بين الفينة والأخرى، تظهر “صيحة” جديدة تطوف العالم بأجمعه بفعل وسائل الإعلام وشبكات التواصل، وفي الآونة الأخيرة تصدر “الأكل الصحي” و”الحمية النباتية” قائمة الاهتمامات لدى ملايين الناس، وكانت ثمرة “الأفوكادو” حاضرة في غير واحد من أنظمة الحمية، وعلى أطباق الكثير من المهتمين بأصناف الطعام الصحي والمبشرين به.
وما ساعد هذه الثمرة على الانتشار هو مذاقها الطيب وفوائدها الكثيرة، فهي غنية بفيتامينات “سي – هـ – ك”، ومفيدة للقلب والنظر، ما جعلها مكونًا أساسيًا من مكونات الطعام الأمريكي الذي ينتشر في العالم كله عبر شركات الطعام المعولمة، وأصبحت الأفوكادو علامة من علامات العصرية، وتسوّق على أنها أهم من القمح والشعير وأنه لا غنى عنها.
على أن لهذه الثمرة المفيدة والشهية جانب آخر، ضار ومظلم، على نظامنا البيئي وعلى حقوق المزارعين وجوانب أخرى، دعونا في هذا التقرير نلقي الضوء على أهم الحقائق المعلقة بـ”الذهب الأخضر”، كما بات يُعرف والذي يدر الملايين.
أين يزرع الأفوكادو؟ وكيف انتشر؟
يعتبر أفضل طقس لزراعة ثمرة الأفوكادو هو الطقس الرطب في درجة حرارة 22 درجة مئوية، لذا أفضل مكان لزاعتها، هو ميتشواكان في المكسيك، حيث كانت طعامًا لآلاف السنوات، وعندما احتلت إسبانيا المكسيك ووسط أمريكا، أطلقوا عليها اسم (أجواكيت)، ثم تطورت زراعتها بعد ذلك، خاصةً في وسط وجنوب أمريكا.
في أوائل القرن العشرين، بدأت الثمرة في الانتشار بعد الترويج لها بوصفها “فاكهة أرستقراطية”، وتغير اسمها إلى اسم أكثر رقيًا “أفوكادو”، حتى زادت شعبيتها التجارية حول العالم.
بسبب القرب الجغرافي مع المكسيك، دخلت ثمرة الأفوكادو محلات الولايات المتحدة بكثرة، حتى فرضت واشنطن حظرًا على استيراد الأفوكادو من المكسيك منذ عام 1914 لمنع مجموعة من الحشرات والآفات من الوصول إلى البساتين الأمريكية، ولكن عاودت الثمرة الانتشار بسبب هجرة اللاتينيين إلى أمريكا في الستينيات، حاملين معهم ثمرتهم المفضلة.
في عام 1997، رفعت الولايات المتحدة حظر استيراد الأفوكادو بشكل رسمي، وأدى ازدهار الأفوكادو أو “الذهب الأخضر” في المنطقة، بفعل ارتفاع استهلاك الأمريكيين لهذه الفاكهة، إلى انتشال أجزاء من غرب المكسيك من دائرة الفقر خلال 10 سنوات فقط، إذ توفر المكسيك وحدها نحو 43% من صادرات العالم من الأفوكادو، أغلبه يأتي من ولاية ميتشواكان.
بعدها أصيب الأمريكان بهوس الأفوكادو، ومن ثم نقلوه إلى العالم، فأصبح 80% من أفوكادو ميتشواكان يُصدر إلى الولايات المتحدة التي استوردت وحدها في النصف الأخير من عام 2012 وجزء من 2013، بما يقارب مليار دولار من ميتشواكان، وفي عام 2014 وحدها التهم الأمريكان 4 مليارات ثمرة، وبلغت قيمة الثمرة الواحدة عام 2019 نحو 2.1 دولار بزيادة الضعف عن العام الذي سبقه، لكن مع زيادة في المأساة.
مأساة الأفوكادو
المعادلة هنا ليست معقدة، تسويق مكثف لثمرة “البرستيج” اللذيذة والمفيدة والصحية، يعني تجارةً رابحةً ومالًا وفيرًا، فالآن تكاد وسائل الإعلام تقول إن الأفوكادو هو “إكسير الحياة”، وعلى أساس ذلك يمكن تخيل أن تجار الأفوكادو يسعون لإنتاج أكبر عدد ممكن من المحصول، على حساب الإنسان وبيئته.
