ترجمة وتحرير: نون بوست
عندما بدأت العمل في مجال الكتابة العلمية أثناء دراستي في الجامعة، اعتقدت بأن العلم يعتبر دائمًا موثوقًا فيه. وفي ذلك الحين، لم أكن أفهم أن العلم يتغير دائمًا وأنه يمكن التراجع عن نتائج الدراسات واستبدال النظريات وبناء معارف جديدة على أنقاض المعارف السابقة. علاوة على ذلك، آمنت باستنتاجات العلماء تماما مثلما آمنت بالأفكار الأصولية التي نشأت عليها في الكتاب المقدس الذي يجب التسليم بكلماته بشكل حرفي وثابت دون أي تغيير.
لفترة قصيرة، حل العلم محل الدين في حياتي، حاملاً معه كل الإجابات الصحيحة بينما قام العلماء بإعطاء تفسيراتهم للجمهور مثل مجموعة من القساوسة. في المقابل، جعلتني دراستي للعلوم في المدرسة واطلاعي على كتب واقعية حول مدونتي، ألاحظ وجود أخطاء تسببت في تصدع الأسس المتينة التي بنيت حولها حياتي.
عندئذ، أدركت بأن العيوب ذاتها التي دفعتني إلى ترك الدين المؤسساتي، على غرار السلطة الأبوية والظلم واختلال توازنات القوة والتأويلات المتحيزة، تلقي بظلالها أيضًا على العلوم. مع ذلك، لم أكن مهتمًا بالمغادرة هذه المرة، بل بقيت من أجل معرفة أسس العلم الجيد، وكشف حقيقة إساءة الإنسان استخدام العلم عبر التاريخ، وكيف يمكن تحسينه في سبيل الصالح العام.
وتجدر الإشارة إلى أن العلم يتغير دائمًا، نظرا لأنه “يتشكل انطلاقا من الزمان والمكان”. علاوة على ذلك، أوضحت أنجيلا سيني في كتابها الذي يحمل عنوان “عودة السباق العلمي”، أن “العلم يظل في نهاية المطاف تحت رحمة المعتقدات السياسية الشخصية لمن ينفذونه، حيث كان العلماء النازيون الذين اختبروا وارتكبوا الفظائع باسم العلم قادرين على إنتاج علم جيد، لو أنهم بحثوا عن معنى الخير في البيانات عوضا عن الحياة البشرية”.
على الرغم من كل شيء، يعتبر العلم مجرد أداة، تستخدم كغيرها من الأدوات لمصلحة مستخدمها، بغض النظر عما إذا كانت هذه المصلحة صحيحة أو خاطئة. وفي هذا الصدد، قال كارل ساغان ذات مرة إن ” العلم ليس أكثر من مجموعة من المعارف ووسيلة لمساءلة الكون مع قدر كبير من التشكيك بسبب قابلية الخطأ عند الإنسان”.
في هذا السياق، يعتبر حساب “إفوسيغوغل” على موقع التويتر، مكانا ممتعا لمشاركة الدراسات ذات الأهداف والاستنتاجات غير الدقيقة. ويعمل المدير المجهول لهذا الحساب على نقد الدراسات بشكل ساخر. مع ذلك، يجدر بنا القلق بشأن كون هذه المشاركات تتمثل في بحوث حقيقية نشرت في المجلات العلمية الاحترافية. وعندما قرأت هذه الدراسات، لم أستطع سوى التساؤل عن كيفية توفير تمويل لهذا الهراء الذي كان يجدر منعه قبل مراجعة الأقران.
مؤخرا، أثار الحساب غضب الصالحين على شبكة الإنترنت، بسبب دراسة تقييم مدى جاذبية النساء اللاتي يعانين من التهاب بطانة الرحم. وتقترح الدراسة بأن النساء اللاتي يعانين من أقسى حالات التهابات بطانة الرحم “لديهن قوام أكثر رشاقة وثديان أكثر امتلاء، كما أنهن أكثر قدرة على الاستمتاع بالعلاقة الحميمة الأولى. وعلى الرغم من أن حساب التويتر، جعل الدراسة تنتشر بشكل فيروسي حتى أن وسائل الإعلام كتبت عنها عام 2019، إلا أن كتابات الدكتورة جين غانتر النقدية، تسببت في إسقاط لدراسة بشدة عند ظهورها الأول في أيلول/سبتمبر عام 2012.
