 9″.
وتبين الكاتبة عائشة أن قصصها موجهة لكل الأطفال في العالم، وليس لها طابع عماني أو حتى عربي، فالطفل طفل سواء في عمان أم أي بلد في العالم، له أحلامه وخيالاته وعالمه الخاص لذلك تحاول الدخول إليه بمنعطف لطيف يترك له الأثر.
الفلسطينية إيناس عزام
الإعلامية الفلسطينية وكاتبة قصص الأطفال إيناس عزام حاصلة على شهادة البكالوريوس تخصص إعلام لغة عربية، عملت لمدة 7 سنوات في إعداد وتقديم برامج الأطفال الإذاعية ومن ثم انتقلت إلى كتابة قصص الأطفال إلا أنها اتجهت مؤخرًا لصناعة المحتويات الرقمية القصصية للأطفال عبر قنوات اليوتيوب.
بدأت بذور الكتابة الإبداعية لدى إيناس منذ صغرها عندما كانت والدتها تعمل مُدرسة لغة عربية، تقول: “قبل 25 عامًا لم تكن الفضائيات تستوطن منازلنا كما اليوم، فكان من السهل توجيهنا أنا وإخوتي نحو القراءة، ومجلة ماجد للأطفال أول وافد يزور منزلنا في أدب الطفل، لتبدأ معها مرحلة جديدة في حياتنا نحو القراءة والمطالعة”، مشيرة إلى أنها بدأت بالتمعن وأخد وقت أطول في قراءة القصة، وصولًا إلى تطورها بشكل تدريجي نحو قراءة الروايات ثم عمل ملخصات لكل قصة ورواية بعد الانتهاء منها.
وعن أولى تجارب إيناس كانت مع مجلة “براء” في فلسطين، لسلسلتين قصصيتين الأولى “سولانة الكسلانة” والثانية “مغامرات كايا ومايا”، ثم انتقلت إيناس للكتابة في مجلة “جاسم” القطرية، وصدر لها مجموعة من قصص “الكومكس” المتنوعة، إضافةً إلى كتابة المحتوى الرقمي القصصي التابع لمجموعة من قنوات اليوتيوب، التي تستهدف أبرز قضايا الأطفال المعاصرة كالتنمر والتحرش وكيفية زرع القيم والأخلاق في جيل نشأ على حب الأجهزة الإلكترونية، وغيرها من المواضيع ذات المضمون التربوي.
وتطرقت إيناس إلى أخطر عائق أمام جيل اليوم بشكلٍ عام الذي لمْ يُبن على حب القراءة، قائلة: “جيل اليوم لو خيرته بين قراءة قصة وجلوسه على جهازٍ لوحي لاختار الجهاز اللوحي دونّ تفكير، تكمن التحديات في كيفية إقناعه.. وحتى إن نجح الوالدان بذلك سيبقى التحدي قائمًا في ظل المغريات التكنولوجية والرقمية”.
وفي الوقت الحاليّ فإن أبرز مجالات وأنواع القصص التي تكتبها إيناس للأطفال هي كتابة القصص القصيرة مستهدفة الفئة العمرية من 7 سنوات إلى 16 سنة.
ولفتت إيناس إلى الضعف العام للقراءة الذي يعاني منه الأطفال في العالم العربي، فبحسب إحصائية اليونسكو، مُعدل قراءة الأطفال في العالم العربي خارج المنهاج الدراسي تصل إلى 6% في السنة، فيما يقرأ كل 20 طفلًا عربيًا كتابًا واحدًا سنويًا، وهي نسبة ضئيلة جدًا إذا قورنت بأطفال الدول الأوروبية، فالطفل البريطاني يقرأ 7 كتب والأمريكي يقرأ 11 كتابًا، في السنة.
وتضيف إيناس: “لا ننكر وجود كُتاب وأدباء ونُقاد تُرفع لهم القبعة احترامًا للحفاظ على هوية القصة العربية الخاصة بالطفل، إلا أنَّ واقع القصة في العالم العربي مُحبط وبحاجة إلى دعم أكثر بدءًا من أولياء الأمور وصولًا لصنّاع القرار في مختلف المجالات”.