هذه الزيادة المهولة على طلب “الذهب الأخضر”، يدفع ثمنها الكائنات والنباتات الأخرى والبيئة الخضراء والمزارعون والمجتمعات التي كانت تعيش عليه، وذلك لأن عملية زراعة الأفوكادو تستهلك كميات ضخمة من المياه.
فمن أجل الحصول على رطل واحد من الأفوكادو، يلزم الأمر 270 لترًا من الماء، ومن أجل حصاد 200 مليون رطل، يستلزم نحو 54 مليار لتر من الماء، فضلًا عن كونه يخضع لظروف زراعية صعبة، من مبيدات حشرية متنوعة وحماية من أشعة الشمس.
أما عن تضرر المحاصيل الزراعية، فإن زراعة الأفوكادو تستنزف المياه التي يمكن أن تستفيد منها النباتات الأخرى، والجهد الضخم بدلًا من الاهتمام بالمحاصيل الأخرى، إضافة لتفضيل المزارعين طمعاً بأرباح تزيد من أي محصول آخر، حيث يرون أن الأفوكادو أكثر فائدة لهم من الذرة والقمح وغيرهما، ومن الغابات نفسها، الأمر الذي يسبب أزمة بيئية واقتصادية في آن واحد.
تغطي الغابات 33% من مساحة المكسيك، لكن في الفترة بين عامي 1995 و2005 فقدت المكسيك 6.9% من هذا الغطاء، بسبب الزراعة المهولة لأشجار الأفوكادو، وعمل أشجار ظليلة فوقها، وقد تسببت إزالة الغابات وزراعة الأفوكادو التي تستلزم ضعف كمية المياه التي تحتاجها الغابات في تقليل نسبة المياه التي تصل إلى ميتشواكان.
أما عن الحيوانات، فيقول بعض الاختصاصيين إن أوراق شجرة الأفوكادو لها أخطار على بعض أنواع الحيوانات، حيث يمكن أن تكون شديدة الضرر أو حتى قاتلة عندما تستهلك أوراقها، كما أن الثمرة نفسها سامة على الطيور في بعض الحالات.
تقول “منظمة السلام الأخضر” في المكسيك: “البشر يعانون أيضًا، بجانب عملية إزاحة الغابات واحتباس الماء، الاستخدام المبالغ في المواد الكيماوية وكمية الأخشاب الكبيرة التي تحتاجها تعبئة هذه الثمرة ونقلها، لها تأثير سيئ على البيئة المحيطة، وعلى صحة السكان”.
حرب الأفوكادو
حقيقة أن بستان الأفوكادو الصغير يدرّ على صاحبه أكثر بكثير مما كان سيحصل عليه من أي محصول آخر، سواء كان قانونيًا أم غير قانوني، استقطبت العصابات وتجار المخدرات الذين روّعوا قوات الشرطة وعلقوا جثث ضحاياهم من أعلى الجسور.
لهذا اضطر بعض المزارعين إلى حمل السلاح وإقامة نقاط تفتيش حول مزارع الأفوكادو، حتى يحموا أنفسهم من العصابات ومنظمات تهريب المخدرات التي تلقب بـ”فرسان الهيكل”، الذين اختطفوا المزارعين لابتزاز مالكي المزارع لإعطائهم أرباح الثمرة الذهبية، ويقتلون من يرفض الدفع أو أحد أفراد عائلاتهم، كل ذلك بسبب الأفوكادو!
وفي الآونة الأخيرة، تعمل مجموعات الجريمة المنظمة في المكسيك، على سرقة شاحنات تحمل فاكهة الأفوكادو من المزارع إلى الأسواق والمصانع، حيث ذكرت مصادر رسمية أنه يسرق يوميًا ما يصل إلى 4 شاحنات محملة بهذه الثمار في ميتشواكان، حيث تشهد هذه الولاية أعمال عنف لا تتوقف.
وأصبحت سرقات الأفوكادو في ولاية ميتشواكان واسعة إلى درجة أن مصانع التغليف وعدت بدفع أجر للمزارعين يقدر بنحو 15 بيزو (78 سنتًا)، تعويضًا عن كل كيلوغرام يُسرق منهم في أثناء النقل، ومع ازدياد حدة العنف في الولاية، تشكلت مجموعات للدفاع عن النفس وقوات من الشرطة المجتمعية، بينما سعت المجتمعات المحلية في المنطقة إلى الدفاع عن نفسها من الجريمة المنظمة فيها.