كان الهدف من دراسة “جاذبية النساء المصابات بالتهاب بطانة الرحم المهبلي”، التي نشرت في مجلة “الخصوبة والعقم”، الصادرة عن الجمعية الأمريكية للطب الإنجابي، قياس الجاذبية الجسدية لدى المصابات بانتباذ البطانة الرحمي مقارنة بالنساء غير المصابات به. وفي ذلك الوقت، كتبت غانتر قائلة: “لم أتمكن من فهم المغزى من قيام مجموعة صغيرة من الأطباء الإيطاليين بتصنيف جاذبية النساء اللاتي تعانين من مراحل مختلفة من هذا المرض وماهية الإضافة التي قد يقدمها في مجال العلوم الطبية. كما أن موضوع جاذبية المرأة ليس له مكان في الطب حتى أنه لأمر مخيف أن تصدر مثل هذه الدراسة عن خبراء في مجال الصحة الإنجابية.
في هذا الصدد، من العدل القول إن دراسة انتباذ بطانة الرحم من هذا المنظور، لا تساهم بأي شكل في صحة ورفاهية النساء المصابات بالمرض. لذلك، فهي ليست غير ضرورية فحسب، وإنما تهدف للتقليل من أهمية الموضوع. وفي هذا الإطار، تكمن مشكلة العلوم، حيث لا تساهم جميعها في تحسين حياة الناس بشكل مباشر، مما يدفع للتساؤل عن كيفية رسم الحد الفاصل بين العلوم غير الضرورية والعلوم التي لا ينبغي القيام بها على الإطلاق.
أصبح العلماء في القرن الحادي والعشرين حائرين أمام هذا اللغز، خاصة مع تطور التكنولوجيا الفائقة وزيادة الموارد المتاحة، التي تجعلهم يرون بأن جميع الفرضيات تستحق المتابعة. وفي عالم الأبحاث الغربي المتوحش، أعتقد أنه ينبغي علينا التفكير في رسم الخط الفاصل بين العلم الجيد والأفكار السيئة من أجل حماية حقوق وكرامة الإنسان.
في ظل غياب الأخلاق، يصبح العلم سلاحا لنشر الأخطاء. فعلى الرغم من مساهمة حسابات التواصل الاجتماعي على غرار “إيفسيكوغوغل” في كشف حقيقة دراسات فظيعة عبر السخرية منها وجذب الانتباه إليها، إلا أن حقيقة وجود الكثير منها يعدّ أمرا مثيرا للقلق. وعموما، يجب على المجتمع العلمي معالجة هذه المشكلة، كما يجب على الناشرين والمجلات التحلي بمزيد الجدية.
في سياق متصل، يمكن النظر في طريقة اختيار عنوان دراسة حول “العرق ونسبة الذكاء” تحت عنوان “ماذا لو كان الرجال البيض أكثر ذكاءً من أي شخص آخر؟”. يبدو هذا الموضوع مثيرا للجدل، لكنه في الواقع مجرد محاولة يائسة لشرح عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية. وفي هذا الصدد، اقترح بعض العلماء أن الإجابة الممكنة تتمثل ببساطة في أنه على الرغم من عدم اختلافات في الأسس البيولوجية، إلا أنه يوجد بينها اختلافات في القدرات المعرفية. لقد اعتمدوا الحجة القديمة نفسها التي طبقت أيضا لتبرير الفجوة بين الجنسين.
تجدر الإشارة إلى أن أحد تعريفات كلمة “أخلاقي” هو “الحفاظ على مبادئ عالية للسلوك السليم”. ولسائل أن يسأل؛ ألا يجب أن نطمح لإدراج جميع العلوم ضمن هذه الفئة؟ ألا يجب أن يطمح العلماء إلى أن يكونوا أخلاقيين؟ أعتقد أن العلم ليس بعيدا عن التحيز السياسي وليس بمعزل عمن يمارسونه، نظرا لأنه أمر يمارسه الإنسان الذي يعتبر دائما عرضة للأخطاء.
