“لا أتوقع الذهاب لمعرض الكتاب هذا العام، فالزخم الذي كان يخيم على أجواء تلك الفعاليات التي كنا ننتظرها من العام للعام لم يعد موجودًا.. أشعر أن قيمته تباعدت مع تباعد مقره على أطراف القاهرة”، كان هذا تعليق أسماء، الأكاديمية في مركز البحوث المصري بشأن احتمالية مشاركتها في معرض القاهرة الدولي للكتاب هذا العام.
للعام الثاني على التوالي يقام المعرض الأقدم في المنطقة على أطراف القاهرة، في مقره الجديد بأرض المعارض بالتجمع الخامس، في الفترة من 22 من يناير الحاليّ وحتى 4 من فبراير القادم، بعدما كان بمدينة نصر وسط العاصمة، بمشاركة 38 دولة عربية وأجنبية، (12 دولة إفريقية، و11 دولة أوروبية و13 دولة آسيوية، ودولتين من أمريكا الشمالية).
الدورة الـ51 من المعرض الذي يأتي تحت شعار “مصر إفريقيا.. ثقافة التنوع” الذي تحل فيه السنغال ضيف شرف، في سابقة هي الأولى من نوعها لدولة إفريقية تشارك كضيف شرف المعرض منذ افتتاحه، يطغى عليه البُعد السياسي الممتزج بالإطار الثقافي وهو ما تترجمة حزمة من الشواهد والفعاليات التي يتضمنها على مدار أسبوعين كاملين.
دشن معرض القاهرة الدولي للكتاب دورته الأولى عام 1969 بأرض المعارض الدولية بالجزيرة
ويشارك في المعرض هذا العام 900 دار نشر من بينهم 398 دار نشر مصرية، 255 ناشرًا عربيًا، و41 تاجرًا من سور الأزبكية، و99 توكيلًا، إضافة إلى ما يقرب من 929 فعالية ثقافية وفنية، و3502 من المشاركين المصريين والعرب والأجانب، فيما تشارك بعض الدول لأول مرة.
المعرض يستضيف في دورته الحاليّة عددًا من الشخصيات الثقافية العامة من عدد من الدول العربية والإفريقية والأوروبية، على رأسهم ، بيروني رحيم “زيمبابوي” وخوسيه مورينو “إسبانيا” وولي كيندر “بوركينا فاسو” وهيدي جودرتيش “أمريكا” وطارق الطيب “السودان” وضياء الأسدي “العراق” وعيسى الأنصاري “الكويت” وحاتم الصكر “الإمارات” وشربل داغر “لبنان” وتركي الحمد “السعودية” ومحمد الأشعرى “المغرب”، ومحمد أخطانا “موريتانيا” وكانديس ماما “جنوب إفريقيا”، والمنصف الوهابي “تونس”، ومراد السوداني “فلسطين”.
يذكر أن معرض القاهرة الدولي للكتاب دشن دورته الأولى عام 1969 بأرض المعارض الدولية بالجزيرة، مكان دار الأوبرا حاليًّا قبل بنائها، حتى عام 1983، ثم نُقل في دورته السادسة عشر، عام 1984، إلى أرض المعارض الدولية بمدينة نصر ليستوعب عددًا أكبر من دور النشر والزوار، على مساحته البالغة 700 ألف متر مربع، ثم نُقل مرة أخرى هذا العام إلى مركز مصر للمعارض الدولية بالتجمع الخامس على مساحة 311 ألف متر مربع.
جمال حمدان.. شخصية هذا العام
تم اختيار المفكر والجغرافي الراحل الدكتور جمال حمدان، شخصية عام المعرض، ويشار إلى أن الهيئة العامة المصرية للكتاب، بالتعاون مع دار الهلال نشرت موسوعة “شخصية مصر” للكاتب الراحل، التي تضم 4 أجزاء، وذلك من أجل أن عرضها في مكتبة الأسرة بالمعرض.
اختيار حمدان شخصية هذا العام، أثار جدلًا واسعًا بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة لما يعرف عنه من آراء سياسية معارضة لسياسات الحكم في مصر بصفة عامة والحكم العسكري بصورة خاصة، غير أن البعض ذهب إلى أن اختياره جاء مجاملةً للسيسي الذي أعرب أكثر من مرة عن إعجابه بكتاباته وأنه يقرأه له.
النشطاء شاركوا مقتطفات من كتابات جمال حمدان يهاجم فيها “العواصم الجديدة” ويعتبرها سياسات خطأ فادح ترتكبه الحكومات، ومقولته “لقد تغيرت مصر الحديثة في جميع جوانب حياتها، إلا نظام الحكم الاستبدادي المطلق”، فيما سخر البعض قائلًا: “لو كان حمدان بيننا الآن لسُجن بسبب آرائه”.