كما تؤكد إيناس أن قراءة قصص الأطفال لها مغزى ذو أبعاد اجتماعية وتربوية في مرحلة الطفولة استعدادًا للمستقبل ومن أكثر الخطوات ذكاءً خاصةً إذا بدأت بسن مبكرة، فهي تعمل على تطوير مهاراته الاجتماعية، من خلال تركيزه واستماعه للآخرين، وتنمية خياله وقدرته على التواصل، والتعبير عن ذاته، والقصص بشكلٍ عام تُساهم في غرس المفاهيم التربوية والوطنية على حدٍ سواء، ومع ذلك تبقى قراءة قصص الأطفال على الساحة الفلسطينية ضعيفة على حد وصفها.
الفئات العمرية الأكبر تتطور حاجتهم الفكرية لقراءة قصص مبنية على “الفانتازيا” والتشويق
وعن اختيار القصة المناسبة لعمر الطفل تقول إيناس في هذا الصدد: “يتم تقسيم قصص الأطفال حسب الفئة العمرية المستهدفة، فالأطفال بعمر 3 سنوات حتى 5 سنوات يبدأون بإدراك الأشياء من حولهم، فيتم قراءة القصة لهم من الوالدين بحيث لا تتجاوز الخمس دقائق وتتميز برسوماتها وألوانها الجذابة والمبنية على حبكة تربوية، بينما الأطفال بعمر 6 إلى 8 سنوات، تتطور قدرتهم على القراءة والتّخيل، فيميلون إلى القصص الخيالية المَروِية على لسان الحيوانات مثلًا، ولا نغفل احتواء هذه القصص على عِبر قيِّمة يتعلم منها الطفل السلوك الإيجابي بشكل غير مباشر، أما الأطفال الأكبر سنًا الذين تتراوح أعمارهم بين 9 و13 يميلون للقصص المثيرة ذات الأحداث الشيقة والمبنية بشكلٍ جذاب”.
وتبين الكاتبة أن الفئات العمرية الأكبر تتطور حاجتهم الفكرية لقراءة قصص مبنية على “الفانتازيا” والتشويق ولا مانع من احتوائها على بعض الغموض والأسرار والحقائق الصادمة، منوهةً إلى مناقشة أولياء الأمور أولادهم فيما يقرأون.
وتشتكي إيناس من سهولة النشر لأي قاص دون تحري الدقة والجهوزية الكاملة للعمل، ” فأضحت قصص الأطفال ضحية إهمال وتهور الكُتَّاب من جهة، وجشع دور النشر من جهة أخرى، والاحتضان الفعلي للقاص الناشئ يكون عبر ترويض شغفه وحبه للكتابة وعرض العمل على أهل العلم والمعرفة، ثم انتقالها للمرحلة الختامية، ألا وهي الطباعة”.
تطمح إيناس إلى إنشاء مجلة أطفال بهوية فلسطينية تعزز مفهوم حب القراءة ويتهافت الأطفال على شرائها وتقمُص شخصياتها، مهدية قصصها إلى أطفالها وكل أطفال العالم الذين تحلم أن تراهم يتسابقون في اقتناء القصص والكتب في يومٍ من الأيام.
أخيرًا، يشكو المربون كثيرًا من قلة المحتوى العربي الأصيل الموجه للطفل، أو من وفرة المحتوى الرديء أو المترجم، أو كلاهما، وأيًّا يكن فكلا الأمرين يكشفان عن وجود هذه الثغرة التي تنعكس بدورها أيضًا على بقية الإنتاجات الإبداعية التي تستهدف فئات الأطفال كالمحتوى المرئي أو المسموع أو الرقمي، ومن الواضح -والمؤسف- أن هذا الفراغ ملموس لكل عائلة تبحث عن محتوى عربي أصيل يشغل بعض وقت الطفل ويثري مواهبه وحواسه ومعارفه.