لم تتوقف أحداث العنف هذه عند المزراعين المكسيكيين فقط، بل طالت الحكومة الأمريكية في منتصف أغسطس الماضي، عندما تعرض فريق من مفتشي وزارة الزراعة الأمريكية لتهديد مباشر في بلدة زيراكواريتيرو التي تقع بولاية ميتشواكان المكسيكية، وأعلنت السلطات المحلية أن عصابة سرقت الشاحنة التي كان يستقلها المفتشون تحت تهديد السلاح.
وبعد هذا الحادث وجهت وزارة الزراعة الأمريكية خطابًا حذرت فيه من تعليق أنشطة برنامج فحص صحة الحيوان والنبات في المكسيك إذا تكرر حدوث خرق أمني أو ثبت وجود تهديد لأفراد البرنامج، كما يمكن لمثل هذه الخطوة أن تمنع تصدير شحنات الأفوكادو إلى الولايات المتحدة وتدمّر الصناعة التي تزود المستهلكين الأمريكيين المتعطشين للفاكهة المكسيكية.
حادثة تاريخية مشابهة.. أزمة البطاطا
تعرضت أيرلندا لمجاعة غذائية أطلق عليها مجاعة البطاطس الأيرلندية التي حدثت خلال الفترة بين 1845 و1852، فبعد أن دخلت البطاطس إلى أيرلندا من أمريكا الجنوبية، أصبحت في أواخر القرن السابع عشر طعامًا شائعًا هناك – تمامًا كالأفوكادو اليوم – ثم تحولت إلى طعام أساسي للفقراء خصوصًا في فصل الشتاء، فكان نحو 33% من الإنتاج الزراعي للبطاطس أي ما يقدر بـ5 ملايين طن يُستخدم كغذاء.
أدى الاعتماد على زراعة البطاطس الكبيرة للاستفادة من بيعها فقط، وإهمال المحاصيل الأخرى في أيرلندا إلى كارثة غذائية بعد أن أتلفت آفة اللفحة المتأخرة الزراعية محاصيل البطاطس، ولم تكن أيرلندا البلاد الوحيدة التي أصابت محاصيلها هذه الآفة بل أصيبت دول أوروبية أخرى بها لكن لم يحدث بها مجاعة، نظرًا لعدم اعتمادهم على البطاطس كمصدر أساسي للغذاء بالإضافة لانعدام الظروف والأسباب الأخرى التي قادت إلى وقوعها في أيرلندا.
بلغ معدل استهلاك البطاطس للفرد في نهاية القرن التاسع عشر أربعة أرطال في اليوم وكان الأعلى عالميًا
بحسب المؤرخين، تسببت هذه المجاعة في وفاة مليون إنسان، وهجرة مليون آخر من أيرلندا، فانخفضت نسبة السكان بنحو 20%-25% في الجزيرة، وفي أثناء هذه المجاعة استمر دفع الإيجارات والضرائب والتصدير من المزارعين، وهنا تغير المشهد السكاني والسياسي والثقافي في أيرلندا إلى الأبد وأصبحت نقطة تاريخية فاصلة في تاريخها.
وبسبب تبعية إيرلندا لبريطانيا، ألقى الأيرلنديون اللوم على الحكومة البريطانية، حيث شعرو أنها تقاعست عن الإغاثة، حتى تمرد الشعب الأيرلندي على المملكة العظمى، وتم تدارك الأمر، لكن المزارعين عادوا إلى التركيز على البطاطس، حتى بلغ معدل الاستهلاك للفرد في نهاية القرن التاسع عشر أربعة أرطال في اليوم وكان الأعلى عالميًا.
ختامًا، قد لا يدرك أغلبنا أن بعض الصيحات على مواقع الإعلام كالهوس الغربي والعالمي بثمرة الأفوكادو، لها آثارًا على حياة الناس والبيئة ومجتمع الحيوان، أو من شأنها أن تقضي على معالم أخرى للطبيعة، من أجل “وجبة صحية” تلتقط لها صورة لتنشر على إنستغرام.
ولذلك الأمر، تناول هذا الأمر الكثير من الباحثين والمختصين وحتى المنتجين، كـ”نتفليكس” التي أنتجت فيلمًا عن أزمة الأفوكادو، ودعا بعضهم إلى مقاطعة هذه الثمرة – والمكسيكية بالأخص – التي جلبت كل هذه المشكلات، لأنها تجلب الأرباح للعصابات، والأهم حقنًا للدماء، فيما أعلنت بعض المطاعم منع هذه الثمرة في مطابخها، بسبب الخوف من ملف الاحتباس الحراري.