جاهدة، تحاول فرنسا ترسيخ نفوذها في الجزائر وإعادة سطوتها إلى مستعمرتها السابقة، بعد أن عرفت العلاقة بين الطرفين فتورًا وتوترًا كبيرًا في أثناء الحراك الشعبي الذي أطاح بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة وانتخب على إثره عبد المجيد تبون رئيسًا للبلاد.
مساعٍ فرنسية كبيرة، تقول السلطات الفرنسية إن الهدف منها في صالح البلدين، لكن العديد من الجزائريين يرون عكس ذلك، فالهدف من هذه المساعي وفق رأيهم، حماية مصالح باريس في بلادهم بعد أن تم تهديدها خلال الحراك الشعبي الذي انطلق في فبراير/شباط الماضي.
تحركات دبلوماسية
ضمن هذه المساعي، التقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نظيره الجزائري عبد المجيد تبون، مساء الأحد، في برلين، على هامش مؤتمر برلين لإحلال السلام في ليبيا الذي شاركت فيه أبرز الأطراف الدولية المعنية بالنزاع الليبي واتفقت على احترام حظر إرسال الأسلحة إلى ليبيا وعدم التدخل بشؤونها الداخلية، على أمل عودة السلام لهذا البلد الذي مزقته الحرب الأهلية.
ونقلت وكالة الأنباء الجزائرية أن تبون أجرى محادثات مع ماكرون، على هامش المؤتمر، دون تقديم تفاصيل عن طبيعتها أو الملفات التي تناولتها، ويعد هذا اللقاء الرسمي، الأول من نوعه لتبون مع مسؤول فرنسي، منذ انتخابه في 12 من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، رئيسًا جديدًا للجزائر.
بعد ذلك اللقاء بيومين، قام رئيس الدبلوماسية الفرنسية جان-إيف لودريان بزيارة سريعة للجزائر العاصمة، حيث التقى لودريان المسؤولين الجزائريين الجدد، وزير الخارجية صبري بوقادوم ورئيس الوزراء عبد العزيز جراد ثم رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون.
تخشى فرنسا تأزم الأوضاع في الجزائر وخروجها عن السيطرة، وهو ما يمثل خطرًا على مستقبلها هناك
يعتبر وزير الخارجية الفرنسي جان-إيف لودريان أول وزير فرنسي يزور الجزائر منذ زيارة وزيرة العدل الفرنسية نيكول بيلبوييه أواخر يناير/كانون الثاني 2019 لهذا البلد العربي، الذي يشهد تغييرًا جذريًا في أعلى هرم السلطة.
وأوضح بيان للخارجية الجزائرية أن وزيري خارجية البلدين بحثا خلال لقاء الثلاثاء “وضع علاقات التعاون بين البلدين وسبل ووسائل تدعيمها”، وقال البيان إنهما “درسا بعمق القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك خصوصًا الوضع في ليبيا ومالي”.
عودة الود بين البلدين
هذه المساعي، كما قلنا تأتي لتلطيف الأجواء بين البلدين، ففرنسا استُهدفت منذ بداية الحراك الجزائري في 22 من فبراير/شباط من السنة الماضية بشعارات منددة بسياستها تجاه الجزائر، خلال المسيرات المختلفة، ويرى الجزائريون الذين خرجوا إلى الشوارع ضد النظام أن فرنسا ورئيسها ماكرون هم الذين يدعمون نظام بوتفليقة “الفاسد” دون هوادة، كما يرون أن باريس لم تتخل عن نظام عبد العزيز بوتفليقة ولم تعلن تأييدها لمطالب الحراك الشعبي إلا عند تيقنها من انتهاء مرحلة بوتفليقة، وهو ما زاد من درجة سخطهم على هذه الدولة التي استعمرت بلادهم لأكثر من قرن.
فحتى بعد الانتخابات كان الموقف الفرنسي باردًا تجاه نتائجها، حيث تلقى الرئيس الجزائري المنتخب عبد المجيد تبون التهاني من مختلف الدول، لكن الجانب الفرنسي تأخر في تهنئة الرئيس الجديد، واكتفى خلال الأيام الأولى بعبارة “أخذنا علمًا بنتائج الانتخابات”.