ومن أشهر الأقوال المأثورة عن حمدان: “بقدر ما كانت مصر تقليديًا ومن البداية إلى النهاية شعبًا غير محارب في الخارج، كانت مجتمعًا مدنيًا يحكمه العسكريون كأمر معتاد في الداخل. وبالتالي كانت وظيفة الجيش هي الحكم أكثر من الحرب، ووظيفة الشعب هي التبعية أكثر من الحكم”.
ومنها: “وفي ظل هذا الوضع الشاذ المقلوب: كثيرًا ما كان الحكم الغاصب يحل مشكلة الأخطار الخارجية والغزو بالحل السياسي، وأخطار الحكم الداخلية بالحل العسكري، أي أنه كان يمارس الحل السياسي مع الأعداء والغزاة في الخارج والحل العسكري مع الشعب في الداخل، فكانت دولة الطغيان بوجه عام استسلامية أمام الغزاة، بوليسية على الشعب”.
بجانب مقولته الشهيرة: “ومن المحزن أو المضحك أن كثيرًا من أصحاب وصانعي الانقلابات العسكرية الطفيلية في مصر يصرّ إصرارًا واستكبارًا (أو غفلة واستهتارًا) على أن ينعتها بالثورة، الثورة الشعبية وإلا فلا، كل انقلاب عند أصحابه هو ثورة”، و”لقد تغيرت مصر الحديثة في جميع جوانب حياتها، إلا نظام الحكم الاستبدادي المطلق. والمؤكد أن مصر المعاصرة لن تتغير جذريًا ولن تتطور إلى دولة عصرية وشعب حر إلا حين تدفن الفرعونية السياسية مع آخر بقايا الحضارة الفرعونية الميتة”.
وقدّم حمدان المولود في 1928 للمكتبة العربية 29 كتابًا وعشرات الأبحاث، وعثر يوم 17 من أبريل/نيسان 1993 على جثته ملقاة في بيته ونصفها الأسفل محترق، وظن الجميع أن الواقعة سببها تسرب غاز، بينما أكد مقربون منه أن عدة مؤشرات تؤكد أن الحادثة وقعت بفعل فاعل، خاصة في ظل اختفاء أصول بعض مؤلفاته عن اليهود، ما جعل البعض يرجحون ضلوع الموساد الإسرائيلي في عملية اغتياله.
ونُقل عن شقيق حمدان قوله إن الأسرة سمعت بسفر مفاجئ لطباخ جمال حمدان ثم اختفائه نهائيًا، مثلما تأكد أن رجلًا وامرأةً من الأجانب سكنا فوق شقته لشهرين ونصف، واختفيا بعد مقتله، وقد عُرف عنه قدرته الكبيرة على فهم الأبعاد الإستراتيجية للقضايا الكبرى، ووظف تخصصه في الجغرافيا في فهم حركية التاريخ وتطورات الأحداث العالمية، وسبق له أن تنبأ عام 1968 بانهيار الاتحاد السوفياتي بعد دراسات وافية.
منع وتضييق
شهد المعرض في دورته الحاليّة غياب بعض دور النشر التي اعتادت المشاركة طيلة السنوات الماضية، فيما تعددت مبررات الغياب، بين دوافع أمنية وأخرى سياسية، فيما جاءت الدوافع المادية في المقدمة في ظل زيادة أسعار إيجارات المساحات المخصصة لدور النشر في المعرض.
بدوره قال محمود لطفي المؤسس المشارك في مكتبات “تنمية”، إن مدير المعرض، إسلام بيومي، أخبره سابقًا برفض المشاركة في دورة 2019 لعدم ورود الموافقة الأمنية، وأوضح لطفي أن بيومي قال له مؤخرًا: “إن شاء الله خير يا محمود..هسأل وأقولك”، قاصدًا الموافقة الأمنية على مشاركة “تنمية” في دورة 2020، بحسب محمود.
وأوضح لطفي في منشور له على صفحته على فيس بوك قبل شهر أنه تواصل مع مدير معرض القاهرة، وكان رده أنه منتظر رد الأمن بخصوص مشاركتنا، وكان الرد في السنتين بالمنع، ما يعني أن الأمر له بُعد سياسي أمني بعيدًا عن المبررات التي ساقتها إدارة المعرض
قال هيثم الحاج علي رئيس الهيئة العامة للكتاب (الجهة المنظمة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب)، في تصريحات لـ”مدى مصر” إن الشروط والقواعد المعلنة للاشتراك لا تنطبق على مكتبة تنمية الممنوعة من المشاركة بدورة المعرض التي ستُقام في يناير المقبل، بينما نفى مدير المعرض أن يكون المنع لأسباب أمنية.