إن ممارسة العلم الذي يسعى لإثبات تفوق أو نقص مجموعات معينة من الناس يجعله مليئا بالأخطاء والتحيزات، التي تصبح ضارة بشكل خاص عند استخدام العلم كأداة لتبريرها. ولا يجب أن نسمح بتحول العلم إلى سلاح بيد أصحاب الأيديولوجيات لنشر معتقداتهم لدى الآخرين، كما لا ينبغي أن يستخدم العلم دون مبالاة للحكم على مجموعة من الناس واعتبارهم أقل شأنا من مجموعة أخرى. علاوة على ذلك، لا ينبغي أن نستخدمه لتسبب بالألم أو إلحاق الأذى بالناس الأبرياء أو لقياس قيمة البعض مقارنة بالبعض الآخر. ولا يجب على الإطلاق التلاعب بالعلم لدعم من يمارسون السياسة.
في الحقيقة، لا يمكن لفرضية علمية قائمة على التحيز أن تقدم علما جيدًا، حتى في حال إجراء البحث بشكل صحيح
بالإضافة إلى ذلك، يجب علينا أن نبذل قصارى جهدنا للسمو بالعلم. لهذا السبب، أعتقد أنه من الضروري أن يتمتع بالأخلاقيات نظرا لأن البوصلة الأخلاقية ستساعدنا على توضيح الخط الفاصل بين العلم الجيد والأفكار السيئة. وفي شأن ذي صلة، كتب يوفال ليفين في مجلة “نيو أتلانتس” أن “التحدي الأخلاقي الذي يمثله العلم الحديث يتمثل في منح الأدوات العلمية ببساطة قوة أولية. في المقابل، يتعين علينا تحديد الطرق الصحيحة لاستخدامها وتحريم الطرق الخاطئة”.
في السياق نفسه، أضاف ليفين بأنه “لا يجب علينا الحكم على العلم الحديث من خلال منتجاته المادية فحسب، وإنما أيضًا من خلال نواياه وتأثيرها على الطريقة التي أصبحت تفكر بها البشرية”. وعموما، ينبغي علينا اليوم أن نحكم على العلم انطلاقا من نواياه. كما يجب أن نستعد لأن نطرح على أنفسنا بعض الأسئلة الصعبة، على غرار التساؤل حول مدى عنصرية فرضية ما أو تكريسها للتحيز الجنسي. وإذا كان الأمر كذلك، ينبغي علينا أن نقرر إذا ما كانت متابعتنا له أمرا ناجحا أو يمكن أن يضيف معرفة قيمة. لقد شهدنا بالفعل كيف أدت مثل هذه التحيزات إلى إضعاف الأسس البيولوجية، بسبب مزاعم وجود نقائص لدى مجموعات معينة. إنه علم رديء نفذه الذكور الأوروبيون خلال القرن الثامن عشر من أجل إرضاء غرورهم.
في الحقيقة، لا يمكن لفرضية علمية قائمة على التحيز أن تقدم علما جيدا، حتى في حال إجراء البحث بشكل صحيح. لذلك، يجدر التساؤل عما إذا كانت تستحق المتابعة. علاوة على ذلك، يعد العلم الذي لا يقيم اعتبارا للأخلاق عبارة عن منحدر خطر. كنتيجة لذلك، ينبغي علينا التفكير في المكان الذي قد يقود المجتمع نحوه. ومن الممكن ألا تكون لدي أجوبة على هذه الأسئلة الصعبة حول العلم والأخلاق، لكنني أعتقد أننا بحاجة إلى أن نكون مستعدين لطرحها. وإذا لم نتحقق من الأمر باستمرار، فقد نكتشف أننا أصبحنا متواطئين مع النوايا غير الأخلاقية للعلم.
المصدر: ميديوم