شعارات مناهضة لفرنسا في احتجاجات الجزائر
لكن الملاحظ أن استهداف فرنسا لم يكن من جانب الشعب فقط بل من السلطات أيضًا، فقد اعتقلت السلطات الجزائرية أعضاء كبار في اللوبي الداعم لباريس بالجزائر كما عطلت صفقات كبرى لشركات فرنسية هناك على غرار تعطيل عملية شراء العملاق الفرنسي الناشط في قطاع الطاقة “توتال”، لأصول العملاق الأمريكي “أناداركو” في الجزائر، فضلًا عن اتخاذ العديد من الوزارات والمؤسسات العمومية في البلاد، إجراءات لتدعيم اللغة الإنجليزية وإسقاط الفرنسية المهيمنة.
هذه التطورات جعلت السلطات الفرنسية في حيرة من أمرها، ذلك أنها تخشى تأزم الأوضاع في هذا البلد العربي وخروجها عن السيطرة، وهو ما يمثل خطرًا على مستقبلها هناك والامتيازات التي تتمتع بها، بذلك تسعى جاهدة لإعادة الود بين البلدين.
استلطاف الجزائريين لإنقاذ مكانتها
استبعدت الأستاذة الجامعية بكلية الإعلام والاتصال بقسنطينة سلمى ربيعي، سعي فرنسا للود مع بلادها، مؤكدة أن هذا البلد الأوروبي دائمًا ما يسعى وراء مصالحه الشخصية فقط، دون أن يولي أي اهتمام لمصالح باقي الدول والشعوب.
وأكدت سلمى في حديث لنون بوست أن “السلطات الفرنسية تحاول فقط استلطاف نظيرتها الجزائرية، كونها تعتبر الجزائر غنيمة حرب، ففرنسا لا يمكن لها العيش من غير الجزائر، فأغلب مصالحها مرتبطة ببلدنا”، مضيفة “في أثناء الحراك الشعبي ألغيت العديد من الاتفاقيات مع فرنسا من ذلك صفقة إعادة ترميم القصبة بالعاصمة، وأسندت لدول أخرى منافسة لها، وهو ما لا يخدم باريس ورأت فيه تعديًا واضحًا على امتيازاتها في بلد كانت تستولي على غالبية الصفقات فيه”.
يرى العديد من الجزائريين أنه رغم خروج فرنسا من بلادهم سنة 1962 فإنها لم تتركها لحالها، بل واصلت نهب ثرواتها
تضيف محدثتنا “قبل الحراك كانت فرنسا الآمر الناهي في الجزائر، وهو ما يوضحه الميزان التجاري للبلاد”، وتعد فرنسا ثاني أهم مصدر للجزائر خلال الأشهر التسع الأولى من السنة الماضية، بنحو 3.253 مليار دولار، أما من حيث الواردات، فإن فرنسا تتصدر قائمة الدول بـ3.810 مليار دولار.
وتؤكد الأستاذة في الجامعة الجزائرية أن السلطات الفرنسية اليوم تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه كون باريس تشعر بالخطر ومكانتها مهددة في بلادها بعد أن كانت القرارات الجزائرية تصنع في العاصمة باريس داخل الإدارات الفرنسية.
تأمل فرنسا مواصلة تدعيم نفوذها في الجزائر
بدوره يقول مدير موقع شهاب برس الإخباري في الجزائر، فاتح بن حمو: “فرنسا من مصلحتها أن تكون لها علاقات مميزة مع الجزائر خاصة إذا علمنا أن هناك مشاريع حيوية لشركات فرنسية في الجزائر، فضلًا عن الملفات العالقة بين البلدين كملف الهجرة والتبادل التجاري ومحاربة الإرهاب في الساحل والملف الليبي”.
ويضيف بن حمو في مداخلة مع نون بوست أن “العلاقات بين البلدين توصف دائمًا بأنها العلاقات التي لا يمكن تفاديها، فهي علاقات تاريخية يؤثر فيها الأمن والاقتصاد والسياسة والجالية الجزائرية الكبيرة الموجودة في فرنسا، فمن قدر الجزائر التاريخي أنها لا تستطيع تجنب العلاقات مع فرنسا”.
يرى العديد من الجزائريين أنه رغم خروج فرنسا من بلادهم سنة 1962 فإنها لم تتركها لحالها، بل واصلت نهب ثرواتها، ما أدى إلى تفقير الشعب وارتهان البلاد لسلطتها، فمستعمر الأمس استنزف ثروات الجزائر بأشكال عدة ومتنوعة، بفضل مسؤولين جزائريين يميل ولاؤهم صوب فرنسا.