قلة المساحة في المعرض الجديد مقارنة بالقديم قلصت حجم الدور المشاركة، وهو ما انعكس على أسعار إيجار المتر الواحد
هذا بجانب قلة المساحة المخصصة للدار الواحدة عن المساحة التي تطلبها “تنمية” وهو ما علق عليه مدير الدار بقوله إنها كانت تشارك في المعرض بمساحات كبيرة، كما أن الأمر قابل للتفاوض، وكانوا يمكنهم القبول بمساحة أصغر إذا عُرض عليهم ذلك، مُشيرًا إلى أن دخول مكتبته قائمة الانتظار كان في الأصل بسبب رفض المعرض لمشاركتهم في العام الماضي لأول مرة بعدما شاركوا عدة مرات في السنوات السابقة، مؤكدًا أنهم لم يُبلغوا بنقص أوراق من قِبل إدارة المعرض.
وفي سياق متصل، كشف مصدر داخل “بنك المعلومات العربي” إحدى الدور المتخصصة في النشر الإلكتروني والمشاركة بانتظام في المعرض، أنهم رفضوا المشاركة في النسخة الحاليّة من المعرض للأسعار الباهظة التي باتت عليها أماكن استئجار الإقامة داخل مركز المؤتمرات، المقر الجديد.
المصدر في حديثه لـ”نون بوست” أشار إلى أن قلة المساحة في المعرض الجديد مقارنة بالقديم قلصت حجم الدور المشاركة، وهو ما انعكس على أسعار إيجار المتر الواحد، فبعدما كان لا يتجاوز 800 جنيه قفز إلى 1200 جنيه للدار وضعف هذا الرقم لشركات الكمبيوتر والاتصالات، الأمر الذي يجعل المشاركة مغامرة مادية غير محسوبة.
وأضاف أن الإقبال في ظل تباعد المكان لن تكون بالشكل المتوقع، هذا بخلاف تراجع حركة البيع عمومًا بسبب زيادة أسعار الكتب والمؤلفات عن السنوات السابقة، وهو ما يجعل تعويض المبلغ المنفق على الإيجارات والمصروفات الأخرى أمرًا صعبًا، ومن ثم كان القرار عدم المشاركة بعدما اعتدنا سنوات عليها.. مختممًا حديثه قائلًا: “قرار صعب على قلوبنا لكن ما باليد حيلة”.
امتزاج الثقافة بالسياسة
مشاركة السنغال كضيف شرف للدورة الحاليّة وهي المرة الأولى لدولة من إفريقيا السمراء تشارك كضيف شرف في معرض القاهرة، إذ اقتصرت المشاركات الإفريقية كضيف من دول شمال إفريقيا الناطقة بالعربية، جاءت مغلفة بالصبغة السياسية، تزامنًا مع رئاسة مصر للاتحاد الإفريقي عام 2019، واهتمام القاهرة بضرورة الانفتاح على الثقافات الإفريقية بعد جفاء دام طويلًا أسفر عن تراجع مكانة مصر القارية.
ومن المقرر أن تشهدت أروقة قاعة جمال حمدان مجموعة من الندوات، تنقسم إلى ثلاثة محاور: الأول منها يتناول “مصر إفريقيا ثقافة التنوع” انطلاقًا من اتفاقية حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي- اليونسكو 2005، وأهم ندواته “الدبلوماسية الثقافية الأفروعربية والثقافة الإفريقية وتساؤلات الهوية، وإطلاق مشروع “رؤية والاستثمار والتنمية في إفريقيا.. رؤية مستقبلية”، والموارد الطبيعية وآفاق التنمية والتصنيع في إفريقيا، والأمن في إفريقيا حتمية التعاون، التنوع الثقافي للعلاقات الإفريقية الصينية تاريخ ومستقبل والأدب الإفريقي والتعدد اللغوي وثوابت الهوية.
تراجع دور مصر الإفريقي لحساب قوى أخرى، بجانب ما وصلت إليه مفاوضات سد النهضة من تعثر في ضوء تغير قبلة القاهرة نحو أوروبا ودول الخليج على حساب عمقها الجنوبي، كان عاملًا مهمًا في مساعي الجانب المصري استعادة جزءًا من الريادة المفقودة جراء خريطة السياسة الخارجية الجديدة.
من الواضح أن اختيار السنغال وشعار المعرض هذا العام ليس من قبيل المصادفة، ولم يكن اختيارًا عشوائيًا، وإنما يأتي في إطار توظيف القاهرة لقوتها الناعمة من أجل فتح صفحة جديدة في العلاقات مع الدول الإفريقية بعد الضربات الموجعة التي تلقتها خلال السنوات الماضية.
ومع مرور الوقت تحول معرض القاهرة للكتاب من محفل ثقافي ينتظره عامة الشعب قبل النخبة إلى إحدى أدوات تنفيذ الأجندة السياسية للنظام الحاكم، وهو ما قد يفقد المعرض الأكبر والأقدم في المنطقة بريقه الذي ظل على مدار عقود طويلة مضت قبلة للناشرين والمتابعين للشأن الثقافي من مختلف دول العالم.